06-مايو-2018

الروائي الفرنسي باتريك موديانو (1945)

يضعنا الروائي الفرنسي باتريك موديانو (1945) في روايته "أزاهير الخراب" (دار هاشيت أنطوان – نوفل، 2018)، بترجمة الشاعر اللبنانيّ الراحل بسّام حجّار؛ إزاء نصٍّ روائيٍّ مُعقّد، شيَّده صاحب "مستودع الطفولة" على ثلاثية المكان والتاريخ والذاكرة.

في روايته "أزاهير الخراب"، يقدّم موديانو رواية مجنونة يبحر من خلالها في التفاصيل الغنيّة لمدينة باريس

يلجأ باتريك موديانو إلى تقنية السرد المبعثر الذي غيَّب عن عمله هذا الرواية بمفهومها المعروف، لصالح كتابة روائية مجنونة، أبحر من خلالها في التفاصيل الغنيّة لمدينة باريس، متجاوزًا الترتيب الزمنيّ لهذه التفاصيل التي رسم عبرها صورة تقريبيّة لمدينة متعدِّدة الوجوه. وتاليًا، فإنّ هذه الفوضى في ترتيب باتريك موديانو لتفاصيل وأحداث الراوية زمنيًا، وضعتنا إزاء متاهة يصعب التقاط بوصلتها الصحيحة. ذلك أنّ باتريك موديانو، صاحب "شارع الحوانيت المعتمة" (جائزة غونكور، 1978) تعمّد تضييع جغرافيا الشخوص والحكايات المتشابكة، مُتنقّلًا بينها بخفّة تركت لنا الحيرة في التمييز بين ما هو حقيقيّ منها أو متخيَّل.

اقرأ/ي أيضًا: موديانو والنافذة التي تشبه المقصلة

ما يكتبه باتريك موديانو في "أزاهير الخراب"، بدا للوهلة الأولى أنّه حكاية بسيطة عن مهاجر عاد إلى مدينة باريس بعد غيابه عنها لأكثر من عشرين عامًا. غير أنّ صاحب "مقهى الشباب الضائع" حوّل تجوّل بطل روايته في المدينة إلى عدسة التقط من خلالها بدراية وعمق أدّق تفاصيلها، قبل أن يضعها باتريك موديانو تحت المجهر لتفحّص تحوّلاتها بين اليوم والأمس. هكذا، سوف يجوب بنا باتريك موديانو باريس بشوارعها وضواحيها ومقاهيها ومتاجرها وحاناتها. مُستنفرًا هنا ذاكرته لاستعادة أحداثٍ قديمة طواها النسيان في الأمكنة التي يقصدها. وإذ بهذا التجوّل ينتقل من كونه تجوّلًا بين أماكن مختلفة إلى آخر بين زمنيين متباعدين وحكايات متباينة.

هكذا، نكتشف أنّ كثافة هذه الحكايات المتناسلة من ذاكرة الراوي، والتي تسير وفقًا لخطٍّ سرديٍّ مُعقّد تراوح بين تواريخ متباينة حرص باتريك موديانو مؤلّف رواية "عشب الليالي" على إزالة أثار حدودها استكمالًا لتشييد عمارته/ متاهته السرديّة هذه؛ نكتشف أنّها جاءت تعويضًا لغياب حدثٍ رئيسيّ لرواية "أزاهير الخراب". وتاليًا، سوف يستغل الروائي باتريك موديانو هنا غياب نقطة مركزيّة تتناسل منها الحكايات، ليجعل من كلّ حكاية في هذه الرواية حدثًا رئيسيًا مؤقّتًا لها، وإذ بنا أمام حكايات تتشابك وتفترق في آن معًا، دون أن يُغيّب ذلك من سحر الراوية وخصوصيتها.

أزاهير الخراب

على هذا النحو، تفتح حادثة انتحار زوجين شابّين جرت سنة 1933، واستعادها بطل الراوية فور وصوله إلى شارع "فوسيه سان جاك"، الباب على مصراعيه أمام ذاكرة الأخير. هنا، سوف يبدأ رحلته عائدًا إلى ماضيه دون مغادرة حاضره، لنجدهُ وقد تماهى بين هذين الزمنين إلى درجة بات من الصعب فيها التمييز بين حدودهما. هكذا، سوف يتناوب السرد بين الماضي والحاضر وفقًا لمساراتٍ متعرّجة تُعزّز من متانة متاهة صاحب "صبية طيّبون".

بالإضافة إلى الافتراضات التي رسمها لما توقّع حدوثه ليلة انتحار الزوجين، وفقًا لهذيان مُخيّلته المولعة بالحكي وتحويل التفاصيل الصغيرة إلى حكايات تدفعها إلى واجهة السرد تارةً وتعيدها إلى الهامش طورًا، قبل أن تعود وتخرج إلى السطح مجدّدًا. ذلك أنّ حادثة الانتحار التي شغلت حيّزًا واسعًا من رواية موديانو، سوف تغيب لصالح حكاية أخرى هي حكاية "باشيكو" الذي ينشغل الراوي في معرفة أصله، وفيما إذ كان هو "فيليب دو بيلون" المطلوب للعدالة الفرنسيّة بتهمة التخابر مع العدو أثناء الحرب أم لا. قبل أن يكتشف أنّه "لومبار" نادل المقهى الذي قصده الزوجين ليلة انتحارهما.

أنجز باتريك موديانو في "أزاهير الخراب" رواية تنسف الرواية السائدة وحبكتها التقليدية

وبذلك، تعود هذه الحادثة إلى الواجهة مجدّدًا، لتثير لدى القارئ أسئلة لجهة العلاقة بين الزوجين ونادل المقهى، ونادل المقهى وفيليب دو بيلون، ودو بيلون والزوجين، وإذ بالرواية تتحوّل إلى مجموعة حكايات وتفاصيل وأسئلة، نلهث خلف خيوطها الأولى لنتمكّن من إدراك جوهرها.

اقرأ/ي أيضًا: تاريخ كتالونيا في 300 صفحة

أنجز باتريك موديانو (نوبل للآداب، 2014) في "أزاهير الخراب" رواية تنسف الرواية السائدة وحبكتها التقليدية، ليضعنا إزاء رواية بحث عن أحداث وأشخاص وأمكنة مفقودة. بالإضافة إلى فرضية لا تنفكّ تطاردنا أثناء القراءة هي "ماذا لو أنّ كلّ ما سرده بطل الرواية لا يتعدّى كونه أحداثًا وحكايات مُتخيّلة ليس لها أرضًا تدور عليها سوى مخيّلته؟".

 

اقرأ/ي أيضًا:

أمين الزاوي "يُحرِّر" غزالة ابن طفيل من حديقتها

إملي نصر الله.. جردة حساب مع "الزمن الجميل"