من مٌصدر إلى مستورد.. رحلة مصر مع الغاز الإسرائيلي
18 أغسطس 2025
لا تزال صفقة تصدير الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى مصر، التي أُعلن عنها مؤخرًا ووصفت بأنها "الأكبر في تاريخ صادراتها"، تثير جدلًا واسعًا في الشارع المصري. فإلى جانب تداعياتها على مستقبل الطاقة في مصر، تأتي الصفقة في توقيت شديد الحساسية، تزامنًا مع حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، والتي أسفرت عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى، ووضعت مئات الآلاف على قوائم الموت البطيء جوعًا وتحت القصف. كما أدت إلى تشريد أكثر من مليوني شخص وسط مخاوف متزايدة من مخطط لتهجيرهم قسرًا خارج القطاع.
الصفقة التي أعلن عنها وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، وتبلغ قيمتها 35 مليار دولار، تنص على بيع نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي لمصر حتى عام 2040. ووصف كوهين الصفقة بأنها حدث مهم على الصعيدين الأمني والاقتصادي، مؤكدًا أنها ستعزز مكانة تل أبيب كقوة إقليمية رائدة في مجال الطاقة يعتمد عليها جيرانها.
وأثارت هذه التصريحات غضبًا واسعًا في مصر، ودَفعت كثيرين إلى التساؤل عن الدوافع الحقيقية وراء إبرام الصفقة في هذا التوقيت الحرج. فيما أعاد آخرون ملف أمن الطاقة المصري إلى الواجهة مجددًا، ليبقى السؤال الأهم المطروح اليوم: كيف تحولت مصر من دولة مصدّرة للغاز إلى إسرائيل، إلى مستورد رئيسي منه؟
تثير صفقة تصدير الغاز من إسرائيل إلى مصر، التي وُصفت بالأكبر في تاريخها، جدلًا واسعًا في ظل تداعياتها على مستقبل الطاقة وتزامنها مع حرب إسرائيل على غزة
خارطة الغاز في مصر: الإنتاج والاستهلاك
يمثل الغاز سلعة استراتيجية في مصر، إذ تعتمد عليه حياة المواطنين والدولة معًا. وتنقسم خريطة الغاز المصرية إلى ثلاث مناطق رئيسية: البحر المتوسط الذي يشكل نحو 62% من الإنتاج، دلتا النيل بنسبة 19%، والصحراء الغربية التي تساهم بـ18% من إجمالي الإنتاج.
وتنشط في قطاع الغاز المصري قرابة 20 شركة محلية وأجنبية، أبرزها إيني الإيطالية، أباتشي الأميركية، وبي بي البريطانية. وتضم مصر عشرات الحقول، أهمها حقل ظهر الذي يعد أكبر الحقول في منطقة امتياز "شروق" بالبحر المتوسط، باحتياطيات تُقدَّر بنحو 30 تريليون قدم مكعب.
كما تضم الإسكندرية عددًا من الحقول، منها "تورس، وليبرا، وفيوم، وجيزة، وريفين"، باحتياطيات تتجاوز 5 تريليونات قدم مكعب، إضافة إلى حقل نرجس الذي تُقدَّر احتياطاته الأولية بـ3.5 تريليونات قدم مكعب، وحقل نورس في منطقة الدلتا باحتياطيات تصل إلى 2 تريليون قدم مكعب، فضلًا عن حقل أتول في شمال دمياط البحرية باحتياطيات تقارب 1.5 تريليون قدم مكعب.
ورغم هذه الاحتياطيات الضخمة، تواجه مصر حاليًا فجوة بين الإنتاج والاستهلاك تُقدَّر بنحو 2.8 مليار قدم مكعب يوميًا؛ إذ يبلغ إجمالي الإنتاج قرابة 4 مليارات قدم مكعب، بينما قفز الاستهلاك إلى نحو 6.8 مليارات قدم مكعب. هذا العجز يضع الحكومة تحت ضغط متزايد، يدفعها إما إلى ترشيد الاستهلاك أو إلى زيادة الاستيراد من الخارج.
تصدير الغاز لـ "إسرائيل"
في أواخر التسعينيات، ومع اكتشاف حقول غاز كبيرة، حققت مصر فائضًا في الإنتاج دفع الحكومة إلى التفكير في التصدير. وفي عام 2005 فوجئ المصريون بتوقيع اتفاقية لتصدير الغاز إلى إسرائيل، تقضي ببيع 1.7 مليار متر مكعب سنويًا لمدة 20 عامًا، عبر خط أنابيب يمتد من العريش إلى عسقلان.
اللافت في تلك الاتفاقية كان سعر التصدير، الذي تراوح بين 70 سنتًا و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، في وقت بلغت فيه تكلفة الإنتاج نحو 2.65 دولار، ما يعني عمليًا أن مصر كانت تبيع الغاز بأقل من نصف سعره العالمي. وزادت الانتقادات مع منح الشركة الإسرائيلية إعفاءً ضريبيًا لمدة ثلاث سنوات.
أحاطت شبهات الفساد بهذه الاتفاقية، ما أثار موجة غضب واسعة في الشارع المصري، تجلت في احتجاجات كبيرة ورفض شعبي وبرلماني. وقد قضت المحكمة الإدارية بوقف الاتفاقية لعدم دستوريتها، غير أن الحكومة ألغت هذا الحكم عبر المحكمة الإدارية العليا، ليستمر تصدير الغاز حتى عام 2011.
ثورة يناير وإلغاء الاتفاق مع الكيان
مع اندلاع ثورة كانون الثاني/يناير 2011 وما رافقها من اضطرابات داخلية، تعرّض خط الغاز الواصل بين العريش وعسقلان لأكثر من 15 تفجيرًا نفذتها جماعات مسلّحة في سيناء، ما أدى إلى توقف الإمدادات. وتزامن ذلك مع تراجع حاد في الإنتاج المحلي من الغاز بسبب نضوب بعض الحقول وتأخر تطوير أخرى.
وفي ظل تنامي المطالب الشعبية بوقف التعامل مع إسرائيل، باعتبار ذلك من أبرز مطالب الثوار آنذاك، ألغت الحكومة المصرية اتفاقية تصدير الغاز إلى تل أبيب في نيسان/أبريل 2012، مبررة القرار بعدم سداد المستحقات وبالمشكلات الأمنية.
حينها واجهت مصر أزمة طاقة خانقة، انعكست في انقطاعات متكررة للكهرباء وتوقف بعض المصانع، ما دفع الحكومة إلى البحث عن بدائل خارجية واللجوء إلى الاستيراد لسد العجز الذي عانى منه السوق المحلي.
حقل ظهر والاكتفاء الذاتي
بينما كان المصريون منشغلين في البحث عن بدائل لسد العجز الداخلي من الغاز، أعلنت شركة "إيني" الإيطالية عام 2015 عن اكتشاف حقل "ظهر" العملاق، والذي وُصف بأنه أكبر حقول الغاز في البحر المتوسط، باحتياطي مؤكد يناهز 30 تريليون قدم مكعب.
وقد أعاد هذا الاكتشاف الأمل للمصريين في تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز، بل والتصدير مجددًا. وبالفعل، ارتفع الإنتاج المصري إلى 3 مليارات قدم مكعب يوميًا عام 2018، وهو ما اعتُبر حينها نقلة نوعية وخطوة مهمة نحو تحقيق حلم الدولة المصرية في تبوؤ مكانة بارزة على خارطة الطاقة العالمية.
لكن بينما كان الإعلام المصري يحتفي بحقل "ظهر" والطفرة المتوقعة، فاجأت الحكومة الجميع بإبرام اتفاق جديد عام 2018 لاستيراد الغاز من إسرائيل، حيث وقّعت شركة "دولفينوس" المصرية اتفاقية مع شركتي "ديليك" الإسرائيلية و"نوبل إنرجي" الأمريكية لاستيراد 64 مليار متر مكعب من الغاز من حقلي "ليفياثان" و"تمار" الإسرائيليين لمدة عشر سنوات. وقد بدأ ضخ الغاز رسميًا في كانون الثاني/يناير 2020.
وبررت الحكومة المصرية هذه الخطوة بأنها تهدف إلى تعزيز مكانة مصر الإقليمية كمركز لتصدير الغاز إلى أوروبا، إذ تستورد الغاز الإسرائيلي لتسييله في محطاتها في دمياط وإدكو، ثم تعيد تصديره، محققة بذلك عائدات من رسوم وخدمات التسييل.
الحرب الأوكرانية واستنزاف "ظهر"
مع اندلاع الحرب الأوكرانية عام 2022، وتأثر إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، وتصاعد احتياجات القارة العجوز لمصادر الطاقة المختلفة، رأت مصر في تلك الأجواء فرصتها لتعزيز صادراتها من الغاز وتحقيق عائدات دولارية لسد أزمتها الاقتصادية التي كانت تعاني منها آنذاك.
ونتيجة لذلك، كثّفت التصدير دون مراعاة توازن مدروس، ما انعكس سلبًا على حقل "ظهر" الذي استُنزف احتياطيه بشكل كبير، ليتراجع إنتاجه اليومي إلى نحو 1.9 مليار قدم مكعب في عام 2023.
وللوفاء بالتزاماتها التصديرية تجاه أوروبا وتجنّب الغرامات، لجأت الحكومة المصرية إلى اقتطاع جزء من حصة الغاز المخصّصة للاستهلاك المحلي. وقد أدّى ذلك إلى تفاقم أزمة الطاقة داخليًا، مع ازدياد انقطاعات الكهرباء وتوقف بعض المصانع، وهو ما دفع الحكومة إلى تطبيق سياسات "تخفيف الأحمال".
تمديد الاتفاق مع الإسرائيليين
قبل أيام، أعلنت شركة "نيومد إنرجي" الإسرائيلية، أحد الشركاء في حقل "ليفياثان" للغاز الطبيعي، توقيع أكبر اتفاقية تصدير في تاريخ "إسرائيل" بقيمة تصل إلى 35 مليار دولار، لتوريد 130 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى مصر حتى عام 2040 أو حتى استيفاء الكميات المتعاقد عليها، وفق ما نقلته وكالة "رويترز".
تنقسم الصفقة إلى مرحلتين أساسيتين:
- المرحلة الأولى: تبدأ في النصف الأول من عام 2026، وتشمل توريد 20 مليار متر مكعب بعد تعزيز قدرات الإنتاج والنقل عبر ربط خط أنابيب ثالث بحقل "ليفياثان" لرفع طاقته الإنتاجية إلى أكثر من 14 مليار م³ سنويًا. كما سيتم تطوير خط أشدود–أشكلون لزيادة قدرة خط أنابيب شرق المتوسط (EMG) بين أشكلون والعريش بنحو 2 مليار م³ إضافية سنويًا، لترتفع صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر إلى 6.5 مليار م³ بحلول 2026 بدلًا من نحو 4.5 مليار م³ حاليًا.
- المرحلة الثانية: وهي الأكبر، ستنطلق بعد توسعة حقل "ليفياثان" (المعروفة باسم Phase 1B) وإنشاء خط أنابيب جديد عبر منفذ نيتسانا على الحدود لنقل الغاز مباشرة إلى مصر. وسيؤدي هذا الخط العابر للحدود إلى رفع القدرة التصديرية بشكل كبير ليصل الضخ السنوي إلى نحو 12 مليار م³.
وبحسب "رويترز"، فإن الاتفاقية الجديدة تُعد امتدادًا للاتفاق الموقع عام 2019 لتوريد 60 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 15 مليار دولار حتى أوائل ثلاثينيات هذا القرن. ومنذ بدء تشغيل حقل "ليفياثان" عام 2020، استلمت القاهرة نحو 23.5 مليار متر مكعب، ما يعني أن الصادرات لمصر ستتضاعف ثلاث مرات بموجب الاتفاقية المحدثة.
وقّعت شركة "نيومد إنرجي" الإسرائيلية اتفاقية لتصدير 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر حتى 2040، بقيمة 35 مليار دولار، وهي الأكبر في تاريخها
وكان الاتفاق قد عُدّل قبل أشهر لرفع الإمدادات من 850 مليون وحدة حرارية يوميًا إلى 1.2 مليار وحدة بحلول حزيران/يونيو 2025، ثم إلى 1.5 مليار وحدة مع نهاية آب/أغسطس من العام نفسه، غير أن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بما تم الاتفاق عليه، وهو ما وضع الحكومة المصرية في موقف حرج داخليًا، أدى إلى انقطاع مؤقت للكهرباء وتعطل بعض المصانع.
وأثار توقيت الإعلان عن تمديد الاتفاق جدلًا واسعًا، إذ جاء بينما تشهد غزة حرب إبادة وحشية على أيدي القوات الإسرائيلية، في خرق فاضح للأعراف والمبادئ الإنسانية. وبينما يرى فريق أن الصفقة تمثل سقطة أخلاقية تُسيء إلى الدولة المصرية وتضعها في حرج سياسي إزاء القضية الفلسطينية، يعتبر آخرون أنها خطوة اقتصادية براغماتية بحتة لن تؤثر على القرار السياسي المصري، وفق ما صرح به رئيس الوزراء مصطفى مدبولي.