29-أغسطس-2015

في معرض ضخم، يقدم مركز "بومبيدو" الباريسي الفنانة الفلسطينية منى حاطوم بفجاجتها. توحي الأعمال بمزاجية المرأة التي تتجاوز الستين من عمرها، وهي تستفز بشيء من التخلي، العابر أمام أعمالها. تراه يستدرك اضطرابه بكثير من الحذر. ويقف محتاراً يسأل نفسه كيف يتعامل مع كل واحد منها على حدة. وهو ما يزداد إلحاحاً أثناء المرور في أروقة المعرض (يستمر حتى نهاية شهر أيلول/سبتمبر). فيقع المشاهد في تفاعل بصري وجسدي، مع الأعمال، ويسير عبرها ويلامس ظلالها وهوامشها. 

فضاءات منى حاطوم تدور حول معضلات الإنسان المهشم والمقموع

يتجاوز المعرض، في استعادته أعمال حاطوم، محنتها مع الفن الـ"ما بعد حداثوي". فتظهر عبر أعمالها المختلفة: فيديو، تجريب بصري، إضاءة، صور، اشتغال فني، تركيب، منحوتات، رسوم، أعمال إنشائية.. مفككة. تتشابه مع مراحلها الشخصية، ووعيها الفني، وتراكم خبرتها واتساع شهرتها أيضاً. فلا يمكن لمتتبع هذه الأعمال، المجموعة في مكان واحد على مساحة ألفي متر، إلا أن يكتشف بسرعة استسهال الأسئلة في مضامينها. الاسئلة الوجودية ومقاربتها المعنى اليومي والمكرر. فتكاد تخلو بعض الأعمال من مجرداتها. تتكوم مثل فراغ آلي وعاجز. يقارب أزمة الانسان الواحد، وعلاقته مع الانتماء والتهجير والاغتصاب والنفي والتذرر. 

ففضاءات حاطوم تدور حول معضلات الإنسان المهشم والمقموع، والمرأة على حد خاص، في محاولة إعلاء صوت الفرد على الجماعة. وتعالجها بطريقة شخصية يمكن ملاحظتها في المواد المستخدمة. وبعضها هو جزء من شعرها وجلدها واظافرها المقصوصة، متحولة إلى مادة أولية، وهو ما يدفع إلى السؤال عن "المعطى الفني" نفسه وجدوى استخداماته. 

إذ تجزأ الفنانة الفلسطينية، المولودة في بيروت، بنية الاستخدام، وتعيرها معنى غير مألوف لها. كأن تحول كرات شعر ملفوفة إلى مادة بصرية ثابتة، في قاعة متوسطة الحجم، تدفع الناظر لها إلى الشعور بالضيق. وهذه مقدرة استطاعت اكتسابها عبر تطويع التفاصيل وإبرازها كحيز أول في العمل الفني. أو كأنها آلية وجوده وهواءه. وتحمل هذه التفاصيل شكاً لا متناهياً عن الواقع ومعاشاته ومآلات مستقبله. وربما هذا هو موقف حاطوم من الفن. 

أعمال حاطوم مشغولة بشك لا متناهٍ عن الواقع ومعاشاته ومآلات مستقبله

ويظهر المعرض مرحلتين من تجربة الفنانة، الأولى التي استخدمت فيها جسمها مادة في تشكيل العمل، منها "جسد غريب"، وهي صور فحوص طيبية أجرتها لأمعائها، والثانية، التي تحمل معان أكثر اتساعاً وشمولية، ونراها في عمل "مدن بثلاثة أبعاد"، حيث جهّزت حاطوم خرائط لبغداد وبيروت وكابول، وحفرتها، وهي تشير الى تغيراتها ما قبل الحروب الناشبة فيها وما بعدها. وفي عمل يحمل عنوان "الشبابيك الـ 12"، تقدم الفنانة نماذج لأعمال تطريز معلقة على حبال، ولا يمكن التنقل بينها بسبب الأسلاك المثبتة وهي إشارة الى صعوبة العبور في المناطق الفلسطينية. وفي أحد الأعمال تستخدم الفيديو والصوت لقراءة رسائل كانت تتلقاها من والدتها، أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان. 

وعلى الرغم من استهواء فكرة "العالم" بخريطته في ممارسة العمل الفني لديها، وإبرازه في اشتغلاتها المتمايزة، إلا أن حاطوم دوماً ما تركز على الهوية الفردية، بدءاً من شرائطها البصرية، ووصولًا إلى إنتاجها الفوتوغرافي. ففي عمل تصويري يضم 3 صور شخصية لشاب وفتاتين، توثق بورتريهات عادية غير مبتسمة. مشتغلة على عنصر الوحدة البارز في ملامح الوجوه الثلاثة.

واشتغال حاطوم على الخرائط، هو أمر شاع في أعمالها منذ العام 1996. وفي "مشهد داخلي" تظهر قاعدة سرير خالية من الفراش مربوطة بأسلاك شائكة كسرير زنزانة، وعليه وسادة خاطت عليها حاطوم خريطة فلسطين ما قبل الاحتلال. وخريطة أخرى، تظهر انتهاك إسرائيل على قطع صابون مصنوعة في نابلس، تستقبل الداخل الى المعرض. وفي تجهيز آخر ترسم بكريات زجاجية صغيرة خارطة العالم، فيحس العابر امامها وفي التواءاته حولها، ان هذه الخريطة متغيرة ومتقلبة. 

يقدم المعرض نجاح حاطوم في صياغة أحلامها وهواماتها الكثيفة الى أعمال فنية، في الطريقة نفسها التي يقدمها عبر المشاريع الجماعية التي انجزتها مع أطفال في القاهرة في العام 2006 حول موضوع "القفص"، أو الأعمال التي أشرفت عليها مع نساء عراقيات في الأردن (2008)، ومع نساء فلسطينيات في لبنان (2012- 2014)، ومع نساء برازيليات (2014).

في النهاية، يعد هذا المعرض اشتمالًا غير محدود لتجربة فنانة كرّست اسمها عالمياً، ولن ينسى زوار "بومبيدو" أنهم التقطوا مشاعرهم المختلطة في قاعة واسعة تطل على باريس الماطرة.