04-فبراير-2016

بردية من كتاب الموتى الفرعوني (Getty)

يقولون ما أسوأ موت الفجأة، هذا الوحش الوضيع الذي يأتي لينتزع أحدهم ممن يحبوه ويحبهم دون سابق إنذار، دون أن يمنحهم الفرصة الأخيرة لرؤيته وعناقه، يأتي كالصقر ينتزع ضحيته ولا نراه ولا نرى الضحية، كشهاب لمع في السماء لثوانِ واختفى، لا يمنحك فرصة للإعادة أو استيعاب تأثيره عليك. 

نفقد حلمًا حلمنا به يومًا ويموت بداخلنا فنموت معه، نفقد طموحًا كان ينادينا، ويموت نداؤه ونموت معه

قد يكون موت الفجأة من أسوأ ما يكون على المحيطين بالشخص المتوفى، ولكن ماذا إن لم يكن حوله أحد، وحيدًا في دنياه، وقتها يصبح موت الفجأة خيرًا، بل هو خير للمتوفى في كل الأحوال، تخرج الروح من جسد الإنسان وتتوقف أجهزته عن العمل، وتمتنع خلاياه عن تأدية الوظيفة الموكلة إليها، فيدرك الناس من حوله أنه مات، ولكن هل كان حيًا من الأساس، هل كل من يسير على قدمين ويستنشق الهواء فهو حي؟

أخرج من شقتي وأتجول في شوارع القاهرة، أنظر إلى وجوه المارة متفحصًا، أدخل مترو الأنفاق، أحملق في عيون الراكبين لعلي أجد أحدهم حيًا، فقط موتى، موتى في كل مكان، قد يتسلل شخص ما زال حيًا وسط الجموع الميتة فيصبح موضع جدل: ما هذه البسمة التي ترتسم على وجهه، هل جُنّ عقله؟ أو ربما يقتحم حبيبان المكان المعبق برائحة الموت، فيحيط حبهما العفن حتى يخنقه، أحيانًا أنظر إلينا نحن الكائنات المسماة بالبشر الأحياء وأتساءل حائرًا، لِمَ لَمْ يدركنا الموت بعد؟ 

نهيم على وجوهنا، ننبش التراب بحثًا عن مشاعر طالما غابت عنّا، نبحث عن السعادة في أي شيء تافه، كفرحة الطفل الصغير بقطعة شيكولاتة، نبحث عن الفرحة في أي انتصار زائف، نبحث عن أي ملامح تدلنا على أنفسنا وتشعرنا بالروح الراكدة بداخلنا لعلها تتحرك من جديد، لعل الدماء السارية في عروقنا تحمل معها القليل من الحب والسعادة والأمل، لعل روحنا تشرق بداخلنا معلنة عن كائن ما زال حيًا، ما زال يشعر بمتعة الهواء البارد يختلج صدره. 

الموت يطاردنا يوميًا في كل مكان وفي كل موقف، بعضنا يموت أكثر من مرة كل يوم، نفقد حلمًا حلمنا به يومًا ويموت بداخلنا فنموت معه، نفقد طموحًا كان ينادينا، ويموت نداؤه ونموت معه، نفقد أملًا لاح في الأفق ثم اختفى وهوى أرضًا فهوينا معه، نفقد بسمة طالما لازمتنا، نخسر صديقًا اختار الهجرة فسافر وأخذ ذكرياتنا معه، فنمنع أنفسنا من تكوين ذكريات زائلة أخرى ونحن زائلون. 

أن تموت فجأة خير لك من أن تفقد جزءًا منك يومًا بعد يوم حتى تنطفئ شعلتك وتصفر أوراقك 

نخسر صديقًا اختار أن يصادق آخرين، نخسر حبيبة اختارت الاستقرار وارتضت نفسها زوجة مطيعة لأحدهم، فينبض القلب بداخلنا فقط من أجل ضخ الدماء ولكنه لم يعد محمّلًا بالمشاعر من جديد، لن ينبض لأحد.

نموت آلاف المرات قبل أن تدركنا الوفاة، نحبس بداخلنا كلمة حق خوفًا، فتموت بداخلنا الحقوق، نسمع الأكاذيب ونتقبلها أو ننكررها على الكاذبين، فتُدفن الحقائق، نرضى الذل جبرًا، نفقد كرامتنا جزءًا تلو الآخر، نعتاد القذارة حتى يموت الضمير.

الموت لا يأتي فجأة أبدًا، هذا في خيالكم فقط، ورغم ذلك، أن تموت فجأة خير لك من أن تفقد جزءًا منك يومًا بعد يوم حتى تنطفئ شعلتك ويبهت زهوك وتصفر أوراقك وتسقط أزهارك وتَكِلُّ خطاك وتجهل مقصدك وتنعدم رؤيتك للطريق، أن تموت فجأة خير من أن تندلع بداخلك الرغبة في ألا تُوجد، أن لا غاية منك، أن تموت فجأة خير من أن تموت في كل لحظة، أحياناً يكون انتهاء الرحلة خير من أن تعيش آلامها. موت الفجأة ما هو إلا ضرب من ضروب الخبل والأوهام، ليت هناك ما يُسمّى بموت الفجأة، ما أحلاه، وما أبشع موت التجزئة.

اقرأ/ي أيضًا:

انتصار أفلام "السكس"

قبل خراب الإسكندرية