من سحر خليفة إلى بدار سالم.. جينات التعب الفلسطيني في الرواية
13 أكتوبر 2025
ماذا لو لم أكن فلسطينيًا؟ أو لو لم نولد هنا، في هذا المكان المثقل بالألم والتاريخ؟
أحيانًا أتخيل نفسي مولودًا في سوريا، أو المغرب، أو بجينات لا تشبه جينات هذا المكان، لا تحمل ذاكرته، ولا هذا التعب الموروث في العظام.
عظامنا متعبة فعلًا. حتى كتابة مقالة عن رواية تبدو مهمة شاقة، كأن الكتابة نفسها تحتاج إلى جينات لم ترث هذا النوع من التعب، ولم تتشرّبه مع الحليب والهواء.
كنت أقرأ "عبّاد الشمس" لسحر خليفة، وسحرتني منذ الصفحات الأولى، لكنني تركتها حين بدأت رواية بدار سالم "وحيدة كغرفة مزدحمة" (دار الآداب 2024).
ربما لأن التعب الفلسطيني ذاته ينتقل من كاتبة إلى أخرى، كما لو أنه يُورث ويستقر في الكلمات قبل أن يصل إلى القارئ.
لم أترك "عباد الشمس" لأنها أقل جمالًا، بل لأن رواية بدار كانت أقرب إلى سؤال الزمن الذي أعيشه ونعيشه.
مجدل تشبهني، أو ربما أنا من يشبهها. نتقاطع في الحكاية نفسها، مع فارق وحيد: وجود أمي.
لكن، ماذا يعني أن تكون الأم موجودة فعلًا؟ وماذا يعني أن يكون لنا وطن… لا يثقل علينا بتاريخه، ولا يركلنا في تفاصيل حياتنا اليومية؟
وطن من تراب وحدود وسيادة ومطار وميناء. وطن لا يسكن عظامنا سكنى الألم القديم، بل نلتقيه في تفاصيل يومية لا تحتاج لأن تعتذر عن وجودها.
تتخلى الرواية من أول صفحاتها عن أن تكون رواية عظيمة، لا تريد ذلك. بل تقول الحكاية كما هي، فتاة عادية اسمها مجدل، لها أخت اسمها ليل، ماتت أمها وهي صغيرة، وأبوها يساريّ من زمن الانتفاضة الأولى، ويعيش أخوالها في الأردن بأحوالهم الخاصة، وكأن كل شيء من حولها مجرد صدى للتاريخ، بشكله الخاص أو العام. بعد موت الأم وزواج الأب من امرأة أخرى بعد الضغوط، تتفجر الحكاية، حكاية البنت الفلسطينية التي وجدت نفسها يتيمة في رام الله، تتخبط بين الغياب والحضور، بين أن تكون موجودة فعلًا أو مجرد شاهد على حياتها، بدءًا من أسئلة الثانوية العامة وانتهاء بأسئلة السفر والخيارات التي لا تنتهي، لتجد نفسها في كل مرة، ومع كل محاولة للسفر والدراسة، تعود إلى رام الله، كأنه لا انفكاك من اللعنة.
تأتي الرواية على شكل رسائل، ترسلها مجدل إلى جهات العمل أو المنح الدراسية أو حتى لحبيبها أو طبيبها النفسي، وأختها، وفي النهاية إلى والدها. رسائل محمولة على سخرية لاذعة، كأنها تكتب لتؤكد أن هناك دومًا حكاية أخرى للحكاية، لا تقال بالكامل ولا تروى.
كأن الفلسطيني لا يعيش حياته ليختارها، بل ليُعاد سردها باستمرار كجزء من حكاية أكبر منه، حكاية تُكتب عنه أكثر مما تُكتب بيده!
لا نقرأ هذه الروايات بحثًا عن متعة القصص فقط، بل لنفهم كيف يمكن أن تكتب فلسطين نفسها، مرةً بآلام الأم، ومرة بصمت الأب، وأخرى بصوت بنت تبحث عن ظلّها في مدينة مزدحمة بالحواجز والأسئلة. نقرأها لأننا نشبهها، لأننا نحاول، في كل صفحة، أن نجد اسمًا لما نشعر به ولا نعرفه. وفي النهاية، ليس مهمًا إن كانت الرواية عظيمة أو بسيطة، ما دام هناك من يكتبنا، ولو عن غير قصد. وبالفعل، بعض الكتب تنبت مثل شجرة زيتون لا نعرف متى زُرعت، ومتى وصلت إلى هذا الحجم، لكننا نعرف ما هو أهم: أننا منها.
على الرغم من أن الرواية في شكلها الأخير تبدو سلسة وسهلة البناء، إلا أنه بعد القراءة يصبح من الصعب على القارئ هدمها، ليس لأنها مغلقة أو معقدة، بل لأن مجدل، بطلتها، حتى لو ظهرت بهذه الصورة السلسة، صعبة بذاتها؛ صعبة بمعنى أنه من العسير بناء شخصية روائية حقيقية لبنت فلسطينية بهذا الوزن من المعاناة والوجود. صعب التعبير عنها أو كتابة هذه العقد الموروثة، تمامًا كما كان من الصعب على سحر خليفة أن تبني شخصياتها في عباد الشمس، سعدية وخضرة، دون أن تصطدم بالأسئلة التي يعرفها الفلسطيني أكثر من غيره.
ومع أن سعدية وخضرة تعيشان في زمن روائي مختلف، إلا أن مجدل بدت، للحظة، كما لو أنها كانت ابنة لإحداهما، كما لو أن العقدة انتقلت إليها دون أن تدري الكاتبة أو تتقصد ذلك، كأن المعاناة المستمرة تلد أبناءها أو تتجسد من جديد عبر الكلمات والقصص، من جيل إلى جيل، لتظهر في شخصيات جديدة تحمل نفس الوزن من الألم ونفس ثقل التاريخ، وحتى نفس الأسئلة التي لا تهدأ، وتعيد اختبارها في كل قرار وكل خيبة.
وهنا، لا تبقى الرواية مجرّد حكاية فتاة في مدينة، بل تتحوّل تدريجيًا إلى سيرة جماعية مكتوبة على جسد فردي. تصبح مجدل مرآة لجيلٍ ولد في المسافة الحرجة بين حنين لا يُطاق وواقع لا يُحتمل، بين رغبة دائمة بالخفة واستحالة التخفف من إرث لم يختره. تتكثف في صوتها هموم كثيرة عائلية، وفوقها الارتياب العاطفي والسياسي معًا. ولعلّ هذه هي وظيفة الرواية الفلسطينية اليوم، أن تقول ما لا يُقال في نشرة الأخبار، أن تلتقط ما يتسرّب من الحياة اليومية، وأن تبني خريطة وجدانية لشعبٍ يعيش فوق ركام الذاكرة، ويبحث، في كل رسالة، عن طريقةٍ ما للتنفس.
لا تُستخدم اللغة لمجرد سرد قصة، بل هي كتابة تحاول أن تمنح المعاناة شكلًا، وأن تضيء هشاشة الوجود الفلسطيني من الداخل بالتفاصيل اليومية التي تحمل ثقل التاريخ في جسد فتاة شابة. الرواية محاولة لفهم ما يصعب فهمه، ولبناء معنى وسط كل هذا التفتت. وكأن الحكاية، حين تُروى بهذه الطريقة، تصبح أداة للنجاة لأنها تجيد إعادة ترتيب الألم داخل كلمات يمكن احتمالها.
تبدو رواية "وحيدة كغرفة مزدحمة" مثل يوميات لامرأة قصيرة تمشي في رام الله، بإيقاع بطيء لكنه متواصل. وكأن الفلسطيني لا يعيش حياته ليختارها، بل ليُعاد سردها باستمرار كجزء من حكاية أكبر منه، حكاية تُكتب عنه أكثر مما تُكتب بيده. وهكذا لا تبقى الرواية مجرد حكاية شخصية، بل تصبح مرآة لقدَر جماعي: أن تولد في أرض مثقلة بالتاريخ، حيث لا يمكنك أن تعيش دون أن تُروى.