21-يونيو-2017

غلاف الكتاب

يؤسس الشاعر السوري منذر مصري كتابه "حقل الفخاري.. أربعة مشهديات قضيرة" (دار ممدوح عدوان 2017) على مجموعة من المشاهد الممسرحة الملتقطة من الواقع السوري على مدار السنوات الست الفائتة، حيث يحضر في متنها تصور لـ"المدينة الفاسدة" على أشكال مختلفة، ويمزج فيها بين الخوف والبحث عن الحرية وصراع الأجيال.

يؤكد منذر مصر أن كتابه "حقل الفخاري" مستوى من الواقع السوري الراهن

منذ الصفحات الأولى للكتاب يذكر منذر مصري القارئ بأن المشهديات مستوحاة من الواقع السوري الحالي، بما يحمله من دماء وقتل وموت وتحولات متخيلة كما في مشهدية "كم صرصورًا يحق لك أن تقتل؟". إذ أنه يهدي المشهديات القصيرة "إلى سوريا أمي، وإلى السوريين أهلي وإخوتي وأبنائي.. في محنتنا القاسية"، والتي تنعكس على حوارات المشهديات الممسرحة مع تنويهه لعمليات الإضاءة والسينوغراف وحركة الممثلين في حال قرر أحدهم تجسيد إحداها على المسرح.

اقرأ/ي أيضًا: شعر في الهويّة.. فلسطين وألمانيا في أنطولوجيا شعرية مشتركة

تحمل المشهدية الأولى "حقل الفخاري" في باطنها شعور الإنسان بالخوف من أقبية الأنظمة الدكتاتورية، تلك التي تنشأ في "المدن الفاسدة"، وتراقب بسيفها المُسلط على رقاب مواطنيها خوفًا من الاحتجاج ضدها. نقرأ في هذه المشهدية خوف الشاعر غسان صقروني الذي يتحول اسمه في الحوارات لـ"أنت" عندما يستدعي للتحقيق من أجل مساءلته عن لقاءاته مع بعض الشعراء المعارضين فيتحول معهم إلى فاسد آخر.

حالة من الصراع الداخلي يعيشها "أنت" بعد عودته من جلسة المساءلة، تتحول لأرق نفسي يعكسها مصري في الحوار الذي يدور مع زوجته في منزلهما "لن يفهموا ما فعلت إلا بكوني كنتُ جبانًا، وبكون ما قلته وشاية عنهما" بعد أن تحولت جلست المساءلة لاعترافات ساقها ضد شاعرين من أصدقائه، في نهاية المشهدية تجد سلمى زوجها "أنت" على أرضية بلاط المطبخ يسبح ببركة من الدم والقيء.

يُذكر في الإصحاح 27 من إنجيل متى أن "حقل الفخاري" تحول "مقبرة للغرباء" بعد أن اشتروه بـ30 قطعة من الفضة، المبلغ الذي دُفع ليهوذا الإسخريوطي مقابل تسليمه النبي عيسى لكهنة اليهود. فهو بعد أن استلم القطع الفضية عاد إليهم "(4) قائلًا: قد أخطأت إذ سلمت دما بريئًا. فقالوا: ماذا علينا؟ أنت أبصر. (5) فطرح الفضة في الهيكل وانصرف، ثم مضى وخنق نفسه. (6) فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا: لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم. (7) فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. (8) لهذا سمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم" (متى الإصحاح 27/ 4 – 8).

تصغر مساحة المشهدية الثانية "المرثيات الثلاث لموت طائر" إلى بين (أ) وعصفور داخل قفص يبحث عن فرصة للتحليق خارجه. علاقة يظنها (أ) تكفي للعصفور بأن يقدم له الخبز والماء، ومتوقعًا أنها الشيء الوحيد الذي يلزمها لتبقى على قيد الحياة "احضري لي كل ما تلتقطينه من عصافير، أنا من لديه الأقفاص" تختزل هذه الجملة التي افتتح بها صاحب "آمال شاقة" مشهديته الطريقة التي يفهم (أ) فيها حياة العصافير داخل الأقفاص، رافضًا أن يكون لديها أي شعور آخر أو أنها تسعى لحريتها خارج القفص طالما أنه يقدم لها ما تريد يوميًا لأن تربت على العيش داخل القفص "مات.. فعلها من جديد.. حسناً سأريه إذاً.. سوف يقولون بعد كل ما فعلت لأجله، إنني من قتله.. الحمقى.. سأريهم جميعاً، لا ينفع معهم شيء."

منذر مصري: احضري لي كل ما تلتقطينه من عصافير، أنا من لديه الأقفاص

في المشهدية الثالثة "كم صرصورًا يحق لك أن تقتل؟" يخضع الشاعر رحمن عبد الرحيم لمحاكمة بسبب قتله للصراصير، لدينا شخصيتان القاضي أو المحقق، ورحمن المتهم بقتله 1350 صرصورًا، كانت خلفيتها الأولى بوصفه في إحدى كتاباته "بعل هو الصرصور الأكبر"، يستدرج المحقق ضحيته رحمن إلى وثائق تعود لعام 2011 عندما طلب من بلدية اللاذقية (غرب سوريا) إرسال قسم مقاومة الحشرات والقوارض لرش مستودعه بالمبيدات الكيميائية لقتل مئات الصراصير من مختلف الأحجام والأنواع والأعمار، إصرار المحقق على إتهام رحمن بارتكابه جريمة قتل بحق الصراصير تقوده ليحكم عليه بالتحول إلى صرصور كامل شكلًا ومضمونًا وعقلًا لأنه لا فائدة إذا لم يخض التجربة "صرصورًا سويًا.. مثاليًا".

اقرأ/ي أيضًا: نوّار الصدر.. في القائمة القصيرة لجائزة "فورورد" البريطانية

يختتم منذر مصري صاحب "من الصعب أن ابتكر صيفًا" كتابه بمشهدية "زيارة الغرفة 106"، وفيها يقدم صورة عن الصراع بين الأجيال معكوسة على العلاقة بين شاعرين الأول حامد شاب مؤيد للثورة، والثاني نوح كبير في السن أقعده المرض يوجه سهام نقده للثورة دائمًا. ينوه منذر مصري في مقدمة هذه المشهدية إلى أنه لا يدعي صدق أي حادثة وردت في النص و"وإذا وجد أي تشابه بين الشخوص الموصوفين وشخوص واقعيين، معروفين أو غير معروفين، فليس سوى مصادفة محضة".

يحضر في نص الأخير لمنذر مصري تكثيف عن الصراع الفكري بين الشيوعية اللينينية والتروتسكية، الجنس، الثورة، صراع الأجيال بقتل الأبناء لآبائهم بمختلف مناحي الحياة، ويحضر أكثر إصرار الآباء على بقائهم في المقدمة رغم أنهم أصبحوا غير مرئيين حاضرين بكتاباتهم التي اختفى بريقها لصالح الشباب، فـنوح شاعر البلاد في نهاية المشهدية يطلب من حامد الشاعر الشاب أن يذهب بسبب اقتراب موعد زيارة إحدى النساء له، لكنه بالفعل يبقى في النهاية "وحيدًا، يتصاعد من رأسه دخان سيجارته، والمبولة البلاستيكية البيضاء على الأرض بين قدميه".

 

اقرأ/ي أيضًا:

خوان غويتيسولو.. "الطائر المنعزل" يودّع مراكش

في مصر.. موضة "الموديلز" على أغلفة الكتب