12-يوليو-2018

حمى المونديال أصابت الجميع ولم يستطع أحد الوقوف في وجهها (أ.ف.ب)

"بحاجة إلى صديق لمدة شهر لا يتابع مباريات كرة القدم ولا يهتم بشؤونها"، قرأت هذا المنشورعلى صفحة أحد الأصدقاء على موقع فيسبوك، قبيل انطلاقة كأس العالم. لقي المنشور تفاعلاً من المتابعين، فاتفق معه البعض على كون العرس الكروي هذا، لا يعنيهم من قريب أو من بعيد. ومع ذلك وبعد انطلاثة المونديال، لا تكاد تُلعب مباراة في مونديال روسيا، إلا وأرى بعدها منشوراً للصديق نفسه المذكور أعلاه، يعلق فيه على إحدى اللقطات، أو يجري إسقاطاً سياسياً أو ثقافياً ساخراً، والمتابعين نفسهم يتفاعلون معه هذه المرة بإيجابية تجاه كرة القدم.

كرة القدم ليست اللعبة الشعبية الأولى فحسب، بل إنها الفكرة الأكثر انتشارًا، واللغة التي يفهمها أكبر عدد من سكان الكوكب

يبدو إذن أن حمى المونديال أصابت الجميع، والتسونامي القادم من روسيا، لم يستطع شيء أن يقف في وجهه. متابعة صفحات مواقع التواصل ستظهر لك أن كرة القدم ليست اللعبة الشعبية الأولى فحسب، فهذا أمر مفروغ منه، بل إنها الفكرة الأكثر انتشاراً، واللغة التي يفهمها أكبر عدد ممكن من سكان كوكب الأرض.

اقرأ/ي أيضًا: كرة القدم.. دينٌ ثانٍ في الشرق الأوسط

من كان يظن أن كرة القدم هي مجرد 22 لاعباً يركضون وراء كرة واحدة ويركلونها، ويتساءل بطريقة ساخراً: "لماذا لا يحصل على كل لاعب على كرة وتتوقف هذه الجلبة؟"، اكتشف في روسيا 2018 أن الأمر ليس بهذه البساطة، وأن كرة القدم هي بالإضافة إلى جماليتها ووفنياتها وبراعة اللاعبين في تسجيل الأهداف، وفي الذود عن مرماهم، وقتاليتهم العالية في سبيل الوصول الى الانتصار؛ فهي أيضًا تحمل جوانباً إنسانية وعاطفية وثقافية واجتماعية وما إلى ذلك، وبإمكانها أن تأسر القلوب.

مباريات كرة القدم تبدأ قبل انطلاقتها بكثير، من خلال السوشيال ميديا، فتظهر الوسوم والملصقات والنكات التي تعلّي من شأن هذا المنتخب وتحط من شأن ذاك. وتستمر التعليقات خلال المباراة وبعدها. في لبنان مثلاً انقسم جمهور كل من ألمانيا والبرازيل، وأطلق كل منهم حملة إعلامية كبيرة تسابقوا من خلالها على الأفكار المبتكرة، وانتشر بشكل خاص وسمي "#مش_قاريينكم" و"#اشحنوا_الكأس_عالريو".

 ليس بالضرورة أن يكون أحدنا متابعاً شغوفاً بكرة القدم، وملمّاً بتفاصيلها وجزئياتها، لكي يجد نفسه داخل معمعة المونديال، فيشارك الصور والملصقات ويتداول النكات وما إلى ذلك. وهذا ما يميز المونديال عن المسابقات الرياضية الأخرى.

لم يصل مونديال روسيا إلى المستوى الفني المطلوب: عدم تأهل هولندا وإيطاليا، والخروج المبكر لمعظم الفرق الكبرى، وركون معظم المدربين إلى تكتيكات دفاعية وتضييق المساحات، والخوف من الخسارة، فهذه كلها عوامل ساهمت في تدني مستوى بعض المباريات، وتولّد شعور بالملل لدى بعض المتابعين، خاصة أولئك الذين اعتادوا على النسق العالي في الدوريات الأوروبية.

إلا أن الأجواء المحيطة بالمباريات، وقيام المتابعين باصطياد اللقطات والطرائف ونقلها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك انتشار أخبار عن حيوات اللاعبين الخاصة وطفولتهم؛ كل ذلك ساهم في ازدياد جاذبية المونديال، وتحوّله إلى مادة يتكلم عنها الجميع كل الوقت بلا كلل أو ملل. بإمكان أخبار المونديال أن تبقى "الترند" رقم واحد لمدة ثلاثين يوماً. المونديال لا يفقد بهاءه مع الوقت، بل العكس، ينغمس المشاهدون فيه أكثر فأكثر مع تقدم المباريات.

 ليس بالضرورة أن يكون أحدنا متابعاً شغوفاً بكرة القدم، وملمّاً بتفاصيلها وجزئياتها، لكي يجد نفسه داخل معمعة المونديال

في مباراة كرواتيا والدانمارك في دور الـ16، حصل منتخب كرواتيا على ركلة جزاء في الشوط الإضافي الثاني، تصدّى لها ببراعة الحارس كاسبر شمايكل، تحت أنظار والده بيتر، أسطورة الحراسة مع مانشستر يونايتد في التسعينات. تفاعل الوالد مع تصدي ابنه أيضاً لركلتي ترجيح لاحقاً في المباراة، وحزنه البالغ بعد فشل الدنمارك في تخظي الكروات. تداول الناشطون مقطع الفيديو، وتفاعلوا معه، وحتى أولئك الذي لا يعرفون شمايكل الأب.

اقرأ/ي أيضًا: لاعبون دخلوا التاريخ دون علمهم.. قائمة كاملة بالأهداف المئوية في كأس العالم

في مباراة روسيا المضيفة ضد كرواتيا في ربع النهائي، ظهرت الرئيسة كوليندا كيراتوفيتش في المدرجات لمؤازرة منتخب بلادها، وقد لفتت الأنظار إليها من خلال ردات فعلها وتفاعلها مع أهداف الكرواتيين والقيام بالرقص بعد التأهل، في صورة غير مألوفة لرؤساء الجمهوريات.

بعد المباراة اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بصور كوليندا ولقطاتها، وقارنها البعض بحكامنا العرب، وانتشرت التعليقات الساخرة. طبعاً لا يخلو الأمر من المبالغات التي صورتها على أنها المنقذة التي وضعت كرواتيا على سلم المجد، مع العلم أن بعض التسريبات أشارت إلى أن كوليندا قد استخدمت المونديال وبالغت بردات فعلها، في محاولة منها لتلميع صورتها المهتزة بالأساس.

السخرية من وقوع نيمار المتكرر على الأرض، والتعاطف مع المشجع المكسيكي الذي فقد عائلته في حادث سير، ونصيحة الأطباء له بحضور المونديال ما قد يساعده على تجاوز المحنة، ومن ثم تلقيه رسالة نصية من الحارس أوتشوا أهداه من خلالها الفوز على ألمانيا، الشريطة الحمراء التي أعطاها المراسل لميسي فوضعها في جوربه وسجل هدفاً ضد نيجيريا، وانتشار قصة طفولة لوكاكو المعذّبة، وإصراره على التتويج باللقب ليهديه لوالدته التي كانت تتظاهر بالشبع كي تطعمه حصتها، وعكاز المدرب الأوروغواني أوسكار تاباريز.

كذلك دموع خاميس رودريغيز في المدرج بعد الخسارة من إنجلترا، ودموع الأوروغواني خيمينيز خلال المباراة بعد تأكده من استحالة العودة بالنتيجة، والرهان على تويتر بين ديفيد بيكهام وزلاتان إبراهيموفيتش على من سيفوز بمباراة فريقيهما، إضافة إلى عشرات اللقطات الأخرى، جميعها أعطت رونقاً إضافياً للبطولة، وأظهرت وجوهاً أخرى لكرة القدم، كرة القدم كأسلوب حياة، الرياضة التي تدهشك دائماً فتأخذك -إضافة إلى الشغف بالمباراة وتفاصيلها والتفاعل مع الربح والخسارة- إلى مواقف ومحطات تضحكك أو تبكيك، تهزك من الداخل فتلامس شغاف قلبك.

في الأسبوع الأخير من المونديال، وصلت قصة الأطفال التايلانديين ومدربهم العالقين في أحد الكهوف السحيقة بفعل السيول إلى خاتمتها السعيدة، وتمكنت الجهود التي بذلها الغظاسون والفنيون والمتطوعون من إنقاذ الأطفال، الذين يشكلون فريق كرة قدم، بعد أيام طويلة من المعاناة مع البرد والجوع والخوف.

إضافة إلى الشغف بالمباريات وتفاصيلها ونتائجها، تأخذنا كرة القدم إلى مواقف تضحك أو تبكي، تهزنا في الداخل فتلامس شغاف قلوبنا

وقد وجّه رئيس الفيفا دعوة للفريق لحضور نهائي المونديال، تنفيذاً لوعد قد قطعه لهم مع بداية الأزمة. وسيضفي تواجد الأطفال في استاد لوزينكسي الأحد القادم رونقاً جميلاً للمباراة، وبعداً إنسانياً عاطفياً لها، لو أنهم حضروا، لتثبت كرة القدم أنها أكثر من مجرد لعبة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كأس العالم لكرة القدم.. أهم الحقائق والأرقام في تاريخ البطولة

جوائز مونديال 2018.. كم سيحصد بطل العالم؟