06-مارس-2022

صورة تعبيرية (Getty)

لا بد من التأكيد بداية على أنه لا يوجد ما يسمى بثقافة الصورة بالمعنى المطلق للكلمة، بل ثمة دلالات متمايزة، متأصلة، مستحدثة، تمنح لتلك الصورة ثقافة ما، تختلف من جيل إلى جيل، ومنها ما يستمر ثابتًا، ومنها من يتغير بين ليلة وضحاها.

لكن ما يمكن الشغل عليه هو تلك المسافات من التجريد بين الصورة كمادة أو كشكل وبين دلالاتها أو مضامينها، فثمة صور تسطع بدلالات واضحة لا خلاف عليها، وثمة صور لها ثقافتها المنجزة تاريخيًا، أو المتأصلة عبر قرون، أو تعود لمرجعيات لا لبس فيها، حتى لو كانت طوطمية أو غيبية، وثمة صور تتداخل فيها الدلالات مع المعاني والأشكال مع المضامين، ويظهر هذا التداخل بوضوح في الفن التشكيلي، ويمكن تحديده أحيانًا ضمن مدارس فنية معينة، بدءًا من الواقعية ومرورًا بالسريالية وانتهاء باللامعقول، أو ما بعد الحداثة.

ثمة صور تسطع بدلالات واضحة لا خلاف عليها، وثمة صور تتداخل فيها الدلالات مع المعاني والأشكال مع المضامين

وتظل الأسئلة قائمة عن تداخل تلك المدارس في ظل سيطرة الفردية، لكنها تبقى متمحورة حول الصورة بمعناها المادي وأبعادها وألوانها وتعبيراتها.

اقرأ/ي أيضًا: فوبيا الصورة بين اللاهوت والفلسفة

أما الأسئلة المحيرة فهي تلك التي تدور حول ثقافة الصورة بمعناها الإنساني، أي كيف يسعى الفرد لبلورة صورته في المجتمع، في مرآته، في نظرة العيون إليه؟

هنا تحديدًا يمكن الحديث عن ثقافة الصورة بين التقليد والتقاليد، وتمظهراتها بأشكال ووضعيات وملامح لا تتسعها صفحات عدة، وربما أبحاث عدة. فحين ترتدي فتاة ما، عباءتها السوداء، وتنفش شعرها وتضع أزهى المساحيق على وجهها، وترتدي تحت العباءة آخر "موديلات الجينز أبو سّرة"، أو ما شابه ذلك من صرعات الوشم والأزياء.. وثمة من ترتدي الحجاب على رأسها، وتعيد تشكيل كل جسدها "بقمصان وبلاطين" تظهر دون حياء كل تفاصيل، بل وأدق تفاصيل جسدها.. ماذا ظل من صورة العباءة والحجاب؟ إلى أي حد وصل تجريدهما من دلالاتهما التقليدية؟ وهل يصب ارتداؤهما في فرض التقاليد بشكل قسري، أم هي حالة من حالات الاستلاب للصورة؟ وإلى أي درجة من حالات الفصام قد يصل ذلك بالصورة وصاحبتها ودلالاتها؟

وفي المقابل ثمة ما يمكن إطلاق توصيف ظاهرة عليه، وهي ظاهرة إطالة الشباب لشعورهم، وتهذيبهم للحاهم بطريقة ما يسمى بـ"السكسوكة أو القفل" دون أخذ أي اعتبار لمكونات الصورة كصورة، فمنهم من تجعل السكسوكة إياها وجهه متطاولًا، أو بشعًا بتوزيع الظل والضوء، أو حتى بتوزيع الشعر، وخاصة عند من يعانون من كثافة في الإنتاج وسوء في التوزيع.. ومنهم من لا تتناسب ألوان بشرتهم أبدًا مع ألوان شعرهم فيظهر ما تبقى من لحاهم كلطخة غريبة.

المكان الذي تم فيه اغتيال جيفارا تحول إلى مزار يطلق عليه مزار القديس إرنستو ويؤمه الناس من منابع مختلفة الانتماءات ومتنوعة الجغرافيا

ومنهم من يتحول مجزوء لحاهم إلى شكل كاريكاتيري يهتز أو يتراقص بحركات غريبة تبعًا لثرثرتهم أو ضحكهم أو علكهم.. والأمثلة كثيرة عن التناقض والتنافر بين الموضة والجمال، والتقليد الأعمى وفن الاختيار.. فتحت أي ثقافة تندرج ثقافة تلك الصور؟ وهل ثمة تغيرات قد تطرأ على المعنى الرمزي للصورة عبر التاريخ؟

اقرأ/ي أيضًا: أجسام قيد الصورة العابرة

المكان الذي تم فيه اغتيال جيفارا تحول إلى مزار يطلق عليه مزار القديس إرنستو ويؤمه الناس من منابع مختلفة الانتماءات ومتنوعة الجغرافيا، يتباركون ويؤلفون حكايات وحقائق واعتقادات وتصورات، ويراكمون شعائر دينية وأيديولوجية وربما تكون مقدسة من حيث مبدئيتها، أو من حيث إيمان أصحابها بها. لكن أين جيفارا الأسطورة وتحوله إلى رمز للنضال الأممي، وأين رمزية جيفارا وصياغتها لأساطير عن البطولة والتضحية في التمظهرات المتشظية هنا وهناك عن صورته وقبعته وشكله وملامحه وثيابه، وحتى خصلات من شعره التي عرضها غوستافو فيلودو- الرجل الذي قاد مهمة القبض على جيفارا- للبيع بالمزاد العلني؟

ها هو جيفارا الأسطورة والرمز تهتز صورته على ثوب مراهقة ساذجة، لا تعرف ماذا تعني أو حتى لا تعرف من هو صاحب الصورة التي قد تتسخ على قميص شاب أرعن، أو تتراقص مع فرق الروك اندرول والبيتلز، أو تتسوق مع إعلان هنا أو تسوّق لإعلان هناك؟

الرقم عشرة

لا تتوقف الإعلانات على الصور، بل ثمة علاقة جدلية تجمعها بالأرقام في العرض والطلب، وفي الجمع والتشكيل وفي المحو والتأريخ. والترابط بين الصورة والرقم قد يعود إلى الخوارزمي الذي اعتمد على شكل الزوايا، أي على صورها؛ فالرّقم (0) يخلو من الزوايا، والرّقم (1) يحتوي على زاوية واحدة فقط، والرّقم (2) يحتوي على زاويتان، بينما يحتوي الرقم (3) على ثلاث زوايا.. وهكذا. لكن الترابط اللافت بين الصورة والرقم نجده بوضوح في عالم كرة القدم، فدائمًا ما يرتبط الرقم 10 في هذا العالم باللاعب الأفضل في الملعب أو صاحب المهارات والأهداف على مدار السنين، ويمكن القول إن كل من ارتدى الرقم 10 امتاز بالحنكة والمكر الرياضي في الملاعب والبطولات، على غرار أساطير مثل مارادونا وبيليه ورونالدينيو وليونيل ميسي وميشيل بلاتينى وزين الدين زيدان، وفرانشيسكو توتي القائد التاريخي لفريق روما الإيطالي. تبدلت الوجوه والصور وأشكال اللاعبين وجنسياتهم وتاريخهم.. وظل الرقم عشرة كما هو. لكن للأسف لم يتوقف التميز بين اللاعبين برقم كنزتهم الرياضية، بل صار بالأرقام الخيالية لأسعاره، وإذا كانت أول صفقة بيع تعود للعام 1893، حيث تم انتقال اللاعب ويلي غروفس من نادي ويست بروميتش ألبيون إلى نادي استون فيلا بقيمة 100 جنيه استرليني، فإن العام 2009 شهد مثلًا انتقال كريستيانو رونالدو إلى ريال مدريد، قادمًا من مانشستر يونايتد، بقيمة تعادل 94 مليون يورو، في حين تعتبر صفقة بيع برشلونة للبرازيلي نيمار جونيو، إلى نادي باريس سان جيرمان، هي الأغلى في تاريخ كرة القدم لحد الآن، إذ وصلت إلى 222 مليون يورو.

هل للأرقام ثقافة؟ سؤال يشطر علم الرياضيات إلى شطرين متنافرين، يصبغ على الثاني بعدًا معنويًا تدب فيه الحياة

ثورة الديجتال

هل للأرقام ثقافة؟ سؤال يشطر علم الرياضيات إلى شطرين متنافرين، يصبغ على الثاني بعدًا معنويًا تدب فيه الحياة، ويبقي على الأول موضوعيته الجافة، وعلميته الصارمة، لكن ماذا عن الإيحاءات التي تمنحها الأرقام لذاتها في بلد دون آخر، وماذا عن الفعل المعرفي الذي قدمته وتقدمه الأرقام على الصعيد التقني، وماذا عن هوس الأرقام فيما وراء الطبيعة والسحر والحظ؟

 

ثورة المعلومات قامت وانتشرت عبر الديجتال، والتحول الرقمي منح الأجهزة الإلكترونية الحديثة مجالات شاسعة من التطور في سبر المعلومات وتحقيقها وحفظها ونشرها بسرعة جنونية، وهذا هو الجديد الذي أعطى للأرقام بعدًا عالميًا واحدًا، ومنحها مفاهيم خاصة، وإن لم تشكل بمظهرها الحديث ثقافة بعينها لأن الشطر الأول من علم الرياضيات مازال يطفو مع المبحرين عبر الشبكات، إلا أنها قدمت للثقافة الكثير الكثير الذي بات يدركه الجميع من خلال حصولهم على ما يريدون من المعارف عبر كبسة زر.

اقرأ/ي أيضًا: من مارادونا إلى فاتي.. حكاية برشلونة مع الرقم 10

وتنشطر الأسئلة من جديد وتتشظى، عدد الشظايا يعيدنا لوهلة الرقم، لكن صبوة المعرفة تعود بنا دائمًا لبعدها الإنساني، لصانعها الأول وأسئلته عن إيحاءات الرقم ذاته في خرائط الانتماءات. لماذا يكون رقم خمسة لسيارة أغلى من سعرها بأضعاف في بلد ما، ورقمًا لسيارة شرطة في بلد آخر؟ ولماذا في عالم الاستهلاك، يصير الإنسان متكرشًا ومطأطئًا رأسه كالديك المذبوح، تمامًا هكذا كالرقم "5" المميز ؟ هل هي ثقافة الغربة أم ضريبتها حسابيًا؟ لماذا يكون دلالة على حظ برج ما والأقرب للرقم الأعلى في حجر النرد؟ ولماذا يكون الرقم واحد بداية العد وبداية التمييز، ويكون مشاعر وحدة وانطوائية وعزلة؟

ولماذا يمكننا كتابة سبعة وسبعين مجلدًا عن الرقم سبعة بغض النظر عن الشمعدانات السبعة والإشكاليات الحسابية، بينما الرقم تسعة الملامس للوصايا العشر، وسهولة التعامل معه ومع مضاعفاته التي تؤلف متوالية رياضية سرمدية الحسابات، لا يلقى من يلتفت إليه إلا من قبل صاحب حظه في الأبراج، أو رابحه في لعبة القمار؟ لماذا الرقم "13" كالبوم، مصدر تشاؤم في بلد ما وتفاؤل في بلد آخر؟ أي مرجعيات اجتماعية ودينية وتاريخية بلورة تلك الأعراف؟

هل سيأتي يوم تتحول فيه الإيحاءات والدلالات إلى ثقافة لها مقوماتها وأسسها، طالما أن للغيب فينا حيزه الدائم؟ وماذا عن العلم، هل سيفند دائمًا، عبر موضوعية الأرقام، ترهات الوهم وفبركات النصب؟ وهل سيواجه صناع الأرقام في تجييرها لصالحهم والتلاعب فيها حتى رياضيًا؟

من التلاعبات الرقمية اللافتة في الماضي القريب، جاء عبر رويترز هو أن وزارة الطاقة الأمريكية ترى دولة الإمارات الفتية أكبر ملوث للبيئة في العالم من خلال انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون منها، والتي تصل إلى معدل 60 طنًا متريًا للفرد الواحد، بينما كندا 2، وهولندا 5، وبلجيكا 14، والولايات المتحدة 21، واستراليا 19، مقارنة مع الاتحاد الأوروبي نحو 9 أطنان من الانبعاثات.. والمفارقة المذهلة أن هذا التلاعب تم ثقافيًا من خلال إنسانية الحفاظ على البيئة، ورياضيًا من خلال إقران التلوث الكربوني بدخل الفرد في العام وعدد السكان.

هل سيأتي يوم تتحول فيه الإيحاءات والدلالات إلى ثقافة لها مقوماتها وأسسها، طالما أن للغيب فينا حيزه الدائم؟

والتلاعب في الارقام لم ولا يتوقف على التلوث والاحتباس الحراري، بل قد يصل إلى التلاعب بدرجة حرارة الطقس، حيث تقوم بعض الدول بالتكتم عليها كي لاتسمح بالعمال بمغادرة عملهم طيلة النهارات الملتهبة، وخاصة في الصحراء. والغريب إننا لم نسمع إدانات حقوقية دولية شافية أو مضاعفة، رغم أن هناك جدولًا للضرب يضاعف الأرقام.

اقرأ/ي أيضًا: الرقم 3

 لمفارقة المؤلمة حين يصير السجناء والأسرى مجرد أرقام، وحين تحمل الصورة الناصعة للحياة أرقامًا مؤلمة عن الموت، كما حدث ويحدث مع الآلاف من الأطباء والممرضين الذين يفقدون أرواحهم وهم ينقذون حياة المصابين بفيروس كورونا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المكتبات في خلفيّة الصورة

تيسير خلف.. عن التحليلات الجينية العربية