22-أبريل-2022
مقطع من لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

مقطع من لوحة لـ سليمان منصور/ فلسطين

هناك بعض الأغاني التي نستمعُ إليها فتُحيلنا إلى أغانٍ أخرى تأتي في أطر مناقضة لها، وهذا هو ما حصل معي وأنا أستمع إلى أغنية "ذيب" للفنان الفلسطيني شادي زقطان، فهذه الأغنية التي يرد فيها الذئب في رمزية ما أحالتني إلى أغنية كنت قد استمعتُ إليها في طفولتي وتُغنيها الفنانة أميمة خليل بعنوان "يا معلِّمتي"، ويأتي الذئب في هذه الأغنية في رمزية مغايرة تمامًا للرمزية التي ورد فيها في أغنية شادي السابقة.

وإنّ الرمزية المختلفة التي وردت فيهما صورة الذئب في هاتين الأغنيتين دفعتاني للتفكير في الرمزية الاعتيادية للذئب، أو الصورة التي اعتيد أن يتمّ تقديمه عليها سواء في الأساطير الشعبية، أو الفكر الديني، أو التراث الأدبي في الثقافة العربية الإسلامية.

تقدم أغنية "يا معلّمتي" الذئب في صورته ورمزيته الاعتيادية ككائن معادٍ للإنسان وحامل لصفات المكر والخداع، فهي تصوّر حوارًا يجري بين معلمة وطلابها

وضمن السياق السابق، فإنّ فضل بن عمار العماري يورد في كتابه "الذئب في الأدب العربي"، بأنّ الإشارة إلى الذئب في الفكر الديني الإسلامي لا تختلف عن غيرها من الإشارات الأخرى الواردة في الأساطير والموروثات الشعبية العالمية (قصة ليلى والذئب على سبيل المثال)، فهي تأتي لتربط بينه وبين صفات المكر والخديعة والعداء للإنسان. وإنّ أشهر هذه الإشارات، تلك الإشارة التي ترِد حوله في سورة يوسف على لسان إخوته وذلك في قوله تعالى: "قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنَا ولو كنّا صَٰادقين".

ومما يرِد في الحديث عن ذلك، رواية الجاحظ: "قال أبو علقمة: كان اسم الذئب الذي أكل يوسف: رجحون: فقيل له: فإنّ يوسف لم يأكله الذئب، وإنما كذبوا على الذئب، ولذلك قال تعالى: "وجاءوا على قميصه بدمٍ كذبٍ قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا فصبرٌ جميلٌ واللّه المستعان على ما تصفون". قال: هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف.

ويُمكن القول بأنّ هناك العديد من الأقوال التي جاءت في الحديث عن الإشارة إلى الذئب التي تضمنتها سورة يوسف، ومن ذلك قول صفي الدين الحلي: "الذئبُ لا يؤمَّن... لكنّه عليه في يوسف مكذوب". وإنّ القول السابق وإن كان يأتي ليبرّئ الذئب من دمِ يوسف إلا أنّه يجيء بما يُثبت عليه رمزية عمومية تجعل من صفات المكر والخديعة صفات ثابتة له ويُمكن فهم ذلك من لفظة "لا يُؤمّن" في القول السابق.

وإنّ هذه الرمزية العمومية للذئب بصفته كائنًا مُعاديًا للإنسان يحمل صفات المكر والخديعة، هي الرمزية السائدة في الثقافة العربية وأساطيرها الشعبية منذ القدم. حيثُ يورد العماري في كتابه السابق بأنّ العرب قد استخدموا الذئب وسيلة من أجل تخويف الأطفال، وإرعاب الكبار، ومن ذلك ما ورد في مَثل عن الجاهلية قيل فيه: "لقد كنتُ وما أخشى بالذئب". وهو مَثل يُحكى في وصف الرجل الذي يُذلّ بعد العزّ، ويُصيبه الخرف، ويُصبح بموضع فكري يخشى فيه مجيء الذئب ويفزع منه.

ومن ذلك أيضًا قول كعب الأشقري في أبيات يتحدّث فيها ويشير إلى تخويف الأطفال بالذئب: "وما روّعت بالذئب ولدان أهلها.. ولا نبحت إلا النجوم كلابها".

ومما يرِد كذلك مَثَل يقول: "من استرعى الذئب، ظلم"، ويُقصد به ظلم الغنم، وكلّف من ليس في طبعه الأمانة عليها، أي الذئب، وهو مثل يُضرب عادة ليشير إلى من يقوم بتولية غير الأمين.

ومما قيل –كذلك- في مكر الذئب وحذره أنّه إذا نام أغمض إحدى عينيه وترك الأخرى تحرسه، لذلك فقد وصفه أحد الشعراء في أبياته وقال: "ينام بإحدى مقلتيه ويتقي.. المنايا بأخرى فهو يقظان هاجع".

وبالعودة إلى مضامين الأغنيتان اللتان أوردتهما سابقًا، يُمكن القول بأنّ أغنية "يا معلّمتي"، لأميمة خليل هي أغنية تَأتي لتقدّم الذئب في صورته ورمزيته الاعتيادية ككائن معادٍ للإنسان وحامل لصفات المكر والخداع، فهي تصوّر حوارًا يجري بين معلمة وطلابها حول ذئب يأتي إليهم، فيطلبون من معلمتهم الوقوف في وجهه وصدّه عن إيذائهم، حيثُ تقول في كلماتها:

"-يا معلمتي.. يا معلمتي

إيجى الديب... إيجى الديب

إيجى تيكلنا.. إيجى تيكلنا

بنعمل شو؟..

-يا أولادي.. يا أولادي

يا حلوين.. يا حلوين

خليكن مطرحكن.. خليكن مطرحكن

سمعين شو..".

وإنّ هذه الأغنية تأتي في كلماتها محمّلة بترميزات عديدة حول الذئب كرمز للعدو المحتلّ وحول ضرورة تكاتف جميع أفراد المجتمع بكبارهم وصغارهم من أجل صدّه عن الديار وإبعاده عنها، حيثُ تقول في كلماتها:

"-يا معلمتي.. يا معلمتي

نحن صغار.. نحن صغار

ما منعرف ندافع... ما منعرف ندافع عن الدار

-يا أولادي.. يا أولادي شوفوا كيف.. شوفوا كيف

بحمل البارودي، وبعبي البارودي وينو الديب...".

"يلا سوى نقاتل.. نحمي الدار

وين الديب القاتل.. يا غدار

يلا سوى نقاتل.. نحمي الدار

وين الديب القاتل.. يا غدار".

أما أغنية شادي زقطان "ذيب" فهي أغنية تجيء محمّلة برمزية مختلفة تمامًا عن الرمزية التي ورد فيها الذئب في أغنية أميمة، فهذه الأغنية تأتي وكأنّها تنطلق من البديهية التي تقول بأنّ الذئب هو عدو دائم وأبدي للإنسان لكنّها تقفز على هذه البديهية وتُحاول إقامة علاقة صداقة من نوع ما مع هذا الذئب، تحكي الأغنية في كلماتها عن حارس (مقاوم) فلسطيني يقضي ليلته ساهرًا على حدود بلاده يحرسها من الأعداء، وخلال حراسته تلك يستدعي الذئب ويُناجيه فتنشأ بينهما محاورة يحكي عنها الحارس الفلسطيني، وفيها العديد من المقاطع اللافتة التي يُمكن إيرادها وتأويلها في الآتي: 

يبدأ الحارس الفلسطيني باستدعاء الذئب منطلقًا من حقيقة وضعه ككائن معادٍ للإنسان، حيثُ يبوح له هذا الحارس بشجنه ومآسيه وبأنّ صوته خفت لشدة الحزن على رفاقه الذين استشهدوا، ويطلب منه أن يأتي ليؤسّس معه صداقة ليس فيها مكان إلا للوفاء بعيدًا عن الغدر، وكأنّ هذا الحارس ينفي عن الذئب هذه الصفة الذي لازمته منذ الأزل، حيثُ يطلب منه أن يُرافقه ليركضا معًا ويُطلقان صوت عوائهما فيملآن بها الأرجاء، وهو ما يظهر في كلمات الأغنية التالية:

"يا ذيب يا سيد العدا.. أضرب تعال من المدى إنزل ما في عندي حدا.. سبحان اللي هداك
انا صوتي راح وما رجع.. ورفاقي ماتوا مثل السَّجع.. والقلب زهّر وينوجع.. والنار نار الهمّ
يا ذيب يا ليل الشِعر.. قاسمني همي للفجر.. صدّق ترى صوتي سحر.. ياخدنا فوق تلال
والنار يا خلّي الصبر.. جرحك ياقوت ما هو فقر.. والله ما في بقلبي الغدر.. سايق عليك الله
نركض ونعوي للصبح.. نضحك تيتداوى الجُرح.. وانضل لصوت النَبح.. يعلى عصوت الخيل".

ثمّ يصف الحارس الفلسطيني كيفية خروج الذئب إليه واقترابه منه، ويصفه بأنّه رغمَ أنّه يعرج في مشيته إلا أنّه صامد ولم ينسكر (في ذلك إشارة إلى أنّ إصابته في رجله هي سببها رصاص العدو المحتلّ)، حيثً يقول:

"قَرّب علي من الصخر.. يُعرج ولسا ما انكسر..

ولمَع في عيونه البحر.. وجرحه في قلبي نار".

في أغنية شادي زقطان، يتحدّث الحارس الفلسطيني عن المحاورة التي جرت بينه وبين الذئب ويقول بأنّ الذئب ناداه بـ"فخر الحرَس"، وأخبره بأنّهما الآن شريكان في النضال بعد أن سالت دمائهما

يتحدّث الحارس الفلسطيني عن المحاورة التي جرت بينه وبين الذئب ويقول بأنّ الذئب ناداه بـ"فخر الحرَس"، وأخبره بأنّهما الآن شريكان في النضال بعد أن سالت دمائهما (في ذلك إشارة إلى إصابة الذئب في رجله ونزفه منها حتى أصبح يعرج في مشيته)، وأصبحت وكأنّها امتزجت معًا لتروي الأرض التي يدافعان عنها، وذلك ما يظهر في الكلمات التالية:

"قَلي يا بن فخر الحرَس ..دمي عدمك سال
والليل طال و ما انجلى.. والعتم خاف المرجلى
وشموعكم مثل الدجى ... تكسِر سواد الليل".

يكمِل الحارس الفلسطيني حديثه عن المحاورة بينه وبين الذئب ويقول:

"قَلي في ارضك من غزا.. وقلب الزغاريد لعزا
خلّف سلالم في الهوا.. وسرَق بواب الدور
وقلي لأجل تقعد معي.. لا هي صلاة ولا سعي
لا جاه ولا سلطة ولا حكي.. وصدّق حكي الذياب
كل الليالي عويت الك.. الأرض ملك اللي امتلك
واللي في عرضه انتهك.. ما تهدّي نفسه كنوز
انا صوتك اللي رجعتلك.. الناسي لحقه ما هلك
لكنه مهما امتلك ما يردلك العقبان".

وإنّ هذه الكلمات الواردة على لسان الحارس الفلسطيني والتي يوضّح بها بأنّ الذئب اشترط عليه ليرافقه وليُصادقه أن يَمتلك صفات خاصة تُشبه إلى حدّ ما صفات الذئب التي لا تعرفها الأساطير والأحاديث الدينية السائدة في الثقافة العربية الإسلامية، والذئبُ الذي تحكي عنه الأغنية هنا "هو الذئب الفلسطيني الجديد" الذي يتعالى على صفات المكر والخداع التي يتصفّ بها العدو المحتلّ فقط، وهو الذي له عواء ثوري ومتمرّد بامتياز، فهو عواء يأتي ليرفض أي خضوع لسلطة دينية أو سياسية تطلب منه مهادنة العدو المحتلّ، وهو عواء يَصدح في كلّ وقت وحين بأنّ الأرض هي ملك للذي يتمسّك بها ويصرّ على امتلاكها باستخدام وسائل المقاومة المختلفة.

أخيرًا، فإنّ هذا الذئب الجديد الذي جاءت أغنية "ذيب" لتتحدّث عنه وتؤسّس لصفاته البعيدة عن صفات الذئاب المعهودة، هو ذئب يأتي في أطر مناقضة كليًا لمفهوم "الإنسان الفلسطيني الجديد"، الذي ساد في الأوساط الفلسطينية في مرحلة ما بعد أوسلو كإشارة إلى الفلسطيني المهادن الهادئ البعيد عن الأدوات النضالية ضدّ المحتلّ الإسرائيلي، والغارق في اليومي والعادي، وكأنّ هذه الأغنية تأتي لتقول للفلسطيني، امتلك صفات ذئبيتك الخاصة، ولا تمُت قبل أن تصيرَ ذِئبًا!