14-سبتمبر-2022
غلاف المجموعة القصصية "موكب الظلال"

غلاف المجموعة القصصية "موكب الظلال"

"موكب الظلال" (تنمية/ 2020، ترجمة مارك جمال) للكاتب الإسباني خوليان ريوس، سيرة بلدة إسبانية بائسة ومضجرة لا يبدو أن فيها ما يُثير الاهتمام، ويُبدِّد ضجر ورتابة حياة سكانها، سوى الموت الذي يمنحهم وقوعه بين وقت وآخر، وللمفارقة، ما ينشغلون به.

تبدو بلدة "تاموغا" التي تسرد قصص المجموعة أجزاءً من سيرتها مكانًا زائلًا طالما أنها تصلح للموت أكثر مما تصلح للحياة

إنه، بعبارة أخرى، ما يجمعهم وينبّههم إلى وجودهم ويذكّرهم بأنهم أحياء وليسوا وحدهم في هذه البلدة التي لا تصلح لشيء سوى الموت. أو هذا هو، على الأقل، ما توحي به قصص كتاب ريوس الذي يبدو مجموعة أو متتالية قصصية أحيانًا، وعملًا روائيًا في أحيان أخرى.

تُروى سيرة هذه البلدة، واسمها "تاموغا"، من خلال تفاصيل الأيام واللحظات الأخيرة من حياة بعض سكانها. وهذه التفاصيل هي متن قصص ريوس التي تتشارك موضوعًا واحدًا هو الموت، الذي نتعرف إلى شخصياتها وقد بلغته أو تقف على مشارفه. وهي شخصيات عاشت حياتها، أو الجزء الأكبر منها، في ظل الوحدة التي نجد في قول أحد سكان البلدة، خلال عودته من جنازة بطلة إحدى قصص المجموعة، ما يساعدنا على تخيل شكلها وتأثيرها: "إن دونيا ساكرامِنتو أندريني سوف تجد من الرفقة في القبر أكثر كثيرًا مما وجدت طوال المئة عام الماضية" (ص 46).

مع ذلك، لا تقدّم القصص سيرة مكتملة للبلدة وإنما شذرات متفرقة تقف على أحوالها في زمن معيّن يبدو أنه الزمن الذي يسبق زوالها. فالبلدة، كما تظهر في قصص ريوس، تبدو مكانًا زائلًا طالما أنها تصلح للموت أكثر مما تصلح للحياة، التي لن نصادف ما يدل على حضورها، على امتداد أكثر من 130 صفحة، إلا فيما ندر. فما نحن بإزائه، عند قراءة العمل، هو حديث متواصل عن الموت الذي يفتتح قصصًا، ويختتم أخرى، ويربطها ببعضها البعض.

وما يلفت الانتباه في هذا الحديث، عدا عن بساطته، هو أن الموت يحضر فيه متخفّفًا مما يُلصق به عادةً من صفات واستعارات تمنحه معان فلسفية أو شعرية تجمّله أحيانًا، وتفعل العكس تمامًا في أحيان أخرى. هكذا، يكون بوسعنا القول إن قصص ريوس ليست قصصًا فلسفية، أو تأملات حول معنى الموت، أو حتى محاولة لتفسيره وفهمه.

خوليان ريوس

إنها، ببساطة، حديث عن مصير الإنسان سواءً كان الموت طبيعيًا أو مفتعلًا. كما أنها رثاءٌ مبكّر لتاموغا نفسها، أو محاولة غير مباشرة لنعيها، ما يعني أن الموت أيضًا هو مصير هذه البلدة التي يقول الراوي في وصف أحوالها: "ما دام العيش هنا عسيرًا في هذه البلدة، فهي أنسب للموت من أي مكان سواها" (ص 35).

تختتم هذه العبارة أولى قصص مجموعة الكاتب الإسباني، الذي يروي فيها حكاية رجل على مشارف الخمسين من عمره ينزل في تاموغا بعدما رأى، من نافذة القطار، أنها بلدة حزينة بالقدر الذي يسمح له بتحقيق هدفه. وبعد عدة أيام قضاها الرجل في البلدة، عُثر عليه ميتًا، الأحرى منتحرًا، على أحد شواطئها.

نقرأ في قصة أخرى حكاية عجوز أمضت حياتها، بعد انتحار زوجها المفاجئ على فراشهما، وبمسدس والدها أيضًا، في تأمل صوره وصور أفراد عائلتها الموتى، ثم استحضار ظلالهم ليشاركوها عزلتها التي انتهت بموتها محترقةً داخل غرفتها. وفي ثالث قصص المجموعة، وأشدها غرابة، يروي لنا ريوس حكاية أبله اغتصب العجوز التي آوته في منزلها وفقدت حياتها تحت ثقل جسده. والملفت في هذه القصة أن العجوز قد تكون والدته التي وضعته طفلًا رضيعًا أمام دار الأيتام في البلدة.

لا تختلف بقية قصص المجموعة عن القصص السابقة. فباستثناء قصة واحدة يعود بطلها من الموت بعد أن كاد يبلغه بسبب أزمة قلبية، تنتهي جميع القصص الأخرى بموت بطلها أو إحدى شخصياتها. إذ نقرأ، على سبيل المثال، عن خياط يختطفه الفاشيون ثم يقتلونه، بطريقة هزلية بقدر ما هي مؤلمة، لأن شقيقه شيوعي. بينما نقرأ في قصة أخرى عن انتقام ابن الخياط من أحد قتلة والده. ثم نقرأ عن صيدلاني يقتل زوجته وابن شقيقته بعد خيانتهما له.

يكتب ريوس قصصًا قصيرة وبسيطة تتشارك موضوعًا واحدًا هو الموت الذي يمتد على طول المجموعة

يكتب إذًا خوليان ريوس قصصًا بسيطة تتشارك موضوعًا واحدًا هو الموت، الذي يمتد على طول المجموعة فيجعل منها مقبرة. ومع أن القصص تبدو مجرد حكايات لا غاية منها إلا الحكي، إلا أن العلاقة بين الموت والبلدة، وهوس سكانها به وموقعه في حياتهم، يوحي بأنها تحاول قول شيء ما يبقى، لسبب أو لآخر، مخفيًا لا يحضر إلا من خلال الإشارة إليه.

ولعل هذا ما يحيل إليه قول الراوي في أولى قصص المجموعة: "القصة لا تستحق أن تروى ما لم تعجز الكلمات عن استيفاء معناها" (صفحة 17).