قرّر رسول الله (ص) أن يبعث معاذ بن جبل ليكون قاضيًا على اليمن، ونُقل عن معاذ أن رسول الله سأله قبل أن يسافر: كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ فأجاب معاذ: أقضي بما في كتاب الله. فعاود الرسول السؤال مرة ثانية: فإن لم يكن في كتاب الله؟ يواصل معاذ الإجابة: فبسُنَّة رسول الله. لكن سؤال الرسول لا يتوقف: فإن لم يكن في سنة رسول الله؟ قال معاذ: أجتهد رأيي لا آلو. هنا شعر الرسول بالارتياح وحمد الله الذي وفّقه إلى ما يرضاه.
بعض شيوخ زماننا الأجلاء يتخذون مواقف أقرب إلى المزايدة على رسول الله ذاته
المحاورة التي نحن بصددها أحد طرفيها هو رسول الإسلام ذاته وهو يسأل سفيره أو مبعوثه إلى اليمن، كيف سيقضي بين الناس وعلى أي مرجعية سوف يستند، فيردّ هذا المبعوث (معاذ) أنه سيرجع إلى كتاب الله وهي إجابة لو قيلت لأي إنسان لاجترّت خاتمة الكلام فليس بعد قول الله قول آخر، لكنه النبي ذاته يعاود السؤال العميق والكاشف: فإن لم يكن في كتاب الله؟ أي أن النبي يدرك بوعي جذري وحدس نافذ أن هناك مسائل وقضايا قد تُعرض على معاذ ولن يجد الإجابة كاملة في كتاب الله. هنا يلجأ معاذ إلى المصدر الثاني أمام أي مسلم وهو السنة النبوية، ولا تتوقف نظرة الرسول الثاقبة، وربما لو استمع غيره إلى الإجابة لتوقف مكتفيًا، لكن الرسول غير كلّ الناس، لذا ألحّ في السؤال على معاذ مجددا فيردّ الأخير على النحو السابق: أجتهد رأيي لا آلو.. هنا يشعر الرسول بأن الإجابة صارت مكتملة.
اقرأ/ي أيضًا: مصر ونظرية شيخ العرب
جرت تلك المحاورة وكان المجتمع آنذاك بسيطًا ومحدودًا، وكان الرسول لا يزال قائمًا بين المسلمين، يستمعون منه ويلجؤون إليه فيما عرض لهم من أمور وقضايا، والآن ونحن في مجتمع مغاير تمامًا وظروف حياة تبدّلت، وانقضى أكثر من 14 قرنًا عليها كان ركوب الجمال وسيلة للسفر وصارت اليوم الطائرات الأسرع من الصوت، لكن بعض شيوخ زماننا الأجلاء و"المتشايخين" يتخذون موقفًا أقرب إلى المزايدة على رسول الله ذاته وإذا حدثتهم في مشكلة ما صاحوا فيك بأن كلّ صغيرة وكبيرة في الماضي والحاضر والمستقبل أيضًا وُجدت في القرآن الكريم.
تحدّثهم عن علوم الذرة والانشطار النووي وعن الصواريخ وسفن الفضاء والمريخ فيردّون إن كلّ هذا مذكور في القرآن، ويتوقفون أمام بعض الآيات القرآنية أو كلمات في استنتاج مغرق في التعسّف العلمي وليّ عنق النصوص. فإذا جادلتهم في أن هذا لا يجوز وأننا نزجّ بالقرآن وهو كتاب المسلمين المقدّس في مسائل وأمور متغيّرة؛ اتهموك في عقيدتك واعتبروك مشكّكًا في القرآن ويجب استتابتك أو اقتادوك إلى المحاكم، ولدينا محامون تخصصوا في هذه القضايا، وقد يمتدّ الأمر إلى إهدار الدم والتفريق عن الزوجة والنماذج والشواهد لدينا عديدة.
اقرأ/ي أيضًا: فـخُ المنطقـة الخضراء
وإذا عرضت مشكلة جادة أمام الناس تمسّ حياة البعض كزراعة الأعضاء مثلًا؛ تشدّدوا ورفضوا أي تيسير على الناس بدعوى أن القرآن لا يجيز ذلك أو أنه ليس في القرآن ما يبيحه ولا في السنة ما يجيزه، أما الاجتهاد الذي حرّض عليه الرسول على ممارسته فلا مكان له كما يبدو عند هؤلاء السادة الشيوخ الأفاضل.
يتقدم الفقه الإسلامي على ثقافة الإنجليز من حيث جعل خطأ التفكير حقًا، وأنه لا يمنع ثوابه وأجره
لم تكن محاورة الرسول ومعاذ الوحيدة في هذا الجانب أي الدعوة إلى الاجتهاد بالرأي، فالرسول هو الذي نصح المسلمين في سياق آخر قائلًا: أنتم أعلم بشؤون دنياكم، وليس هناك توجيه وخطاب أوضح من ذلك للاجتهاد، لذا قيل: حيث تكون مصلحة الناس فثمة شرع الله، وقيل أيضًا إن الاجتهاد في كلّ عصر "فرض". وأتصوّر أن الفرض يجب أن يتم وأن يكون قائمًا في كل عصر وزمان وكل مكان، لكن بعض شيوخنا أغلقوا باب الاجتهاد بل مارسوا تخويف كل من يحاول أن يجتهد، رغم أن الإسلام أقرّ درجة من الثواب لمن اجتهد وأخطأ فيكفي له محاولته واهتمامه بقضايا الناس وشواغلهم، حتى لو كانت مسألة نظرية، فالمهم أنه انشغل بالقضية موضع الاجتهاد، وهذا مبدأ رفيع على المستوى الإنساني، لكننا نسينا هذا كلّه وأخذنا بالنظرية الرجعية "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، وعشنا نردّد ونجترّ ما قاله وما قام به إسلامنا.
يفخر الإنجليز بأن ثقافتهم تقرّ للفرد "حق الخطأ"، مما يعطيهم حرية التفكير، لكن الفقه الإسلامي يتقدّم عليهم خطوة بأن جعل خطأ التفكير حقًا، وأنه لا يمنع ثوابه وأجره، لكن البعض بيننا يتجاهلون ذلك ويحاولون فرض كهنوت خاص على عقولنا. وإذا كان الاجتهاد ضروريًا إلى هذا الحد في قضايا الفقه والدين، فما بالنا بقضايا الصحافة والسياسة حيث يحاول كهنة الصحافة والسياسة تجريم الاجتهاد وتخوين المجتهد وإهدار سمعته وكبريائه ومحوه إن أمكن. في الدين والفقه والشرع للمجتهد درجة حتى لو أخطأ، لكنهم في السياسة والصحافة يجرّمون المجتهد حتى لو أصاب وتأمّل حولك لتعرف كيف يُجازى المجتهد على عمله في بلدٍ يمشي بالمقلوب.
اقرأ/ي أيضًا: