من إدلب إلى دمشق.. نظرة فاحصة على حكومة تسيير الأعمال السورية
16 ديسمبر 2024
دخلت سوريا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي المُعاصر، أمس الأحد، مع عودة الوزارات والمؤسسات إلى عملها بشكل طبيعي بعد مرور أسبوع دراماتيكي على هروب الرئيس المخلوع بشار الأسد إلى موسكو. وما لفت الأنظار منذ ذلك الوقت، وشغل الشارع السوري، هو عملية تسليم حكومة النظام السابق، برئاسة محمد الجلالي، المهام الوزارية لحكومة الإنقاذ برئاسة محمد البشير، بتكليف من القائد العام لإدارة العمليات العسكرية، أحمد الشرع، منهيةً بذلك فصلًا آخر من حكم عائلة الأسد، الذي اتسم بالحديد والنار والفساد لعقود من الاستبداد.
حكومة الإنقاذ السورية.. لمحة عامة
يرجع تاريخ الإعلان عن حكومة الإنقاذ للمرة الأولى إلى الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2017، بعد أقل من عام بقليل من استعادة قوات النظام السابق للجيب الشرقي من مدينة حلب، وما رافقه آنذاك مما عرف لاحقًا باتفاقية "خفض التصعيد". ومنذ ذلك التاريخ وحتى لحظة إعلان إدارة العمليات العسكرية بقيادة "هيئة تحرير الشام" إطلاق عملية "ردع العدوان" في 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، كانت فصائل المعارضة تسيطر على جيب صغير من سوريا تُقدر مساحته بـ11% في شمال غرب البلاد.
شهدت هذه الفترة التي امتدت إلى نحو سبع سنوات تغيّرات كثيرة في المشهد السوري، بدأت بتكليف الهيئة التأسيسية المؤلفة من 36 عضوًا اختيروا خلال المؤتمر السوري العام، الذي عُقد في أيلول/سبتمبر 2017، محمد الشيخ بتشكيل أول حكومة إنقاذ مكوّنة من 11 وزيرًا. وفيما يبلغ عدد وزارات النظام السابق 28 وزارة، كان اللافت في هذه التشكيلة أنها خلت من حقيبة وزارة الدفاع، إذ قيل آنذاك إن السبب وراء ذلك هو احتفاظ الشرع بالقرار العسكري.
كانت حكومة الإنقاذ تدير الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام حتى ما قبل إطلاق عملية "ردع العدوان"، وهي جيوب صغيرة موزعة ما بين نصف محافظة إدلب وريف حلب
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن حكومة الإنقاذ حلّت محل الحكومة السورية المؤقتة، التي كانت تتبع في هيكليتها للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. وقد ظهر ذلك لاحقًا في طلب حكومة الإنقاذ من الحكومة المؤقتة إغلاق مكاتبها، وتسلّم إدارة الخدمات التي كانت تشرف عليها الإدارة المدنية. وترافق ذلك مع تعاقد مع شركات تابعة للهيئة لتقديم خدمات المياه والاتصالات والكهرباء، وما إلى ذلك، ومن ثم إنهاء عمل المجالس المحلية في مناطق سيطرتها، وتحكّمها بعمل المنظمات غير الحكومية. كل ذلك مكّنها من إحكام قبضتها على مناطق نفوذها بشكل كامل، منهية بذلك استقلالية أي جسم سياسي أو مدني أو حتى عسكري مرتبط بالائتلاف.
كانت حكومة الإنقاذ تدير الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة حتى ما قبل إطلاق عملية "ردع العدوان"، وهي جيوب صغيرة موزعة بين نصف محافظة إدلب وريف حلب، فيما كانت أجزاء أخرى من شمال غرب البلاد تحت سيطرة "الجيش الوطني السوري"، وهو تحالف لفصائل مدعومة من أنقرة. وفي مقطع قصير لا يتجاوز 25 ثانية وثّق اجتماعًا ضم الشرع جنبًا إلى جنب مع البشير والجلالي الأسبوع الماضي، قال الشرع إن وزراء حكومة الإنقاذ "أصبح لديهم خبرة عالية"، مضيفًا أن وزراء النظام السابق "لن يُستغنى عن خبراتهم".
البشير يتسلّم "تركة ثقيلة"
يدرك البشير أن حكومته تسلمت "تركة ثقيلة تتمثل في مؤسسات متهالكة ومنظومة عمل إداري لا تستطيع تقديم الحد الأدنى من الخدمات الحيوية للشعب السوري"، وفقًا لمقابلة أجراها مع "التلفزيون العربي". وأشار في المقابلة ذاتها إلى أن "وضع الخدمات الحالي متردٍّ"، وأن "غالبية الشعب تعيش في ظروف اقتصادية ومعيشية صعبة للغاية". ومع ذلك، أكد أن حكومة الإنقاذ استطاعت توفير الكهرباء لمناطق سيطرتها في إدلب، نافيًا أن تكون حكومته قد استحوذت على حكومة تسيير الأعمال الحالية.
ويبدو من تجربة حكومة تسيير الأعمال أنها تركز على مدن المركز في خدماتها، مثل حلب وحمص ودمشق، رغم أن الأخيرة ما تزال تواجه مشكلة في انتظام التيار الكهربائي لفترات طويلة. بناءً على ذلك، يمكن القول إن هذه "التركة الثقيلة" تضع حكومة الإنقاذ أمام تحديات كبيرة، تجعلها مسؤولة عن توفير الخدمات وتسيير عمل الوزارات والمؤسسات الرسمية في مرحلة حساسة من تاريخ سوريا المُعاصر.
وفي سياق متصل، قال البشير إن "الكوادر الحكومية في مختلف القطاعات موجودة أصلًا ولم يتم استبعاد أحد منها، باستثناء من تورط في الدم السوري أو قام بتهجير المواطنين أو ارتكب جرائم تعذيب". وأوضح أنه استقدم "كوادر كانت عاملة في حكومة الإنقاذ لتعزيز الكوادر الحكومية الحالية"، مؤكدًا أن حكومته "منفتحة على جميع الكفاءات".
هنا علينا الإشارة إلى أن البشير كلّف للمرة الأولى بتشكيل حكومة الإنقاذ في كانون الثاني/يناير الماضي، ومع مهلة الشهر التي منحه إياها "مجلس الشورى العام" لاختيار الوزراء، نجد أن العمر الفعلي لحكومته لا يتجاوز 10 أشهر. علمًا أنه بلغ عدد التشكيلات الوزارية لحكومة الإنقاذ منذ عام 2017 حتى سقوط نظام الأسد سبع تشكيلات وزارية، من بينها أربع دورات كانت برئاسة، علي كده.
حكومة الإنقاذ أمام تحديات كبيرة
يعتقد الصحفي، ثائر المحمد، في حديثه لشبكة "ألترا صوت" أن حكومة الإنقاذ "ستواجه تحديات كبيرة في إدارة المرحلة القادمة"، مرجعًا ذلك إلى إدارتها لمنطقة صغيرة، قبل أن تجد نفسها "فجأة باتت تدير سوريا بشكل كامل باستثناء مناطق محددة شمال غربي البلاد"، معيدًا التذكير بأن حكومة الإنقاذ نفسها "كانت تواجه انتقادات لاذعة ومظاهرات في إدلب بسبب سياساتها الاقتصادية".
ويشير المحمد في حديثه إلى أنه "من خلال جولة بسيطة في إدلب، يُلحظ أن حكومة الإنقاذ تواجه شحًا في العنصر البشري لإدارة المناطق التي سيطرت عليها حديثًا"، ويدعم ذلك بأن "معظم الحواجز الأمنية تمت إزالتها ونقل أفرادها إلى المناطق الجديدة"، وهو ما يجعله يرى أن هذا السبب وراء "دفعها إلى فتح باب الانتساب إلى صفوف قوى الأمن والشرطة".
ويحدد المحمد في حديثه مجموعة عوامل يمكن لحكومة الإنقاذ اللجوء إليها لنجاح تجربتها، والتي يأتي في مقدمتها "مدى قدرتها على توفير الدعم المالي لإعادة تفعيل الخدمات ودفع رواتب الموظفين"، بالإضافة إلى "تحسين الحياة المعيشية للمواطنين، خاصة أن معظم السكان يترقبون تغيرًا إيجابيًا فيما يتعلق بالكهرباء والمياه والاتصالات والنقل وغيرها".
ومن بين العوامل الأخرى التي يذكرها المحمد "جهودها في الاستعانة بكافة الكوادر السورية وتفعيلها، وعدم اقتصار العمل على موظفي حكومة الإنقاذ الأساسيين"، وهو في هذا السياق يضرب لنا مثالًا على ذلك بأن حكومة الإنقاذ "لم تستعن حتى الآن بأفراد الشرطة سواء العسكرية أو المدنية العاملين في شمال وشرقي حلب ضمن نفوذ الجيش الوطني السوري، لمساعدتها في ضبط الوضع الأمني في المحافظات التي سيطرت عليها".
وعليه، يعتقد المحمد أن حكومة الإنقاذ "ما زالت منتشية بالنصر ولم تستوعب بعد حجم العبء المترتب عليها، خاصة أن معظم الخدمات التي تُقدم حاليًا (مثل الخبز) تأتي في سياق حملات من فرق تطوعية"، وهناك جانب آخر ينوه إليه ضمن هذا السياق، ويتمثل بأن "معظم جهود" حكومة الإنقاذ "مركّزة" على المدن الرئيسية مثل دمشق، بالإضافة إلى حمص، حماة، وحلب، على سبيل المثال، "دون الاهتمام بما يكفي بالمناطق الريفية".
يرى المحمد أيضًا أن حكومة الإنقاذ تحتاج لنجاح تجربتها "إلى دعم دولي وأممي للنهوض بسوريا، خاصة أن معظم المدن والبلدات مدمرة بالكامل"، لا سيما المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة النظام السابق، لذا فإنه "في حال لم تحصل حكومة الإنقاذ على الدعم الكافي، يتوقع أن تشهد سوريا مزيدًا من التدهور على المستويات المعيشية والاقتصادية والخدمية".
📊 الأضرار التي سببها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد بالاقتصاد منذ اندلاع الثورة السورية. pic.twitter.com/AEerfsim97
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) December 12, 2024
ويختم المحمد حديثه بالإشارة إلى أن حكومة الإنقاذ تحتاج أيضًا "إلى بسط نفوذها بطريقة ما على مناطق سيطرة قسد (قوات سوريا الديمقراطية) في شمال شرقي سوريا الغنية بحقول النفط، لتأمين ما أمكن من المحروقات"، لافتًا إلى أن "منطقة شمال غربي سوريا تعاني منذ نحو أسبوع من انقطاع في مادة المازوت المحلي، مما أدى إلى الاعتماد بشكل كامل على المازوت المسمى بالأوروبي المستورد من تركيا، والذي يبلغ سعره 38.5 ليرة تركية لليتر (الدولار الواحد يعادل 34.98 ليرة تركية)، أي ضعف سعر المازوت المحلي".
"الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة"
يستبعد الكاتب والباحث، حسام جزماتي، في حديثه لشبكة "ألترا صوت" أن تستطيع حكومة الإنقاذ في شكلها الراهن "إدارة هذه المناطق الشاسعة التي تُقدر بثلاثة أرباع خريطة سوريا"، وتُقدر المساحة الخاضعة لحكومة تسيير الأعمال بـ70 بالمئة، فيما تسيطر "قسد" على 20 بالمئة، مع بقاء 10 بالمئة تحت سيطرة فصائل "الجيش الوطني السوري".
ويرى جزماتي أن حكومة الإنقاذ "كانت تدير مطقة محدودة المساحة في أجزاء من ريفي إدلب وحلب، إضافة إلى إدلب المدينة، وهي مناطق سهلة التنقل بسبب قربها، وظروفها متشابهة"، وعلى هذا الأساس ينظر إلى مسمى حكومة تسيير الأعمال على أنها "أكبر من حجمها"، مرجعًا سبب ذلك إلى "خبرة حكومة الإنقاذ المحدودة في التفكير على مستوى الدولة" عند الانتقال إلى إدارة هذه المساحة الواسعة من الخارطة السورية.
هناك عدة عوامل يستند إليها جزماتي في رؤيته لعدم استطاعت حكومة البشير إدارة مثل هذه المساحة من الخارطة السورية، أولها أنه "ليس لدى أعضاء حكومة الإنقاذ خبرة بيروقراطية سابقة بجهاز الدولة السورية"، بالإضافة إلى أن وزرائها "ليسوا مخططين استراتيجيين"، موضحًا أن "حكومة الإنقاذ في إدلب لم تكن تملك الصلاحيات لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وكان على كل وزير التشاور مع مسؤولين من الهيئة".
ويدعم جزماتي قوله بالإشارة إلى أن "إدارة المناطق المحررة كان لها دور كبير في توعية الوزارات بشأن الشؤون الخدمية"، وتُعرّف "إدارة المناطق المحررة" عن نفسها بأنها "جهة مدنية تتكون من 8 أقاليم جغرافية، يشمل عملها كامل المناطق المحررة"، تختص مهامها بـ" توجيه المؤسسات والمجتمع، والحفاظ على الأمن الاجتماعي، ومتابعة عمل المؤسسات، وممارسة دور الوسيط بين الأخيرة والمجتمع".
وهنا يرى جزماتي أن هذه الإدارة "استطاعت أن تضبط الأمور بسبب المساحة الصغيرة"، لافتًا إلى أن "غياب هذه الهيكلية سيصعب من مهام حكومة البشير". عامل آخر يشير إليه جزماتي يتمثل بأن حكومة البشير لم "تشمل طيفًا واسعًا (من السوريين)، بمعنى أن تكون تعددية" لكافة الأطياف السورية، كما أنها لم "تضم منشقين عن بيروقراطية الدولة لسد الثغرات".
ينظر جزماتي إلى التحولات التي طرأت على هيئة تحرير الشام، والتي وصفها مراقبون بـ"البراغماتية"، بأنها "براقة"، جاءت لضرورة "إرضاء متطلبات الغرب واعتمادهم لحذفهم من قائمة الإرهاب"، وهم يحاولون إظهار "قدرتهم على التعامل مع الوضع السوري"، لكنه يشدد في نهاية حديثه على أنه صار من الضروري على الهيئة "الانتقال من مرحلة الجماعة إلى مرحلة الدولة".
مشكلة حكومة البشير "مرتبطة بالكفاءات"
مقارنة بحكومة النظام السوري السابق المكونة من 28 وزيرًا، نجد أن حكومة الإنقاذ لديها 11 وزيرًا، لكن الكاتب الصحفي، منهل باريش، في حديثه لشبكة "ألترا صوت" لا يعتقد أن "عدد الوزراء هو المشكلة"، مشيرًا إلى أنه وفقًا لـ "الوضع القائم يوجد أكثر من وزارة معطّلة مثل وزارات الخارجية والداخيلة والدفاع"، إذ إنه يرى أن "العدد ليس مهمًا"، مرجعًا ذلك إلى "بنية وهيكلية مؤسساتها"، لذلك يعتبر أن "المشكلة الأكبر مرتبطة بالكفاءات"، نظرًا لأن "خبرة البشير محدودة"، لافتًا إلى أنه "حتى إدلب نفسها يوجد فيها مشاكل".
الحياة السياسية السورية تدخل في مرحلة جديدة بعد فرار بشار الأسد إلى روسيا، وانتشار مقاتلي فصائل المعارضة السورية في كافة المدن السورية.
— Ultra Sawt ألترا صوت (@UltraSawt) December 11, 2024
اقرأ أكثر: https://t.co/FgEy5NmBhF pic.twitter.com/E5x9nOy4sA
ويرى باريش أن تجربة حكومة الإنقاذ في إدلب "كانت الهيئة (تحرير الشام) هي الواجهة"، كما الحال مع "جهاز الشرطة المرتبط بجهاز الأمن العام للهيئة"، مستبعدًا إمكانية "إدارة (مؤسسات) الدولة بهذه الطريقة". وبدلًا من ذلك يشير إلى أنه "كان الأجدى لعددة أسباب ولتخفيف الشحن وتطمين الناس أكثر، أعتقد أن القرار الأجدى كان ترك حكومة (النظام السابق) الجلالي، وأن تكون حكومة الإنقاذ موجودة فيها".
وتعقيبًا على ذلك، يوضح باريش أنه "كان من الممكن أن يكون كل وزير أو طرف آخر من قبل هيئة تحرير الشام موجود داخل كل وزارة للإشراف أو إدارة عملية نقل الكفاءات من هذه الوزرات لطواقم حكومة الإنقاذ لتطلع على كيفية إدارة الدولة حتى آذار/مارس المقبل"، ويضيف مستدركًا أنه "على الأقل هناك هيكلية دولة واضحة تم على العمل بناءها من 60 حتى 70 عامًا، لذا تجاوزها يبدو سيئًا، وهذا القصد من ذلك".
وينوه باريش في حديثه إلى أن "هناك مسألة سياسية تتعلق بطمأنة أبناء المدن"، وهو يستند في حديثه إلى أن "جميع وزراء حكومة الإنقاذ من منطقة واحدة"، في إشارة إلى محافظة إدلب، وهو ما يرى أنه "كان يجب أن يُأخذ بعين الاعتبار"، لافتًا إلى أن الحكومة الحالية غير متنوّعة لتشمل كافة أطياف المجتمع السوري، والذي يرى أنه "مطب وقعت فيه حكومة تسيير الأعمال"، خاتمًا حديثه بالقول: "حقيقة كنت أعتقد أن (أحمد) الشرع كان سيبقي على حكومة النظام (السابق) لضبط الأمن".