23-سبتمبر-2022
وقفة إيرانية أمام كاتدرائية دوم في كولونيا بألمانيا

وقفة إيرانية أمام كاتدرائية دوم في كولونيا بألمانيا

الاحتجاجات في الشوارع الإيرانية ليست جديدة. هذا بلد ضرب الرقم القياسي في عدد الثورات والاحتجاجات التي انطلقت ضد نظام حكمه. مع ذلك كانت السلطات السياسية والأمنية تنجح كل مرة في قمع التظاهرات والاحتجاجات. وتعود لتتابع مسالكها المعهودة، كما لو أن أمرًا لم يحصل. أو كما لو أن هؤلاء المتظاهرين والمحتجين ليسوا من عداد الشعب الذي تحكمه وتجور عليه.

قيام نساء بخلع أغطية رؤوسهن في الشوارع العامة والتلويح بها وحرقها من ثم، يعلن بلا مواربة أن الناس كل الناس، نساء ورجالًا وأطفالًا يملكون الحق في أن يكونوا أنفسهم في الأمكنة العامة

لكن ما يميز الاحتجاجات الحالية أنها انطلقت إثر مقتل الفتاة مهسا أميني خلال احتجازها من قبل شرطة الأخلاق، التي رأى عناصرها في غطاء رأسها ما يخالف المعايير المتزمتة التي تفرضها سلطات إيران على النساء في الأماكن العامة.

الاحتجاجات الحالية، ترافقت مع قيام نساء بخلع أغطية رؤوسهن في الشوارع العامة والتلويح بها وحرقها من ثم. وهذا سلوك يعلن بلا مواربة أن الناس كل الناس، نساء ورجالًا وأطفالًا يملكون الحق في أن يكونوا أنفسهم في الأمكنة العامة. وأن هذه الأمكنة العامة التي يفترض بالسلطات الموكلة بتنفيذ القوانين في رحابها، تتسع للجنسين، وليست مفرقة بين جنس وآخر، وتحصر الحق في أن يكون المرء نفسه بالذكور فقط.

الحجة القانونية المتمثلة بفرض الحجاب على النساء في الأمكنة العامة، لا تفيد كثيرًا في هذا المقام. ذلك أن المكان العام هو في النهاية مكان مشترك، ويحدث أن يتعب المرء أو المرأة خلال سيره فيه، ويمكن لخصلة شعر أن تبين عرضًا أو حتى أجزاء من جسد. القانون هذا يفرض على المرأة أن تسير في الشارع كما لو أنها تسير على حبل مشدود. ويجدر بها كل ثانية أن تنتبه لما ظهر من جسمها وما خفي، ولما أبدته من زينة وما أخفته، كما لو أن القانون يريد للنساء أن يسلكن سلوكين منفصلتين تمامًا، واحد في داخل البيوت والأحياز الخاصة وآخر في الأماكن العامة. وهذا الأخير الذي يقضي بإخفاء الشخصية تمامًا، وجعل النساء في هذا المكان العام يسلكن كما لو أنهن لسن من لحم ودم، وأن أجسامهن لا تتأثر بالبرد والحر.

لم تكن مهسا سافرة، لكن حجابها كان رحبًا أكثر مما تسمح به شرطة الأخلاق. وبمعنى آخر لم تخالف مهسا هذا القانون الجائر، لكنها قد تكون حاولت التحايل عليه، وليس في التحايل على القانون جريمة ما دمنا لم نخرقه حقًا. مع ذلك لم يتورع حراس الأخلاق الإيرانيون باستخدام الشدة معها وسجنها وقتلها في ما بعد.

حسنًا نحن نناقش في القانون الذي يميز بين النساء والرجال في الأماكن العامة والحقوق التي يتمتع بها الذكور دون الإناث. إنما ما الذي يشي به فعل القتل في السجن؟ إنه ببساطة يعني أن المرأة، ما أن تخرج من بيتها حتى تقع مباشرة تحت سلطة الذكور المتواجدين في المكان العام. هذا ما يجعلها مباحة للتحرش، مثلما يجعلها مباحة للاعتقال والقتل. جريمة مهسا أن خصلة من شعرها ظهرت للعيان، لكن واقع أنها امرأة في بلد يضطهد نساءه إلى هذا الحد، يجعل من أية جريمة مهما كانت صغيرة وتافهة مستحقة للقتل. ويجعل من هذه الفتاة مباحة أمام سلطان شرطة الأخلاق ومن شاء من الناس تطبيق الحد عليها.

ولأن المسألة على هذا النحو من العمق، تبدو الاحتجاجات الحالية في إيران، أعمق من كونها احتجاجات على أزمة معيشية أو أزمة سياسية. إنها احتجاجات على التفريق المقصود بين الناس في المكان العام. وهذه احتجاجات، بصرف النظر عن قدرتها على تحقيق ما تصبو إليه، تكاد تكون آخر ما نملكه من أحلام في أن يبقى هذا العالم متسعا لكل ناسه. قد تُقمع هذه الاحتجاجات على عادة ما يجري كل حين في إيران. لكن خروج النساء للمطالبة بحقهن في استخدام المكان العام بوصفهن نساء، أمر يجدر بكل نساء العالم أن يحتججن من أجله. وهذا ينطبق تمامًا على دول متقدمة وتقيم وزنًا لحقوق الناس، وأخرى ما زالت ترى في شوارع مدنها ميدانا حصريًا للرجال.