مهنة محفوفة بالمخاطر: أن تكون مراسلًا في الضفة الغربية المحتلة

منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، اعتقلت إسرائيل ما لا يقل عن 140 صحفيًا فلسطينيًا في الضفة الغربية المحتلة، ضمن حملة وصفها نقابة الصحفيين الفلسطينيين بأنها تهدف إلى "إسكات الإعلاميين"، بينما يُتهم المعتقلون عادةً بتهمة فضفاضة تُعرف بـ"التحريض على الإرهاب". 

في المقابل، قُتل أكثر من 232 صحفيًا في غزة جراء القصف الإسرائيلي، ما يجعل العام الماضي الأكثر دموية في تاريخ الصحافة الفلسطينية.

اعتقال الأب… وكتمان الحقيقة عن الطفل

في تحقيقٍ نشرته صحيفة "لوموند" الفرنسية، يسلّط مراسلها في الضفة الغربية، لوكاس مينيسيني، الضوء على أوضاع الصحفيين الفلسطينيين في ظل القمع الإسرائيلي المتصاعد. من بين هؤلاء الصحفي سمير خُويرة، الذي اعتقلته القوات الإسرائيلية في نيسان/أبريل الماضي، بينما لا تزال زوجته إيمان تخفي خبر اعتقاله عن طفلهما خشية أن يصدمه الواقع.

وتروي إيمان خُويرة، للصحيفة أنها لم تتمكن من زيارته أو إرسال دواء له، بينما لا تزال تجهل أسباب اعتقاله رغم تلميحات إلى "التحريض" وعلاقات مزعومة مع حركة حماس.

وتشير إل أنها لا تزال عاجزة عن إخبار ابنها الأصغر، عز الدين (8 سنوات)، بأن والده معتقل في سجون الاحتلال الإسرائيلي. وتقول من منزلها في نابلس، بالضفة الغربية المحتلة: "كيف يمكن لطفل أن يفهم أن والده في السجن لأنه صحفي؟"

يشير مينيسيني إلى أن الاحتلال الإسرائيلي اتبع سياسة مزدوجة تجاه الصحفيين الفلسطينيين: القتل في غزة، والاعتقال والملاحقة في الضفة الغربية

اعتُقل سمير، الذي كان يعمل مراسلًا لإذاعة "J-Media" المحلية في نابلس، في ليلة العاشر من نيسان/أبريل، بعد أن داهمت قوة من الجنود منزله. الإذاعة نفسها كانت قد أُغلقت من قبل الجيش الإسرائيلي بعد أسبوعين من بدء الحرب على غزة.

لم تتمكن إيمان من زيارته منذ اعتقاله، ولم تتحدث إليه سوى مرة واحدة فقط في منتصف نيسان/أبريل، حيث حذرها أحد الحراس من التطرق إلى مكان احتجازه. علمت لاحقًا من محامٍ أنه محتجز في سجن نفحة بصحراء النقب، بموجب ما يُعرف بالاعتقال الإداري الذي يسمح بسجن الفلسطينيين دون توجيه تهم رسمية، وهو إجراء يُعتبر مخالفًا للمبادئ القانونية والإنسانية.

ورغم تقديم استئنافين، من المقرر استمرار اعتقاله حتى 8 تشرين الأول/أكتوبر. وتقول إيمان إنها تلقت معلومات من معتقلين مفرج عنهم بأنه يُضرب بانتظام ويعاني من تدهور صحي. وعلى الرغم من محاولاتها، لم يُسمح لها بإرسال أدوية إليه. وتشير إلى أن زوجها تلقى تهديدًا مباشرًا قبل اعتقاله من ضابط إسرائيلي قال له: "نراقبك… يجب ألا تتحدث مجددًا في الراديو".

القتل في غزة… والسجن في الضفة

يشير مينيسيني إلى أن الاحتلال الإسرائيلي اتبع سياسة مزدوجة تجاه الصحفيين الفلسطينيين: القتل في غزة، والاعتقال والملاحقة في الضفة الغربية. 

ووفقًا لنقابة الصحفيين الفلسطينيين، فقد قُتل 232 صحفيًا في غزة منذ بدء الحرب، بعضهم في قصف عشوائي وآخرون في ضربات مستهدفة، فيما اعتُقل 140 صحفيًا على الأقل في الضفة، بينهم أسماء بارزة مثل علي السمودي، الذي اعتُقل في 30 نيسان/أبريل بجنين.

نقيب الصحفيين الفلسطينيين، ناصر أبو بكر، يرى في هذا التصعيد امتدادًا لاغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة في أيار/مايو 2022، والتي قُتلت برصاصة قناص إسرائيلي أثناء تغطيتها لاقتحام في مخيم جنين. ويؤكد أن الاتهام الرئيسي الموجَّه للمعتقلين هو "التحريض على الإرهاب"، وهو توصيف تستخدمه إسرائيل لتبرير اعتقال آلاف الفلسطينيين دون تقديم أدلة ملموسة.

كما يشير إلى تصاعد اعتداءات المستوطنين على الصحفيين الفلسطينيين في الضفة، والتي وثقت النقابة منها 1641 حالة خلال أقل من عامين، بعضها أفضى إلى إصابات خطيرة، في ظل تغاضٍ شبه تام من الجيش الإسرائيلي. 

ويضيف أبو بكر: "إسرائيل تريد إسكاتنا. أصبح الصحفيون يزيلون كلمة PRESS عن سياراتهم لتجنب الاستهداف".

بين التهديد والطرد

تشكل الصحفيات الفلسطينيات هدفًا مباشرًا أيضًا. "بسمة" (اسم مستعار) تعمل في قناة الجزيرة منذ 25 عامًا، وتروي لصحيفة "لوموند" أن العام الماضي كان الأسوأ في مسيرتها. في أيار/مايو 2024، حظرت إسرائيل عمل القناة داخل الأراضي المحتلة. وفي أيلول/سبتمبر، اقتحمت قوة إسرائيلية مكتب القناة في رام الله، وأغلقته بالقوة، ما اضطر طاقمها إلى العمل من فندق أو من العاصمة القطرية الدوحة.

لكن المفاجأة جاءت من السلطة الفلسطينية نفسها، التي حظرت القناة لاحقًا في كانون الثاني/يناير 2025. منذ ذلك الحين، بات الصحفيون يعملون من شقق خاصة أو حتى من الشارع، وسط خوف دائم من المداهمات الليلية. 

تقول بسمة: "لم تعد العائلة تخشى فقط من الرصاص، بل تنتظر لحظة اعتقالنا". وتروي أن الجيش اقتحم منزل أحد المصورين، وترك له رسالة مباشرة: "لا تعمل مع الجزيرة".

في ظل هذا التضييق، أصبح الطاقم يتحاشى الحديث عبر الهاتف، فيما تمنعهم الحواجز العسكرية الـ89 المنتشرة في الضفة من التنقل بحرية. وبحسب محامي القناة، نُصح الجميع بتجنب المرور عبر هذه الحواجز. وخلال الأسابيع الماضية، جُمّدت حسابات القناة البنكية في الضفة بقرار إسرائيلي.

"أخاف من العودة إلى السجن"

الحملة الإسرائيلية تُثير الخوف أيضًا لدى الصحفيين الشباب. يقدم الصحفي الفرنسي شهادة "عالية" (اسم مستعار)، تبلغ من العمر 23 عامًا، وتعمل في موقع إخباري محلي في رام الله. اعتُقلت في 7 أيار/مايو عند حاجز أمني بينما كانت في طريقها إلى نابلس، وقضت تسعة أيام في السجن من دون أن تعرف سبب اعتقالها.

 تصاعد اعتداءات المستوطنين على الصحفيين الفلسطينيين في الضفة، والتي وثقت النقابة منها 1641 حالة خلال أقل من عامين

اتهمت بـ"التحريض على الإرهاب"، لكنها لا تعلم تحديدًا ما الذي نُسب إليها. خلال التحقيق، سألها المحققون فقط عن الجهة التي تعمل لديها، وتطبيق التراسل الذي يستخدمه الموقع. أُفرج عنها لاحقًا دون تقديم مبررات لاعتقالها، لكنها تقول إنها أصبحت تعيش بقلق دائم. تكتب مقالاتها الآن بأسماء مستعارة، وتطلب من زملائها نشرها خوفًا من الملاحقة.

تصوير عارٍ وتهديدات

في بيت لحم، احتفل العشرات بالإفراج عن مدير مكتب قناة "الميادين" اللبنانية في فلسطين ورئيس تحرير وكالة "معًا" الإخبارية ناصر اللحام، بعد تسعة أيام قضاها في سجن عوفر. تُرك حافيًا عند حاجز الجيب جنوب رام الله.يروي، قائلًا: : "أهانوني… التقطوا لي صورًا عاريًا دون سبب". اعتُقل بناءً على "ملف سري" لم يُعرض عليه.

يشير مينيسيني إلى أن اللحام تلقى تهديدات من الجيش الإسرائيلي رغم أنه خفف من ظهوره على الشاشة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وقرر الاكتفاء بالتعليق دون إدارة التحرير. في كانون الأول/ديسمبر، قال له أحد الجنود: "الأفضل ألا تنتقد الجيش بعد الآن".

اليوم، يفكر ناصر اللحام جديًا بترك الصحافة. ويشبه الوضع الحالي بممارسات الأنظمة في محاربة تجار المخدرات. ويقول إن ما يتعرض له الصحفيون الفلسطينيون لم يعد استثناءً، بل صار سياسة منهجية هدفها خنق الصوت الحر في الأرض المحتلة.