حضارة
يفتح الصنبور فتنزل الحجارة المدببة، وتتجمع في الحوض كجبل صغير محدثة صوت انهيار، ويتطاير من بينها شرر خفيف. يتناول حجرًا بارزًا، ويلتقمه بحركة بهلوانية، فينساب الحجر كنقطة زيت إلى جوفه. في الخارج حجارة صغيرة تسقط متفرقة على النوافذ المدعمة، وأسطح البيوت، وفي الشوارع تتشكل سيول حجرية تبدأ ضئيلة قبل أن تتجمع في نهاية الحي كنهر جارف لا يصمد في وجهه شيء. حبيبان صغيران يتبادلان القبل تحت إحدى المظلات، وزخات الحجارة تحدث آثارًا خفيفة على أقدامهما. أحجار لها أثر مدغدغ؛ إذ ينفرطان بعدها في موجة هستيرية من القهقهة.
العصر الحجري الجديد، خاتمة حضارة الإنسان، كما بدأ يعود، من حجر وإلى حجر، أبسط أشكال الحضارة وأعقدها في آن. تعود إليه ذاكرته الأولى بكتل اللهب الساقطة من السماء قبل أن تصير حجارة، وبالأشجار العملاقة التي تسد عين الشمس قبل أن تصير حجارة، وبالمفترسات الفتاكة تجري وتسبح وتطير قبل أن تصير أيضًا حجارة. حجارة يرفع منها بنيانه ويقيم عليها مسارحه وتنام في قلبها طرقه ومخابئه.
يغلق الستارة عن ذاكرته الأولى في الخارج، ويجلس إلى أحد الجدران يؤرخ اليوم وأحداثه، وما قدح في مخيلته من أسئلة وملاحظات، وهو يحس بدنو أجله.
الليلة أو غدًا، يطوي مسيرة حضارته كما طواها الآخرون قبله، إنه يشعر بالصخر يزحف من قلبه نحو أطرافه. لديه كلمة أخيرة يود نحتها قبل أن يصير حجرًا مكتملًا، تتحجر الفكرة في رأسه، ولا يعود يعرف ما يريد. يدير ظهره للحائط ويضطجع عليه، دقائق وينتمي إلى الجدار خلفه، يصير امتدادًا لملاحظته وفكره المنحوت في دورة الحضارة المتكلسة.
رؤى
قفز الشيخ داوود من مكانه في المنبر كالممسوس، وأمسك بخناق الرجل المقرفص أمامه وسط هياج المصلين وصياحهم. "اتق الله يا رجل؛ لا أحد يرى الله ولا حتى في حلم". جحظت عينا الرجل ورجف كورقة ذابلة "ولكني رأيته، أقسم بشرف بناتي يا مولاي أني رأيته بعيني اللتين سيأكلهما الدود، وقد أمسك بكتفي وقال لي: "أنت عبد صالح يا بلال.. لا أعلم لماذا ناداني ببلال، ولكنه عناني وحياة أنبيائه."
انفض الجمع الممتعض بين مستغفر ومحوقل من مجون الرجل وسفاهة عقله. ومشى الشيخ داوود متمتمًا كيف يرى الله؟ لم يره النبي وهو خير منه؟ ثم إني شيخ المنطقة وأنا أولى بالرؤيا الحق منه. يتذكر الشيخ أنه لم ير من الرؤى ما يسر باله منذ أيام صباه، كيف يراها وكل ما حوله منغص وشنيع. إنه ينتظر البشرى في منامه كل ليلة، فيقرأ المعوذات ويقوم الليل ويتفل في يده ويمسح على جسده المتوضئ فلا يرى إلا ما يقض مضجعه ويلوي فؤاده. ثم يأتي هذا السفيه الذي لا صدّق ولا صلّى فيقول إنه رأى الله بعينيه اللتين سيأكلهما الدود.
يصل الشيخ داوود بيته في غبش الفجر وقد أرقه ما سمعه وما مر بخاطره. يجد زوجته وقد أولته ظهرها، وانتظم نفسها، فيشعر برغبة جامحة تجتاح أسفل بطنه. يضع يده على رقبتها متوددًا، فيأتيه صوتها صافيًا متأهبًا "ما الذي أخّرك كل هذا يا بلال؟".
تبادل
وقف سعيد الدربكي أمام جمهوره الريفي متوجسًا، وقد بدأوا بالتململ من طول وصلة الدف التي لم يصاحبها حتى الآن صوت سعيد المبحوح الذي يثير شجنًا في قلوب الفلاحين المعفرة. أبعد سعيد المايكروفون عن فمه وسعل، اللعنة المشكلة ما تزال قائمة، هذا الصوت ليس صوته إنها سعلة امرأة. لا يمكن لبحة بسيطة في الصوت لعارض مرضي طارئ أن تحول صوت رجل إلى صوت امرأة، والأنكى أن صوتها الذي سمعه سعيد وهو يكلم نفسه أمام مرآة الغرفة الخلفية للمسرح الخشبي البدائي، صوت بديع ورائق وليس فيه أثر مرض البتة.
تقاطر العرق من جبين المغني الشعبي وهو يسلك حنجرته مرارًا لينزل هذا الكابوس إلى جوفه ثم يتبرزه كما تتبرز الشياه أسوأ كوابيسها، غير أن شيئًا من هذا لم يحدث، وظل الهمس النسائي يتردد بين شفاه الرجل وأذنيه. مع أول حذاء مثقوب أصاب كتف سعيد، تأوه كامرأة حسناء. ذهل الجمع المهتاج، وعمهم الصمت كلحظة حساب.
وفي غمرة الذهول، قفز سعيد عن خشبة المسرح، واختفى بين الأحراش المحاذية مذعورًا يرتجف، صاح الحشد المذهول مجتمعين "أمسكوه"، فخرج من أفواههم صوت سعيد، خائبًا ومبحوحًا وحزينًا، بينما كان سعيد يجري باكيًا بصوت متعب وجائع ومكسور، صوت نسائهم العائدات من الحقول، المنتظرات في المخادع.
اقرأ/ي أيضًا: