23-سبتمبر-2017

محمد مهدي عاكف، المرشد "السابق" الوحيد في تاريخ جماعة الإخوان (حسين طلال/ الأناضول)

يخرج الطبيب ليبلغ المسؤول بأنّ الأمر قد انتهى بالفعل، فارق "المرشد" الحياة. تصل قوة أمنية إلى مستشفى القصر العيني لتجري الإجراءات بشكل سريع، كالسيارة التي خرجت من المستشفى حاملة النعش تقطع شوارع القاهرة ومن حولها سيارات أمنية، وفي انتظارها مئات، لكن ليسوا من أنصار المتوفى ولا من جماهير جماعته، فالحضور اليوم حصري على الجنود والضباط. 

تصل سيارة النعش إلى مرادها، حيث المقابر، وهناك حُمل النعش بحرص شديد. لا أحد من أهل المتوفي حوله إلا قليل، يُعدون على أصابع اليد الواحدة. الإضاءة غير جيدة في المقابر ليلًا، وكاد الهاتف المحمول أن يُصادر بسبب كشافه، الإضاءة الوحيدة تقريبًا التي عرفها المثوى الأخير لجسد المتوفي.

جنازة مهدي عاكف كجنازة حسن البنا، مع نفس الاتهامات للنظام، ومع نفس حالة الإخوان في التشتت واعتقال معظم أعضائها

دقائق وتُفتح المقبرة ويهبط الجثمان إلى مثواه الأخير في الوقت الذي تعرف فيه جماعته هبوطًا بعد أن كانت ملء السمع والبصر، فاليوم لا يستطيع أحدٌ من أفرادها أن يُودّع المرشد السابق إلى مثواه أخير.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يعني انهيار جماعة الإخوان؟

المرشد السابق الوحيد في تاريخ الجماعة، كالمرشد الأول لها، أو مهدي عاكف في جنازته بالأمس، 22 أيلول/ سبتمبر الجاري، كحسن البنا في جنازته 12 شباط/فبراير 1949. لُفظت أنفاسهما في المستشفى، ووجه للنظام مع اختلافه في عصر كل منهما، تهمة قتله، إما بالقتل الصريح مع البنا أو بالإهمال والتعنت مع عاكف، وللعجب أن جماعة الإخوان المسلمين في نفس حالها تقريبًا، مشتتة، وأعضاؤها في السجون، وتوشك الخلافات بين أعضائها على أن تقضي على ما تبقى منها، وهكذا يُعيد التاريخ نفسه مرتين.

مهدي عاكف.. تاريخ من المعارك

محمد مهدي عاكف، المرشد السابق الوحيد في تاريخ الجماعة، فارق الحياة بإصابته بسرطان البنكرياس وأمراض اُخرى، وذلك في مستشفى القصر العيني، التي كان محتجزًا في للعلاج على ذمة قضية أحداث مكتب الإرشاد، حبسًا احتياطيًا. 

عاكف الذي استطاع طوال عمره (89 عامًا)، الانتصار في معظم معاركه السياسية، خسر آخرها أمام السرطان وسط اتهامات للنظام المصري بالتعنت في علاجه حتى تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، أودى في النهاية إلى وفاته.

ولد عاكف في تموز/يوليو 1928 في محافظة الدقهلية بدلتا مصر، وشهدت حياته زُخرًا بالأحداث، بداية من انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين وهو في الـ14 من عمره، ثم توليه مسؤولية تدريب معسكر الطلاب الفدائيين ضد الاحتلال الإنجليزي بجامعة إبراهيم باشا، التي هي الآن جامعة عين شمس، وكان في أوائل العشرينات من عمره، ثم تصعّد للإشراف على قسم الطلاب والقسم الرياضي بالجماعة، قبل أن يُحاكم ضمن من قبض عليهم وقدموا للمحاكمة من أعضاء الجماعة في عهد عبدالناصر، ليصدر بحقه حكم بالإعدام خُفف للأشغال الشاقة المؤبدة، وخرج في عهد السادات ضمن من خرجوا بالعفو الرئاسي.

خلال تولي عاكف لمنصب المرشد العام، عرفت جماعة الإخوان انفتاحًا غير مسبوق على كافة التيارات السياسية المعارضة المصرية

ويُعد مهدي عاكف الذي تولى منصب المرشد العام للجماعة في 2004، نموذجًا مختلفًا عن باقي مرشدي الجماعة على مدار تاريخها، فهو المرشد السابق الأول، بمعنى أنه تولى المنصب ثم تركه في حياته بعد ست سنوات، عام 2010.

اقرأ/ي أيضًا: هل "الكائن الإخوان" مواطن مصري؟

وُصفت كذلك فترة إدارة عاكف للجماعة بأنها أكثر فتراتها انفتاحًا، سواءً على القوى السياسية الأُخرى بخوضها العديد من التحالفات السياسية ضد نظام الرئيس المخلوع حسني مُبارك، أو حتى على المستوى الداخلي ومطالبات التغيير والإصلاح التي قادها من عرفوا بـ"شباب المدونات"، وربما ذلك ما أسهم في تدارك أي محاولات انشقاق كالتي عرفتها الجماعة على مدار تاريخها.

وبجانب انفتاحه، عُرف عن عاكف آراؤه وتصريحاته المثيرة للجدل، كالقول بأنه لا خلاف بين السنة والشيعة أو أنه على استعداد لتدريب وإرسال 10 آلاف مقاتل من شباب الإخوان للدفاع عن لبنان في العدوان الإسرائيلي عليها عام 2006، ويظل التصريح الأبرز الذي بسببه واجه موجة قوية من الانتقادات التي تذكرها معارضوه ومنتقدوه الآن، هو: "طز في مصر"!

القتل البطيء وحصار الجنازة

في 18 أيلول/سبتمبر الجاري، كانت تلك آخر جلسة لقضية أحداث مكتب الإرشاد التي كان عاكف مسجونًا على ذمتها، وفي هذه الجلسة أعلن القاضي محمد شرين فهمي، تأجيلها إلى 30 تشرين الأول/أكتوبر، لحين حضور عاكف الذي لم يستطع حضور جلسة القضية لمرضه، وقد قدمت النيابة للقاضي تقريرًا طبيًا يُؤكد استحالت حضوره بالفعل لاشتداد المرض عليه.

لم يشفع لعاكف مرضه الشديد، أن ينظر له النظام بعين الرأفة، أو حتى بعين القانون ليطلق سراحه، بدلًا من حبسه على ذمتها تحت الحراسة الأمنية، ومع منع عائلته من مرافقته بشكل كامل ويومي، وصولًا لخروج جنازته دون أي حضور من ذويه وأهله إلا قلة قليلة مع محاصرة المقابر، فيما بدا أنها محاولة مقصودة للتنكيل بالرجل حيًا وميتًا.

وقالت ابنته علياء عاكف عبر حسابها على فيسبوك عقب دفن والدها: "منعوا كل حاجة".  مُضيفةً أن أبناءه حرموا لأربع سنوات هي فترة اعتقاله الأخيرة، من رؤيته.

 

 

وتمثل حالة مهدي عاكف نموذجًا لانتهاكات السلطات المصرية ضد المعتقلين السياسيين، سواءً بالتعنت أمام تدهور حالتهم الصحية، والسماح بذلك أصلًا، وانتهاءً بالتعنت في التعامل مع وفاتهم إثر هذا التدهور.  

وكانت النيابة العامة قد قدمت تقريرًا في أيار/مايو الماضي، لقاضي محكمة أحداث مكتب الإرشاد، محمد شرين فهمي، يؤكد أن عاكف يعاني من سرطان بالقنوات المرارية، وضعف في عضلة القلب، ويحتاج إلى رعاية صحية في مكانه ونقله لجلسات المحاكمة يهدد حياته للخطر، ثم عادت وقدمت تقريرًا آخر الشهر الجاري، يصف مرض عاكف، ويؤكد استحالة نقله للمحكمة، ومع ذلك لم تخلي المحكمة سبيله، وفي نفس الوقت كانت أسرته لا تستطيع مرافقته باستمرار.

انتهاكات بالجملة في السجون المصرية

يعاني الآلاف من المعتقلين في السجون وأماكن الاحتجاز المصرية من أوضاع غاية في السوء، ربما يكون أقلها التكدس في أماكن الاحتجاز، فوفقًا لتقرير أصدره المجلس القومي لحقوق الإنسان (تابع للدولة) نهاية 2014، فإن نسبة التكدس في أماكن الاحتجاز وصلت لـ400%، مُؤكدًا على أن التكدس وظروف الاحتجاز والاعتقال السيئة تسبب في ظاهرة موت المعتقلين أثناء احتجازهم، دون أن يستبعد شبهة التعذيب.  

ورغم صدور التقرير في وقت مبكر، إلا أن النظام تمادى في إهدار الرعاية الصحية للمسجونين، كما رفض النظام الإفراج عن كبار السن من المعتقلين، رغم أن المجلس القومي لحقوق الإنسان كان قد أصدر قائمة بهم للحصول على العفو الرئاسي، وكان من بين الأسماء التي تضمنتها القائمة، اسم محمد مهدي عاكف، وكذلك المستشار السابق محمود الخضيري.

وفي تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أصدر المرصد المصري للحقوق والحريات، تقريرًا يقول فيه إن حوالي 150 من المحتجزين بالسجون المصرية مصابون بمرض سرطان الرئة، و50 بسرطان القولون، و90 بسرطان البروستاتا، و200 باللوكيميا (سرطان الدم)، فيما يعاني 200 مسجون من سرطان الغدد الليمفاوية، و100 من سرطان البنكرياس، وجميع هؤلاء لا تقدم إليهم الرعاية الصحية اللازمة، رغم أن 50% منهم ظهرت أعراض المرض عليهم خلال فترة سجنهم.

يلقَى المئات من المعتقلين والمحتجزين في مصر، حتفهم، بسبب سوء أوضاع أماكن الاحتجاز والإهمال الطبي الذي يصل لدرجة التعمد

وفي تقرير للمركز العربي الأفريقي للحقوق والحريات، قال إنه خلال الفترة ما بين تموز/يوليو وكانون الأول/ديسمبر 2016، توفي ما لا يقل عن 32 سجينًا بسبب السرطان، من بين 491 إجمالي عدد المتوفين داخل السجون بسبب الإهمال الطبي. وفي آذار/مارس الماضي، قالت المنظمة العربية لحقوق الإنسان، إن عدد المتوفين داخل مقار الاحتجاز المصرية منذ تموز/يوليو 2013، بلغ حوالي 570 حالة، بينهم 465 بسبب سوء أوضاع الاحتجاز.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السجون المصرية.. زيارات العبث بالحقوق

"أشياء لا تصدق".. تقارير جديدة تفضح جرائم التعذيب لدى أجهزة الأمن المصرية