30-يونيو-2021

عمل فني لـ فرانسوا سارغولوغو/ لبنان

هل التاريخ ليس أكثر من "فراغ مزدحم"، كما يقولُ جول رومان؟ وهل صار في إمكاننا الكلام، أيضًا، على "موت الذاكرة" أو نهايتها، في زحمة الكلام على سلسلة النهايات أو الميتات المتوالية؟

فمن "موت التاريخ" أو نهايته، إلى موت الفلسفة، إلى موت الشّعر، إلى موت الثّقافة والكاتب، وحتّى موت القارئ، يقفزُ سؤال ملحّ حول "موت الذاكرة".

فما حاجتنا لها، نحن الأناس المعاصرين الّذين نعيش في اللّحظة الرّاهنة؟ وحين يرتفع مجد الكومبيوتر والإنترنت عاليًا، فما نفعُ الماضي؟ و"نحن"، هنا، العرب أو المسلمين أو أيّة مجموعة من البشر، لا يعني الأمريكيين أو الأوروبيين، بل يعني اللحظة الراهنة للبشرية في ما هي وارثة لنفسها، وفي ما العلوم والمصارف، كما الآداب والفنون، تغدو ملكًا مشاعًا لجميع طلابها من البشر ما لم تحجب عنهم قسرًا.

من "موت التاريخ" أو نهايته، إلى موت الفلسفة، إلى موت الشّعر، إلى موت الثّقافة والكاتب، وحتّى موت القارئ، يقفزُ سؤال ملحّ حول "موت الذاكرة"

ذلك، على الأقل، ما أوحت به عبارات هي من أدبيات نهايات القرن الماضي، وبدايات القرن الحالي، من مثل "العولمة" والنظام العالمي الجديد، وثورة الاتصالات والمعلوماتية، وعرض المعلومات حتى الخطير منها والعلمي والسرّي والمخابراتي التجسسي... في أنظمة الإنترنت العالمية الجديدة المباحة.

اقرأ/ي أيضًا: إرنست بيكر: البطولة ردُّ فعلٍ على ذعر الموت

وقد أثار مثل هذه الاسئلة في نفسي، حديث جرى مع أحد الاصدقاء، وهو طبيب أنهى دراساته العالية في التشريح في الولايات، قال لي إنه، إضافة إلى دراسته العملية الحديثة في التّشريح، اهتمّ بشيء من تاريخ الطبّ عند العرب. فهو يرى أنهم أضافوا إضافات جليلة إلى هذا العلم في الماضي، ولم يكونوا، كما يتّهمهم بعض الغربيّين من المستشرقين، مجرّد نقلة لطبّ أبقراط اليوناني... مثلما لم يكونوا في الفلسفة مجرّد نَقَلَة ومترجمين لأفكار أرسطو وأفلاطون وسقراط.

واستطرد قائلًا إنه اعتنى خصوصًا بالرّازي، المسمّى "طبيب العرب"، وقرأ بإمعان كتابه الشهير "الحاوي"، ويؤثر عنه أنه كان أول من أرسى قواعد علمية دقيقة لدرس الطب والتشريح، خصوصًا تشريح الجمجمة، كما كان أول من أنشأ مدرسة لتعليم الطبّ في بغداد.

أشار أيضًا إلى جهود ابن سينا المسمّى في أوروبا آفيسّين في تطوير الطبّ من خلال كتابه "القانون"، وإلى جهود ابن زهر الطبيب الأندلسي، وابن رشد المعلّم الثاني الذي يُسمّى في أوروبا آفيرّوز.

وحين رغب صديقي في الاستطراد أكثر سألته: وهل استفدتَ أنتَ، في دراستك العالية للتّشريح في الولايات المتّحدة من هذا التّراث الطبّي العربيّ الكبير؟

أجاب: بالطبع، لا، فالأساليب الحديثة متطوّرة ومختلفة جدًّا عن أساليب الماضي.

قلت: وهل استفدت من أي تراث آخر سواه؟ يوناني، مثلًا، أو لاتيني، أو هندي أو أوروبي؟

قال: أيضًا... لا.

قلتُ: إذًا، أنتَ في التّشريح ابن اللّحظة المعاصرة، فما نفع كلّ هذا التراث في قطف هذه اللّحظة وتشغيلها؟ أعني أنه، ألا ترى معي مثلًا، أنه صار لا بدّ، اليوم، من مقابر هائلة للماضي؟ وأنّ الوقت لم يعد ممكنًا تناوله "بجرعات كبيرة" كما يقول عباس بيضون في عنوان جميل له، بل لا بدّ من أخذه بطريقة ملّيمترية؟

ولم يكن في الإمكان إبقاء الحديث واقفًا في هذه النقطة من الالتباس والافتراض. بل كان لا بدّ من تطوير احتمالاته، ودفعه إلى أقصاه. فإذا كان في العلوم والتقنيات، الحاضر يلغي الماضي بالضّرورة، فلا مجال لحياة النَوْل اليدوي مثلًا في عصر التّصنيع الآلي الهائل. ولا فائدة من النظريّة الّتي كانت تقول بتسطّح الأرض، بعد إثبات كرويّتها. ولا مجال لوجود عصر البُخار في سيادة عصر الذرّة. ولا إمكانية للحساب على أصابع اليدين في عصر الكومبيوتر... وهلم جرّا! إذا كان في هذا المجال، لا بدّ من مقابر هائلة للماضي، باعتبار الذّاكرة العلميّة ذاكرة مؤلّفة من فضلات بائدة، ونظريات بعضها يلغي بعضها الآخر. ولا بدّ من إزاحتها بشكل أو بآخر من السّاحة الحديثة للمعرفة، باعتبارها ساحة محدودة لا تحتمل تراثًا. فهل الافتراض نفسه يصحّ في مجال الفلسفة مثلًا؟ وفي مجال التاريخ؟ ومن باب أولى في مجال الشّعر والقصيدة؟

هل يصحّ الافتراض أنه لا نفع من المتنبي اليوم لشعراء القصيدة الحديثة، وأن قصيدته ليست سوى ذكرى أو "ذاكرة"، غير صالحة في تشكيل قصيدة معاصرة؟

هل يصحّ الافتراض أنه لا نفع من المتنبي اليوم لشعراء القصيدة الحديثة، وأن قصيدته ليست سوى ذكرى أو "ذاكرة"، غير صالحة في تشكيل قصيدة معاصرة؟ وأن في هوميروس ما يشكّل إعاقة ليانيس ريتسوس؟ وأنّ فيكتور هوغو مجرّد "معاق شعري" كما سمّاه أوجين يونيسكو في كتابه الهجائيّ فيه المسمّى "هوغوليات"؟

اقرأ/ي أيضًا: عن مؤَلِّفٍ اسمُهُ اللّسان

وإذا سحبنا السؤال الى أماكن أكثر ضخامةً، أيصحّ أن نفترض أنّ الماضي آيل إمّا إلى الفولكلور أو المتحف أو التّثمير السّياحي؟

ومع التّسليم بأن المجتمعات لا تعيشُ لحظات متشابهة أو متناسقة وموحّدة من أزمنتها وحضاراتها، وأنه في مجتمع الاستنساخ والإنترنت نفسه، وعلى هامشه أو في وسطه، قد ينشأ مجتمع بدائي أو زراعيّ أو هيبّي ما... فإننا نرى أنه، في التّعامل مع اللّحظة الرّاهنة والمستقبل، لا بد من موت ما للذّاكرة، أو من مدافن للماضي، مثلما تستحدث مدافن للفضلات الكيماوية، في أعماق المحيطات أو في بطون الجبال والأرضين.

بقي أن نتفق على أشكال هذا الموت، وأصناف المدافن ومراتبها وأحجامها... وطقوس الوداع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن فتى الشّعر الأزرق وصاحبِ اليوتوبيا

الشّاعر هو النّاجي والمتورّط