موت القراءة: من قال إن الكتاب خالد إلى الأبد؟!
21 يونيو 2025
قد نصل فعلًا إلى مرحلة نزرع فيها كتابًا في الدماغ خلال ثوانٍ، لكن هل سيتحول إلى معرفة وسنفهمه ونفكر فيه بنفس الطريقة التي نحصل عليها من القراءة؟ إذا صارت المعرفة تُحقن في الدماغ مباشرة، سنفقد وقت التفاعل مع الفكرة. بهذا المعنى موت القراءة يعني موت التأمل. لن نعود نكتب ملاحظات على الهامش، أو نتوقف عند جُملة تهزّنا، أو نعيد قراءة فقرة لأنها أثارت فينا شكًّا أو دهشة.
وقد طُرحت تساؤلات كثيرة حيال المسألة، فالفلسفة تتساءل: ما معنى أن نقرأ؟ وما الفرق بين المعرفة والاكتساب اللحظي للمعلومة؟ والأنثروبولوجيا تتساءل: كيف تشكلت القراءة كعادة إنسانية؟ والسيسيولوجيا تتساءل: ما مصير المجتمعات حين تُختصر المعرفة في تقنية؟ والثقافة تتساءل: هل سيؤدي تحميل الكتب إلى الدماغ إلى موت القراءة؟
هل ما أقترحه في هذا المقال مجرد خيال علمي؟ ربما، لكنه خيال يقترب من الواقع، خصوصًا مع تطورات مثل شرائح نيورالينك من تطوير إيلون ماسك، وتقنيات الاتصال بين الدماغ البشري والأجهزة الالكترونية التي تختبرها مختبرات متعددة، وأبحاث الذكاء الاصطناعي في فهم اللغة وتحويلها إلى نبضات عصبية.
إن كان يعني هذا شيئًا، إنما يعني أن ما يبدو اليوم خيالاً صرفًا قد يصبح في المستقبل واقعًا قابلًا للتحقق، وهو ما يعطي الإشكالية المطروحة قابلية للنقاش. لكن الإيغو الثقافي للبشر والمثقفين عاجز عن تخيل هكذا سيناريوهات، على اعتبار أن القراءة فعل متسامٍ غير قابل للزوال، أو ربما بفعل الهوس بالكلمة المكتوبة، لكن أشياء عديدة في حياتنا انتهت وزالت بفعل التقدم، ولم ينفع في منع زوالها أمنيات البشر ورغباتهم!
رثاء القراءة!
في كتابه البالغ التأثير مراثي غوتنبرغ: "مصير القراءة في العصر الإلكتروني"، يرثي سفين بركيرتس انحسار القراءة كفعل إنساني عميق، ويتأمّل في المصير الغامض الذي ينتظر الكتب الورقية في ظل تمدد الحضور الرقمي. ينطلق بركيرتس من وعيٍ حادّ بأن التحوّل التقني لا يُغيّر أدوات المعرفة فقط، بل يعيد تشكيل بنيتها النفسية والإدراكية. فالقراءة بالنسبة له ليست مجرّد تلقي لمعلوماتٍ، بل هي تمرين وجودي معقّد، يستدعي تركيزًا طويل المدى، وانخراطًا وجدانيًا مع النصّ، وتأمّلًا في اللغة والزمن والمعنى.
التكنولوجيا تُغرق الإنسان بالمعلومات، لكن لا يُمكنها أن تُعيد خلق التجربة الوجودية للقراءة
بالنسبة لبيركيرتس، التكنولوجيا تُغرق الإنسان بالمعلومات، لكن لا يُمكنها أن تُعيد خلق التجربة الوجودية للقراءة. فالنصّ المقروء لا يطبع في الذهن كمعلومة فقط، بل يُشكّل الذات من الداخل، ويصنع بنية شعورية متكاملة تقوم على التأمل. ويرى أن أي اختزال لفعل القراءة إلى "تحميل مباشر"، حتى لو كان عصبيًا أو بيولوجيًا، سيكون بمثابة نفيٍ للقراءة لا تطوّر لها، لأنه يحذف البعد الزمني منها، ويجعلها مجرد فعل تخزين، لا فعل حياة.
يضيف "بركيرتس" أن التراجع عن القراءة ليس مجرد أزمة ذوق، بل أزمة حضارية بكل ما للكلمة من معنى. فالثقافة التي لا تقرأ، تتحول تدريجيًا إلى ثقافة استهلاك للصور، وردود الفعل، والانفعالات السريعة. وحتى لو أنتجت تكنولوجيا متقدمة تسمح بالوصول الفوري إلى آلاف الكتب، فإنها لن تُعيد إلينا الشعور الذي تحدثه قراءة رواية ببطء، على مدى أيام، وتحوّل القارئ من مستهلك إلى مشارك خفي في صناعة المعنى. القراءة عند بركيرتس ليست أداة، بل طقسٌ عاطفي وفكري، وموتها يعني اختفاء شكل من أشكال الوعي.
من هذا المنطلق، إن التطوّر التكنولوجي، مهما بلغ من كفاءة، لا يستطيع إعادة إنتاج الجوهر البشري للقراءة، بل الأخطر من ذلك، أنه مع مرور الوقت، قد يُقنعنا بأن المعرفة يمكن أن تُختصر، وأن الكتاب لم يعد ضروريًا، وأن الوعي يمكنه أن يُستنسخ أو يُحمّل مثل تطبيق على الهاتف، بحسب بيركيرتس. هنا يكمن التهديد الحقيقي: ليس في الأجهزة، بل في المنطق النفسي والثقافي الذي تُرسّخه، والذي قد يجعل أجيال المستقبل ترى أن القراءة "بطء غير ضروري"، وأن الوعي: عملية تشغيل، لا تجربة شعورية.
نشيد حب للقراءة والكتب!
يأخذنا ألبرتو مانغويل في رحلة ساحرة بكتابه "تاريخ القراءة" ليضيء لنا زوايا وتفاصيل ممتعة عن طقوس القراءة ومساهمتها في تشكيل الحضارات والسياسة والدين والخيال. يمكن توصيف كتابه بكونه "مانيفستو القراءة" بأسلوب أدبي تأريخي تأملي شخصي. وعلى مدى 24 فصلاً يسهب مانغويل في الحديث بصيغة المتكلم عن القراءة في العصور القديمة وأنواع القراءة، الصامتة والجهرية، وعن تاريخ القراءة في السجون، ويروي كيف استخدم السجناء القراءة كأداة مقاومة للجنون والعُزلة، ويخبرنا حكايات عن مانديلا وغرامشي وكافكا، وغيرهم، ممن وجدوا في الكتب حياة بديلة داخل الزنزانة، فالكتب كانت نوافذ في جدار السجون. ويحدثنا عن محاكم التفتيش والرقابة، ويشير إلى أن المكتبات مرايا للإنسان، فيخبرنا عن مكتبات الإسكندرية وبغداد والصين واليابان، وعن علاقة القراءة بالكتابة والصورة والمعنى.
لكن مانغويل في الفصل الأخير من كتابه يبدي قلقًا واضحًا من مستقبل القراءة مع ظهور الإنترنت، ويرى أن التكنولوجيا تدفعنا نحو السرعة والتشتيت، ويطرح تساؤلات عدة: "هل يمكن أن نقرأ إذا أصبح كل شيء لحظيًّا ومتاحًا فورًا؟". ويشير إلى أن القراءة تحتاج إلى زمن خاص بها بحيث تتطلب "تبطئة للوجود"، ويعتبر أنه "في الزمن الرقمي، نحن نخسر هذا التباطؤ التأملي، ونميل نحو التصفح لا الغوص".
يُصوّب "مانغويل" نظره نحو المستقبل، في زمنٍ ستهيمن فيه الشاشات وتُختزل فيه المعرفة (لنتذكر أن الكتاب صدر عام 1996 وما وصلنا إليه اليوم على صعيد التكنولوجيا هائل). يُحذّر مانغويل من تأثير التكنولوجيا على جوهر التجربة القرائية: فالإنسان لم يعد يقرأ ليغوص، بل ليمرّ بسرعة. ويرى أن الكتاب لم يعد مركز العالم المعرفي، وأن فعل القراءة بات مهددًا بالتحول إلى عملية تقنية لا تشبه تلك العلاقة الحميمية القديمة بين القارئ والنصّ. تساؤلاته مشروعة وأصبحت أكثر مشروعية في عالمنا اليوم: ماذا يتبقى من القراءة حين تصبح مجرد تحمّيل بيانات؟ بالنسبة إليه، الكتاب لم يعد فقط في خطر، بل القراءة نفسها كفعلٍ إنساني تأملي في طور التراجع.
أصبح الكتاب طويلًا أكثر مما ينبغي، ومعقّدًا أكثر مما يُحتمل. هكذا تتحوّل المكتبات إلى ديكور، وتتحوّل القراءة إلى رمز نوستالجي
الكتاب ظلّ لقرون أداة الإنسان في مواجهة النسيان، الآن لم يعد في مأمن. أصبح الخطر متأتيًا من "زوال الحاجة النفسية والثقافية للكتاب ذاته"، فقد أصبح الكتاب طويلًا أكثر مما ينبغي، ومعقّدًا أكثر مما يُحتمل. هكذا تتحوّل المكتبات إلى ديكور، وتتحوّل القراءة إلى رمز نوستالجي، والكتاب إلى شيء قديم يُخزّن ولا يُستعمل.
لم يعد الكتاب حارس المعرفة، فقد تغيّرت البنية: أضحى النصّ محاطًا بالروابط، والمعلومة جزءًا من تيار لا يتوقف. قديمًا، كانت المعرفة تتجسّد في كتاب، وكان الوصول إليها يحتاج صبرًا، رحلة، وقراءة متأنّية. أما اليوم، فالمعرفة أصبحت متاحة بلمسة، لكن التوفّر لا يعني التملّك، بحسب مانغويل، أصبح الإنسان مغمورًا بالمحتوى، لكنه أقل فهمًا مما يظن، لأن العمق يُفقد حين يُفقد الزمن الذي يتطلّبه الفهم!
السطحية!
المفكر الأميركي نيكولاس كار ناقش ما تفعله شبكة الإنترنت بأدمغتنا في كتابه "السطحيّون" وكيف غيّرت التكنولوجيا طريقة تفكير الإنسان، وتركيبة دماغه، وعلاقته بالقراءة والمعرفة. يرى كار أن الإنترنت يعيد تشكيل أدمغتنا، فنحن لا نعود كما كنّا بعد الانخراط العميق في الوسائط الرقمية. ويؤكد أن القراءة العميقة، التأمل، والانتباه المستمر بدأت تضعف لأننا أصبحنا مدمنين على القفز من رابط لرابط، ومن شاشة لأخرى، بفعل الإنترنت.
الدماغ البشري مرن وقابل لإعادة التشكل حسب نوعية الأنشطة التي نقوم بها بانتظام
ويعتبر أن الدماغ البشري مرن وقابل لإعادة التشكل حسب نوعية الأنشطة التي نقوم بها بانتظام. فاستخدام الإنترنت بكثافة يعيد توصيل الشبكات العصبية في الدماغ، فيصبح أقل قدرة على التركيز والتأمل. بالنسبة له "نحن لا نستخدم الأدوات فقط، بل الأدوات تعيد تشكيلنا"، تمامًا كما تعلمنا قاعدة ماكلوهان: "الرسالة هي الوسيلة".
فالإنترنت يدفعنا نحو القراءة السريعة والتصفح وليس التأمل، والانتقال من الصفحات الورقية إلى النصوص الرقمية يحوّلنا إلى مستهلكين متعجلين للمعلومة، فالقفز من عنوان إلى آخر يقلل من الاستيعاب والتذكر طويل المدى. والإنترنت مليء بالمحفزات: روابط، صور، إعلانات، إشعارات، كلها تخلق بيئة من التشتت المعرفي المستمر. لذلك، حتى لو قرأنا نفس المادة على الإنترنت، لن نستوعبها كما لو قرأناها على الورق، لأن البيئة الرقمية لا تسمح بالتركيز. ويشبّه كار الإنترنت بآلة تقطع الانتباه إلى أجزاء، ويقارن كيف أن المطبعة رسخت القراءة العميقة، أما الإنترنت يفتتها، وكل وسيلة تكنولوجية جديدة تُضيف شيئًا وتُقصي شيئًا آخر.
يميز كار بين الذاكرة قصيرة المدى التي تتعامل مع ما يحدث الآن، وبين الذاكرة طويلة المدى التي تحتاج إلى التركيز لتخزين المعرفة، ويستنتج كار: "الإنترنت يثقل الذاكرة القصيرة ويمنع ترسيخ المعلومات في الطويلة". يشير كار إلى أن البشر يتحولون من كائنات تفكر بعمق إلى كائنات تبحث بسرعة، ويشبه المسألة وكأننا صرنا نعيش في عقل جماعي Google Mind.
الجيل الأغبى!
وجاءت نتائج مارك باورلاين لتؤكد المؤكد في كتابه "الجيل الأغبى" وهو عبارة دراسة ثقافية ونقد اجتماعي تربوي. يعرض "باورلاين" نتائج لاختبارات القراءة والتاريخ والعلوم لدى الشباب الأميركيين، ويقارنها بأجيال سابقة، ويثبت أن مستوى الثقافة العامة قد انحدر بشكل ملحوظ. على سبيل المثال، أظهرت دراسته أن: غالبية المراهقين لا يعرفون من هو شكسبير، ولا يستطيعون تحديد مواقع بلدان على الخارطة، ويجهلون المبادئ الأساسية للدستور الأميركي.
الشاشة أزاحت الكتاب من حياة الشباب، وحوّلت وقت التأمل إلى وقت ترفيه استهلاكي بشكل مفرط دون أدنى ضبط ثقافي ومعرفي
ويناقش "باورلاين" كيف تستهلك الشاشات جلّ وقت الشباب، في الألعاب والفيديوهات والتشات والموسيقى والتصوير، ويرى أن الشاشة أزاحت الكتاب من حياة الشباب، وحوّلت وقت التأمل إلى وقت ترفيه استهلاكي بشكل مفرط دون أدنى ضبط ثقافي ومعرفي من قبل المربين والسياسيين وكارهو الكتب، ويصفهم بالخونة لأنهم تخلوا عن دورهم التوجيهي، فالجامعات لم تعد تصنع مفكرين بل تكرس الهشاشة الثقافية!
ويتنبأ "بارولاين" بمستقبل قاتم، إذا لم يتم استعادة الفعل الثقافي. يدعو لإحياء نخبة ثقافية تقود الشباب نحو العمق، ويقترح دورًا أكبر للمدارس والمكتبات والمؤسسات الثقافية في استعادة فكرة القراءة العميقة، الحوار، الجدل الفكري، والكتابة النقدية. في نظره، الجيل الجديد ليس غبيًا بطبيعته، بل أُضعف بفعل ثقافة رقمية لا تُطالب منه إلا أن يكون حاضرًا، لا فاعلاً.
خاتمة: انقراض القراءة!
في محاولاتهم الحثيثة للدفاع عن القراءة، بدا كل من مانغويل، وكار، وبارولاين، وبيركيرتس كمن يتمسّك بشعلة في وجه إعصار رقمي لا يُقاوَم. كلٌ منهم كتب تحت وقع الخوف من التحوّل، مدفوعًا برغبة شديدة في إنقاذ القراءة لا بوصفها تقنية قديمة بل باعتبارها فعلًا إنسانيًا مُشكّلاً للوعي والهوية. غير أن ما يكشفه التأمل المتأني في أطروحاتهم هو أن جميعهم، رغم عمقهم الفكري، وقعوا في وهم الدفاع الرومانسي عن القراءة، متغافلين، أو متمنّعين عن الإقرار، بأن التطور التقني لا يسير وفق رغبات الفلاسفة، ولا يتوقّف عند حدود التحذيرات الأخلاقية أو الثقافية.
ذاكرة البشر تفرغ في الخوادم، علاقاتهم تُدار عبر الشاشات، وقراراتهم تُتخذ عبر خوارزميات
لقد راهنوا على بقاء القراءة لأنها ضرورية للذات البشرية، لكنهم لم ينتبهوا بما يكفي إلى أن الذات البشرية ذاتها تخضع اليوم لإعادة تشكيل جذري بفعل التكنولوجيا: ذاكرة البشر تفرغ في الخوادم، علاقاتهم تُدار عبر الشاشات، وقراراتهم تُتخذ عبر خوارزميات. ومع اتساع هذه التحوّلات، يصبح من المنطقي أن ينقرض فعل القراءة كما نعرفه، لا لأن الإنسان لم يعد بحاجة إلى المعرفة، بل لأن المعرفة ذاتها فقدت الحاجة إلى الوسيط الورقي أو التأملي.
إن فرضيتي في هذا المقال لا تقوم على الحنين، بل على القراءة الباردة لمسار المستقبل: حين يتمكن الإنسان من تحميل الكتب مباشرة إلى دماغه، كما نُحمّل الملفات إلى أجهزة الحاسوب، أو بفعل اندماج الإنسان في عالم التكنولوجيا، لن تبقى القراءة إلا ذكرى ثقافية، طقسًا أرشيفيًا يمارسه القليلون بدافع النُبل لا الضرورة. في تلك اللحظة، لن يكون موت القراءة فعلاً دراميًا أو فجائعيًا، بل سيكون تحوّلاً هادئًا في مسار الأنواع، تمامًا كما تخلّى الإنسان عن الحفظ الشفهي الجماعي حين اخترع الكتابة، وكما قد يتخلّى عن القراءة حين يُصبح الدماغ موصولًا بالبيانات، وكما ستنتهي وظيفة دور النشر والطباعة. وهكذا، فإن مقاومة هؤلاء الكتّاب، على شجاعتها وجمالها، كانت أشبه بمراثي لا توقّف الموت، بل تُؤنسن رحيله.