13-نوفمبر-2022
مدرس محبط

مدرس أمام السبورة

السجال صاخب في كل أنحاء العالم، والأصوات تعلو محذرة من ركود تضخمي قد يضرب الاقتصادات الكبرى ويترك آثارًا مدمرة على الاقتصادات الصغيرة والمتواضعة. أسباب الركود التضخمي المحتمل كثيرة، وباتت على كل شفة ولسان، لكن الخلاف يدور حول طرق مواجهتها. والحق، أن المساجلين هذه المرة يختلفون، من حيث منابتهم ومصادرهم، عن مساجلي الحقب السابقة. من تعلو أصواتهم هذه المرة هم اقتصاديون ممارسون. ليسوا رجال سياسة ولا أساتذة جامعات، وليسوا طبعًا مجرد وزراء اقتصاد ومالية. بعضهم شغل مثل هذه المناصب من قبل، لكنهم جميعًا يتحدرون من مراكز صناعة الثروات. ثروات شركاتهم طبعا، وثرواتنا الشخصية جميعًا وفي كل مكان على الأرض. الانتقادات التي تواجه رئيس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي جيروم باول باتت مشفوعة كل مرة بالتذكير أن باول ليس اقتصاديًا ممارسًا. ما يعني ضمنًا أن معالجة الأزمة التي تلوح في الأفق ليست مما تقوى الكتب وكراسي الجامعات التي يتحدر باول منها على تقديم حلول لها.

صناع الثروات في العالم ليسوا أعداء لبعضهم بعضًا. الاقتصادي الذي يدير مصرفًا في دبي أو سنغافورة لا يتمنى انهيار مصرف منافس في نيويورك

 

واقع الأمر أن الأزمة التي يحذر منها هؤلاء ليست أزمة غير مسبوقة. لكن الحلول التي يقترحها هؤلاء قد تكون غير مسبوقة في التاريخ. للمرة الأولى يجهر هؤلاء الاقتصاديون الممارسون بآرائهم بهذه الأصوات الجهيرة. غالبًا ما كانوا يعلمون بصمت، ويتركون للسياسيين واقتصاديي الحكومات الرسميين مهمة اللغو المطمئن، إن كان اللغو المطمئن ممكنًا، أو مهمة اللغو المحذر حين يُسقط في أيدي السياسيين والاقتصاديين على حد سواء.

ما يقوله هؤلاء ببساطة يتلخص بواقع أن صناع الثروات في العالم ليسوا أعداء لبعضهم بعضًا. الاقتصادي الذي يدير مصرفًا في دبي أو سنغافورة لا يتمنى انهيار مصرف منافس في نيويورك. على النقيض من ذلك، سيحاول مساعدته على تجاوز تعثره إذا سنحت له الفرصة. هؤلاء يعرفون جيدًا، وبسبب من طبيعة العلاقات التي تجمع في ما بينهم، أن المركب الذي يقل البشر واحد، وأن أي ثقب في أحد جوانبه سيترك أثره على المساحات السليمة في جسم المركب، وعلى الجميع أن يسارع لرتق الثقب وتفادي الغرق.

هذه ليست حال السياسيين طبعًا، ولا ناشطي البيئة ولا مناضلي اليسار. وبطبيعة الحال، ليست هذه حال متحمسي اليمين المتطرف أيضًا في أي مكان وجدوا. هؤلاء يباشرون الشأن العام بعقلية الذئاب: إن لم تجد فريسة تلتهمها ستلتهم من هو أضعف منك. ولن ينجو أطفالك حتى من حدة أنيابك. مع ذلك لم يحصل أن رفع المصرفيون والاقتصاديون الصوت عاليًا في وجه هؤلاء من قبل. ليس لأن أهل السياسة والأيديولوجيا لم يكونوا ذئابًا من قبل، بل لأن هؤلاء الاقتصاديين أنفسهم لم يكن لديهم ألسنة مناسبة للتحذير. لقد حقق الاقتصاد العالمي قفزات لم يتم عقلها واستيعابها حتى اللحظة، لكن علوم الاقتصاد في الجامعات المرموقة ومنظري الاقتصاد كانوا دائمًا يتحدرون من رحم الأكاديميا، عدا قلة قليلة منهم. ومعظمهم كان يدرس تاريخ الأزمات ويقرر على أساس هذا التاريخ الحلول الممكنة، ويحدد الاقتراحات ويطلق التوقعات. لكن الاقتصاد لا يشبه الأمم. إنه عالم ينحو أكثر فأكثر لأن يصير رمزيًا بالكامل، وكل يوم ينشئ معادلات جديدة لم تكن قائمة من قبل، والأرجح أنها لن تتكرر في ما بعد.

وعليه، فإن دراسة هذه المعادلات لا تقدم ولا تؤخر في مسارات الاقتصاد. والأمر المؤكد الذي لم يعد ثمة راد له، يتعلق بأن تدبير شؤون الاقتصاد لم يعد بمكنة أساتذة الجامعات. كارل ماركس وآدم سميث لا يقولان لنا الكثير اليوم، ومثلهما لا يستطيع كروغمان وأستيغلتز أن يقولا لنا الكثير أيضًا. العالم يفلت من بين أيدي الأكاديميين، ولم يعد ثمة طريقة يعرفونها لعقله وإدراكه، أو حتى التفاعل معه على النحو اللازم. وإذ يتفلت العالم من بين أيدي الأكاديميين على نحو متسارع، فإن سرعة تفلته من بين أيدي السياسيين والمهتمين بالشأن العام تكاد تكون أضعافًا مضاعفة. السياسيون اليوم يظهرون كما لو أنهم أحجار العثرة الأولى أمام ازدهار العالم واستقرار اقتصاده. والاقتصاديون الممارسون هم اليوم من يحاولون التنطح لوراثة هاتين الطبقتين البائدتين.