من الأسلحة الفاسدة إلى التهجير والمخيّمات.. القضية الفلسطينية بعدسة المخرجين المصريين
27 سبتمبر 2025
كانت السينما المصرية من أوائل السينمات التي تفاعلت مع القضية الفلسطينية عقب نكبة 1948 على نحوٍ جذري. وسواء قدّمت أفلامًا مباشرة في فكرتها أو تحتوي على اسقاطاتٍ مضمرة، فإن هذه الأفلام قد واكبت القضية منذ سنواتها الأولى وحاولت أن تجعل من صوت الفلسطينيين مسموعًا خارج حدود وطنهم.
جاءت البداية عبر فيلم "فتاة من فلسطين" (1948) من إخراج محمود ذو الفقار، وهو الفيلم الذي لعبت فيه المطربة سعاد محمد دور الفتاة الفلسطينية سلمى والتي هربت من بلادها بعد أن استولت العصابات الإسرائيلية على الأراضي والقُرى وقامت بتشريد أهلها، لتلجأ إلى بيت خالتها في القاهرة، والتي تزوجت من رجل مصري. مع تتابع الأحداث تقع الفتاة في حُب ابن خالتها الطيّار المصري المقاتل لتتزوجه في نهاية العمل. هي قصة بسيطة مباشرة، يُمكن اعتبارها بمثابة رد فعلٍ تجاه الأحداث، ولا تهتم كثيرًا بتقديم تحليلات للقضية أو تشريح للشخصية الفلسطينية بقدر ما يعنيها إظهار قدرات سلاح الطيران المصري وعدد الجرحى المصابين، ونظرة الجيش المصري للقضية الفلسطينية وليس العكس.
لم تبتعد هذه النظرة كثيرًا حتى مع انتهاء الحقبة الملكية وبداية الجمهورية. في فيلم "أرض الأبطال" (1953) لنيازي مصطفى، نتابع سلسلة من المعارك التي تدور في قطاع غزة حين يرغب أحد الشُبان في التطوّع بالجيش بعد أن قرر والده الثري الزواج من الفتاة التي أُغرم بها. هذا الشاب يفقد بصره في إحدى المعارك بعد أن قام والده بتوريد أسلحة فاسدة إلى الجيش. أوّضح نيازي في حواره مع الناقد السينمائي سمير فريد (مجلة الفنون، 1982) بأن هذا العمل تم تصويره في العريش في كانون الأول/ديسمبر عام 1952، وبإذن خاص من جمال عبد الناصر.
جاءت البداية عبر فيلم "فتاة من فلسطين" (1948) من إخراج محمود ذو الفقار، وهو الفيلم الذي لعبت فيه المطربة سعاد محمد دور الفتاة الفلسطينية سلمى
من بين الأفلام التي انتجت أيضًّا في حقبة الخمسينيات، فيلم "أرض السلام" (1957) من إخراج كمال الشيخ. يتناول الفيلم قصة الحب التي دارت بين أحمد (عمر الشريف) الفدائي المصري وسلمى (فاتن حمامة) الفتاة الفلسطينية. فالنظرة هُنا تجاه العدو باتت واضحة وراسخة عقب العدوان الثلاثي على مصر ومشاركة إسرائيل إلى جانب فرنسا وبريطانيا. فالفيلم يتطرق إلى العمليات الفدائية ودورها في مقاومة الاحتلال، وهو الفيلم الوحيد لمخرجه الذي لم يُعرض في نفس عام تصويره. فقد اضطر الشيخ إلى إيقاف التصوير في عام 1956 بعد الهجوم الذي شُن على بورسعيد، ليتم استكماله عقب الحرب.
تعددت الأفلام المصرية التي تتناول حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 بالإضافة إلى ما آلت إليه الأمور عقب نكسة 1967، وهي أفلام تركز بطبيعة الحال على المعركة الحاسمة التي دارت بين القوات المصرية والإسرائيلية. ناهيكم عن الأفلام التي تخللت هذه الفترة وتناولت حرب الاستنزاف بين الطرفين.
شهدت حقبة التسعينيات واحدًا من أهم الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية من خلال شخصية رسام الكاريكاتير الشهير ناجي العلي، ضمن فيلم حمل العنوان ذاته "ناجي العلي" (1992) من إخراج عاطف الطيب وبطولة نور الشريف. هو فيلم أشبه بسيرة ذاتية عن حياة ناجي العلي، وأبرز محطات حياته والدور الذي لعبته رسوماته في تشكيل الهوية الفلسطينية، وتناول القضايا الساخنة في المحيط العربي قبل أن يتم اغتياله في لندن. تعرّض الفيلم لحملة شرسة في الصحافة المصرية والعربية، نتيجة انتقاده عدم تقديم أي جيش عربي المساندة للبنان عقب الاجتياح الإسرائيلي في مطلع الثمانينيات بالإضافة إلى شكوك تخصّ تمويل الفيلم، وانتقاده لمنظمة التحرير الفلسطينية.
لا يُمكن الحديث عن المخرجين المصريين الذين تعاطوا مع الأدب الفلسطيني والقضية دون التطرق إلى فيلمين هما: "المخدوعون" (1972) لتوفيق صالح و"باب الشمس" (2005) ليسري نصر الله. فالأول كان صالح قد أنجزه بعد أن افتتن برواية "رجال في الشمس" لغسّان كنفاني لكنّه لم ينجح في إنتاجها داخل مصر لأن المسئولين حينها رأوا فيها قصة تفتقد إلى أدوات جذب الجمهور. كان لقاء قصير قد دار بين صالح وكنفاني في القاهرة عقب زيارة الأخير لها، لكن صالح يخبرنا في مقابلة له مع صحيفة السفير (1989) بأن اتجه إلى المؤسسة العامة للسينما في سوريا بعد يأسه من إنتاج الفيلم. في بيروت جمعهما لقاء مشترك آخر، اتفقا فيه على قراءة سيناريو الفيلم وقيام كنفاني بإعادة كتابة الحوار بلهجة فلسطينية يُمكن للجميع أن يفهمها. بعد 48 ساعة، كان كنفاني قد انتهى من كتابة الحوار وسلّمه إلى صالح والذي بدوره أقنعه بضرورة تغيير النهاية. فالشخصيات في نهاية العمل تتحوّل إلى جثث مختنقة، يقوم سائق الشاحنة بإلقائها في الصحراء، بينما صالح كان يفضّل أن ينتهي العمل بهم وهم يطرقون جدران الخزّان في تعبير على أن صوتهم لا بُد أن يُسمع.
"باب الشمس" بجزأيه الرحيل والعودة، فيمكن اعتباره دُرة هذه الأعمال
أما الفيلم الثاني "باب الشمس" بجزأيه الرحيل والعودة، فيمكن اعتباره دُرة هذه الأعمال. فهو عمل ملحمي يستند إلى رواية بالعنوان ذاته للروائي اللبناني إلياس خوري. كان نصر الله قد قرأها في عام 1998، وأُغرم بتفاصيلها. وذلك بسبب الطريقة التي ُقدمت بها الشخصيات ومحاولة تأسيس "ذاكرة فلسطينية شخصية" كما عبّر في حواره مع صحيفة أخبار الأدب (2004). فالرواية لا تنهض على سردية للرموز والأعلام، وإنما تطرح القضية من وجهة نظر شخوص عاديين وما مروا به من أحلام وانكسارات وهزائم متتالية. كما أن السرد بها يحتفي بمفردات الحياة اليومية من مأكل ومسكن وملبس ومعيشة. وبالتأكيد خضع النصّ في النهاية إلى مقتضيات الدراما والعمل السينمائي من حيث الإبقاء على تفاصيلٍ ما أو حذف أُخرى.
من الصعب أن تحيط مقالة وحيدة بالتجارب السينمائية كافة التي تناولت القضية الفلسطينية من خلال عدسة المخرجين المصرين، لكنّها محاولة لوضع مؤشر على أبرز التجارب.