19-يناير-2020

موريس بلانشو (1907 - 2003)

يدعونا الفيلسوف الفرنسيّ موريس بلانشو (1907 - 2003) في مؤلَّفه "كتابة الفاجعة" (دار توبقال 2019، ترجمة عز الدين الشنتوف)، إلى التمييز بين الفاجعة بما هي حدث، والكتابة عن الفاجعة. يُفسّر بلانشو الأمر بأنّ الكتابة عن الفاجعة لا بدّ أن تكون نتيجتها مختلفة، وأن تتّسم بخصوصية معيّنة كونها معرّضة لإعادة الصياغة وفقًا لمتطلّبات الجنس الكتابيّ الذي يتمّ من خلاله استحضارها، ويُبنى معناها عبره أيضًا. فالفاجعة، كحدث وواقعة معيّنة، تفقد معناها عند الكتابة عنها طالما أنّ الكتابة، كفعل وممارسة، تُحيلها إلى حمولة لغوية تُضفي عليها طابًعا شعريًا وآخر جماليًا أيضًا.

الكتابة عن الفاجعة ليست هي ذاتها كتابة الفاجعة عند موريس بلانشو الذي يرى أنّ الأخيرة مفهومًا قائمًا بنفسه، يُجرِّد الفاجعة من معناها المعتاد والسائد. إنّها دعوة جديدة إذًا للتمييز بين ممارسات غامضة مهما حاولت إثبات العكس، لا سيما أنّ كتابة الفاجعة تشترط أن تكون فعلًا غامضًا كما يوضّح بلانشو الذي وضع كتابًا يميل نحو التنظير لكتابة الفاجعة، وليس للحديث عنها فقط.

يرى موريس بلانشو أنّ الفاجعة هي فعليًا ما لا يُمكن تحديد موقعه في المستقبل، كونها حدثت من قبل

مؤلّف "أسئلة الكتابة" يرى أنّ الفاجعة هي فعليًا ما لا يُمكن تحديد موقعه في المستقبل، كونها حدثت من قبل. والإنسان وفقًا لهذه الرؤية عاجز عن وضع أي تحديد لموقع الفاجعة، وإن صرف الوقت للبحث والتفكير، لأنّ التفكير بالفاجعة أمرًا لا يبدو ممكنًا طالما أنّنا نستشعرها فكرةً. لذا، ليس للفاجعة مستقبل، لأنّ المستقبل ذاته، وباعتباره جزءًا من نظام الزمن المُعاش، ينتهي إلى الفاجعة. ولكن، هل هذا كافٍ لتعريف الفاجعة؟ أو الإجابة على سؤال: ما هي كتابة الفاجعة؟

اقرأ/ي أيضًا: "على قبوركم".. رواية واحدة بنهايتين

يربط بلانشو السؤال عن الفاجعة بها، ويرى أنّه ينجذب إليها على الدوام، تمامًا كما يربط الكتابة بالفاجعة، مؤكِّدًا أنّها لا تنفصل عنها. والسؤال عن الفاجعة هنا لا يدخل في نطاق أو إطار الاستفهام بقدر ما يبدو التماسًا أو طلبًا للاستغاثة، به تنادي الفاجعة على الفاجعة تحقيقًا للدمار، وحفاظًا كذلك على الخوف، وحتّى لا تتأكّد فكرة الخلاص والفداء أيضًا وفقًا لفكر بلانشو.

اعتمد الكاتب الفرنسيّ في تأليف كتابه هذا على الكتابة الشذرية التي أتاحت له بناء الكتاب على ثنائية تقويض المقابل، واستيعاب التناقض. فالمفاهيم الواردة في الكتاب، كالصبر، أو المحايد، أو الغياب والنسيان والكتابة والأنا وغيرها؛ تستوعب نقضيها دائمًا. فبينما تكون الكتابة تشكيل معنى غائبًا يُحيلها إلى عملية بناء، تكون أيضًا على الضفّة المقابلة تصدّعًا وتشظّيًا وحطامًا، أي عنفًا خالصًا، رغم أنّها تُساعد وفقًا لتفسيراتٍ أخرى على ردع الهدّامين. وكما أنّ الفاجعة لا يناسبها الهدم، إلّا أنّها تُخرّب كلّ شيء بإبقاء كل شيء كما هو.

تكمن سمة الفاجعة كما ترد في كتاب موريس بلانشو بإبقائنا تحت تهديدها دائمًا دون سواها، وبثنينا أيضًا عن التفكير باسمها المجهول، من خلال الفكر ذاته، بالإضافة إلى أنّها كلّ ما ينقبض انقباضًا لا إكراه فيه على التدمير. والفاجعة بحسب بلانشو لا تُسائل، بل تضع السؤال وتخفيه، لأنّها ما يبقى بعد كلّ شيء، ناهيك عن أنّها لا ضدّ لها، وليست ابتذالًا. وإن كانت لا تزيل الفكر أو تصطدم به، إلّا أنّها تنزع أو تُجرِّده من أسئلته وقضاياه وإثباتاته ونفيه وصمته وكلامه أيضًا. هذه عيّنة من سمات الفاجعة، أمّا أثرها فهو الاحتجاب.

كتابة الفاجعة تتحقّق من خلال تفكيرها في ذاتها أوّلًا، وفي جُملة من المفاهيم المُتّصلة بها ثانيًا، كما يُخبرنا بلانشو. ومن بين هذه المفاهيم هناك الكتابة التي بوسعها وسط فلسفة الفرنسيّ الراحل أن تتّخذ معنى استعمال الأخطاء، وأن تكون إمّا رفضًا، أو مبنية على الرفض الذي يُحيل، ما إن تُطلب بعض الكلمات منها، إلى نوعٍ معيّن من الاقصاء، ممّا يجعلها عند تخوم فلسفةٍ كهذه مبنية على النقضان، أو منجذبة إليه أيضًا.

تكمن سمة الفاجعة بإبقائنا تحت تهديدها دائمًا دون سواها، وبثنينا عن التفكير باسمها المجهول

الكتابة، عدا عن أنّها مفهوم مرتبط بالفاجعة، نراها قضية تمّ تشكيلها ومناقشتها داخل الكتاب. والقصد هنا كتابة الفاجعة التي يرى بلانشو في الإحجام عنها فعلًا غير مأمونٍ أبدًا، ولكن، رغم ذلك، يجب ممارستها ضمن الارتياب والضرورة. والإحجام عن الكتابة هو أثر الكتابة، كأنّه سمة الاستكانة ومنبع الشقاء وفقًا لبلانشو. في المقابل، تكون الرغبة في الكتابة أو ممارستها نوعًا من فقدان الإرادة، تمامًا كفقدان السلطة وكسر الإيقاع. هنا، لا بدّ للقارئ أن يطرح السؤال التالي: لما هذه المتاهة؟ الجوانب عند الكاتب الفرنسيّ هو: إنّها الفاجعة مُجدَّدًا.

اقرأ/ي أيضًا: العصيان المقدس.. جان جينيه في يوميات "لصوصيته"

تتّصل الكتابة بالاستكانة من خلال افتراضهما المحو وإنهاك الذات وتغيير الزمن. والاستكانة هنا مفهوم جامع لكلّ ما يتّصل بالذات من مظاهر لا فاعل لها. إنّها الطمأنينة أحيانًا، أو ما يُتجاوز القلق دون بلوغ حدود الطمأنينة. والمجيء على ذكر المحو قائم على فكرة أنّه إحدى علامات الكتابة الشذرية عند بلانشو، تلك التي تمحي الأصل أو تعدّله. كما أنّه إحدى مهمّات ما يسمّى بالفكر الجدلي الذي ينصّب نفسه فكرًا لا أصل له، ولا نهاية أو بداية أيضًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

هل كان بودلير مريضًا بحب أمه؟

الإبداع عند عتبات الموت.. تأملات في الأسلوب المتأخّر