12-مايو-2017

الفنان منذر جوابرة

ينتقل بنا الفنان منذر جوابرة بين معرض وآخر إلى عالم من التجديد في التقنيات والأسلوب والوسائط، ولكنه ما زال يفتح أسئلته العديدة حول مفاهيم وطنية ملتزمة، هذا ما نجده في معرض "علّو"، حيث تعلو تلك الأسئلة كل التفاصيل، وتنقل في بحث أكثر شمولية في مفهوم الألم والموت، الذي ينقلنا من خلالها لحالة من التجلي الجمالي والتقني، على الرغم من سطوة الألم الحاد الذي يبنيه في أعماله، وذلك في الأسلاك الشائكة.

يحاول منذر جوابرة في معرضه الجديد أن أن يقارب معنى الموت الفلسطيني

يقول منذر جوابرة "عملت على تفكيك هذه الوحدات بالتقارب مع مصطلحي الهدم والبناء، وإضعاف الصورة الراسخة لمفهوم السلك الشائك نفسه، وقدرتنا على تحويله من شكل إلى آخر، وهي تشبه إلى حدٍّ بعيد التفكك القيمي والوطني والنضالي الإجتماعي للوطن العربي عامة، وفلسطين خاصة، عبر تحولات عديدة مرت بها المنطقة، وأن حالة التفكيك هذه لم يتبعها بعد حالة البناء، وفي هذه المشروع تم العمل على صناعة أكثر من عشرة آلاف قطعة "شوك شبك"، وأعيد بناؤها في أعمال فنية غاية في الحساسية والشفافية، وهو ما يمكننا قوله إننا نستطيع تجاوز الألم وعدم التوقف في زمنٍ مضى، بل علينا تحويل كل هذا الوجع لمواد تساهم في رقي الإنسانية التي آن لها أن تقول يكفي".

اقرأ/ي أيضًا: منذر جوابرة.. عودة إلى دفتر الانتفاضة

في العودة لأعمال منذر جوابرة، نجدها تضخ طاقة جديدة في أعماله، وتترك أثرها على الساحة الفنية، مما يساهم ويعزز دور الفن في تبني مفاهيم التغيير والبناء، والمساهمة في تحويل كافة الأدوات لسلاح مقاوم، ودعوة عامة للتضامن مع هذا الوجع، ولن نجد ألمًا أكثر قسوة من فقدان الأوطان والشهداء والمعتقلين والجرحى، هم ألم دائم لا يتوقف مع الزمن، بل يبقى محفورًا في الذاكرة والقلب.

وفي الاقتراب من صناعة هذه الأسلاك ومواجهتها بكل هذا الهدوء ربما، ما هو إلا حالة من الرقي في مواجهة الألم ومسبباته، وليس الهروب منه كما هو متوقع، بل صناعته في صور وأشكال أخرى، فعمل "الأرجوحة" مثلًا وبكل ما فيه من صدمة على المستويين البصري والحسي، إلا أنه في الوقت نفسه يجعلنا نفكر أكثر في ماهيته وقدرتنا على الانتصار على الموت، وهنا يذكرنا بمقولة محمود درويش "نسيت أن أموت مثلك"، عمل يوحي بالقوة التي يوظفها في أن نواجه قدرنا وأن نصنع منه حياة أخرى، فلم يتوقف تاريخنا المؤلم عن صفعنا اليومي، وهو واحدة من السادية التي يمارسها التاريخ ضدنا وقبولنا بضعفنا أمامها، أما أمام عمل الأرجوحة فنقف مدهوشين مصدومين لنذهب أبعد من هذا التعبير المجازي والذي يفرض علينا شروطه في الهروب أو المواجهة، وهنا يضعنا في مواجهة أنفسنا أيضًا ما الذي علينا أن نفعله.

تمثّل الأسلاك الشائكة ذاكرة جماعية في فلسطين، الاقتراب منها يعني إما الألم أو الموت 

اقرأ/ي أيضًا: رنا حتاملة.. معارك الفن الملتزم

كذلك صورة الملثم بالأسود، والذي يجلس مكان الجندي المختبئ خلف السواتر الإسمنتية، ليجلس مكانه هذا الشخص ويأكل شبك الشوك، وكأنه يقوم بتفكيك الأسلاك الشائكة خلفه وأكلها والتخلص منها، وكذلك ما يعانيه ربما الجندي حينما يقف كل يوم في هذا المكان يدقق في هويات المواطنين، وما يعانيه من حالة نفسية لا شك أنها تشكل حالة أرق وملل منه، ويعرف جيدًا أنه واهم في قمع المواطن، وأن هذا الجدار الإسمنتي ما هو إلا حاجز بصري سيترك ندوبه في من صنعوه أولًا.


كلمة المعرض

في الارتفاع عن الأرض نستطيع أن نرى مساحات أكبر، وأن نقترب من أرواحنا المعلقة في السماء، وفي العلو نستطيع أن نفتح ذراعنا لنجرب الطيران.

في تاريخ المعابد الدينية وبحثها عن فلسفة الخلود والموت، نجدها تأخذ المرتفعات لتكون أقرب للسماء، وكذلك في حالات التصوف والتأمل، ولكي تخلق حالة من النقاء، فإن الارتفاع بخط عمودي يساعد على فهم أعمق في مسألة السمو وقدرتها على تدريب الروح في تخطي مسألة الموت والألم، وتعيد أحياء الروح في أشكال أخرى.

أعمال "علّو" تمثل حالة من الإرباك والتداخل بين مفهومي الموت والألم، وتسعى من خلالهما أن ترتفع قليلًا كحالة تصّوف وتأمل، وتعيد صياغة سؤالها البصري في ماهية الألم أساسًا وقدرته على قتل كل أشكال الفرح، أو العكس تمامًا، وتجاوزه لأن يصبح الموت مثل الحياة لا يعني شيئًا، بل تستمر الحركة دون أن يتأثر الآخرون في دعوة لاستمرار البقاء دون معيقات.

 

إن العنف والحساسية جزء مكّون من العمل عبر تفريغ هذه الشحنات لصناعة "أشواك" شائكة لأكثر من عشرة آلاف حبة، ولإعادة بنائها في أشكال غاية في الحساسية والشفافية، لتجاوز كل هذا الألم. ومحاولة لنقل الشعور الإنساني لمادة ملموسة تساعدنا على رؤية هذا الوجع بشكل مختلف، وأقل عنفًا مما يجب أن يكون عليه، وأن تقف الصدمة فقط على المادة المستخدمة وطريقة بنائها. 

في رحلة الحياة للناس باختلاف ثقافاتها ولغاتها، لا أحد إلا ويعرف ماذا تعني هذه الاشارة "شوك الشبك"، ويعرف ماذا يعني اقترابه منها: فإما الألم وإما الموت، وهي ذاكرة جماعية، لا شك بأننا جميعًا سالت دماؤنا منها، وفي أقلها حرمتنا من الشعور بالجمال والتفوق الإنساني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مارك شاجال.. ضد الجاذبية

علي يماني.. تسخير اللون لانعتاق الإنسان