27-أبريل-2021

فوتوغرافيا لـ غطفان غنوم/ سوريا

قبعنا هادئين تمامًا كسنجابين استشعرا الخطر فتجمدا. حبسنا أنفاسنا بينما تعالت ضربات قلبينا رويدًا رويدًا كمحرك ديزل قديمة. لم تكن أول مرة لنا، فقد اعتدنا انتهاك عزلة ذلك المكان.

تجرأنا بدافع الرغبة الشديدة أن نصعد درج تلك البناية الذي ينتهي بنا للفسحة المفضية نحو باب السطح المعدني.

وفي تلك العلية البلاطية الرطبة صيفًا، كنت أفرش كأي جنتلمان عاشق سترتي على الأرضية التي كان سكان البناء يشطفونها أسبوعيًا.

كنا نقتسم المساحة بحب المجانين، ولا شك بأن الخوف كان يشاطرنا الوقت المسروق لكنه أضاف لطعم العشق نوعًا من الإثارة المحببة، لم يكن يضايقنا شيء سوى الضوء المتسرب عبر الثقب الذي يحاذي الترباس الصدئ في باب السطح.

ولكن مع وجود الورقة النقدية من فئة الخمسة ليرات فقد تجاوزنا هذا المنغص إلى غير رجعة.

كانت الورقة كفيلة بكتم الضوء تمامًا عندما نسد الثقب، وهذا ضروري كي لا تقع ظلالنا على الحائط الجانبي فتفضحنا تلك الظلال، كما أن العملة الورقية التي فقدت حاليًا قيمتها كانت كفيلة حينها بإيصالي لبيت حبيبتي إذا ما اخترنا السرفيس.

ما الذي جرى ذلك اليوم حتى انتبه الجيران لنا؟ لا أدري حتى الآن.

كنت حينئذ في العشرين من عمري، أحببت فتاة تصغرني بسنتين. لطالما اعتدت القول للأصدقاء بأن عشقي ابتدأ في قمة ذلك الجبل منذ اللحظة الأولى، ثم إنه لم يجد طريقًا حين تلفت سوى النزول، غير أن البدايات تحمل دومًا وهم الأبدية.

لم نكترث أبدًا للقيظ أو لرائحة الإبط عندما كنا نلتصق ببعضنا على مقاعد الحدائق العامة. ولم يعن لنا أبدًا اشمئزاز الناس منا عندما كنا نلتف كإخطبوطين ونمشي بخطوات السكارى.

من السهل بالنسبة للكثيرين حينها منح أنفسهم حق الوصاية على الهيبة العامة الخاصة بحارته، ولذلك فقد اعتدنا على المضايقات وتدربنا على تجاهل الكلمات النابية.

عرفتنا كل الحدائق والشوارع والسرافيس والممرات أو حتى المشافي والمدارس ذات الأسوار.

ولم نترك مكانًا ولم نقتنص منه فسحة للحب وممارسة الغرام. كانت قبلاتنا خاطفة وسريعة ولا أذكر أبدًا أطيب وأشهى من قبلة عاشق ممزوجة بالخوف لأنها منكهة بطعم التمرد والانعتاق.

كانت كل قبلة نصرًا وكل لمسة طعنة في جسد المحيط الذي كنا نمقته.

ومع مرور الأيام لم تعد القبلة تكفي العاشقين ولا الشجرة لتواري رغبتهما المتزايدة بالحب. فانطلقنا نبحث بحثًا مضنيًا عن مكان لا يعرفه سوانا.

تسلط علينا مرة رجلان ادعيا بأنهما ينتميان لفرع أمن كنا قد اخترنا حديقة محاذية له لنرتاح بها من عناء المشي، ولم تنته القصة بسلب هويتينا لمدة ساعات، بل تجرأ ذلك العنصر على زيارة أهل الفتاة لاحقًا وإخبارهم بما رآه، غير أنه هذه قصة أخرى لست بصددها.

وفي حادثة أخرى وجدت كهفًا رائعًا كانت نباتات متسلقة كثيفة قد شكلته بالتعاون مع سور المركز الثقافي فتركت داخلها فسحة كأنها حيز مقتطع من الجنة، فارتدنا ذلك الكهف مرارًا، لكن الحكاية انتهت حين تسللنا مرة فوجدنا بأن أحدهم قد ترك لنا برازه كتذكار في المكان، ويبدو أن حاجاته البيولوجية قد قادته بحكم الضرورة لاكتشاف ذلك المكان العصي على الاكتشاف.

وهكذا مضت بنا الأيام، حتى اهتديت إلى تلك البناية ذات العشرة طوابق.

كفل لنا النظام الطابقي أمرين هامين: الأول أن كل من سيرانا قد دخلنا سيظن بأننا ضيوف على أحد ساكني الشقق وبالتالي فلن يسألنا عن وجهتنا. والأمر الثاني أننا نستطيع الادعاء في حال الاشتباه بوضعنا المريب بأننا نبحث عن شقة صديق ما، أضعنا عنوانه واشتبهنا أنه يقطن في هذه البناية، دعم هذه الفكرة أن البناية تجاور عددًا من الأبنية المشابهة تمامًا كما لو أنها بنيت على طراز سوفييتي بائد.

طورنا أساليبنا في تطويع المكان لشهواتنا، وكنا حذرين للغاية، فلا مكان للخطأ في مثل حالتنا، تارة كنت أسبقها ثم تتبعني، وتارة تسبقني فأتبعها بعد أن أتأكد تمامًا من خلو المكان من الفضوليين.

تحولت العلية لحلبة من حلبات العشق. وتحولت سترتي الجلدية لبساط ريح خرافي نفترشه ثم نطير في سماء الملذات.

ولكن ذلك اليوم لم يكن كغيره من الأيام فقد اتفق أن صعدنا وسارت الأمور في البداية كالعادة.

كنت قد تطيرت قبل ذلك بسبب رؤيتي لبعض العساكر الذين يستعرضون فتوتهم أمام مدخل فرع الأمن العسكري الذي يتوسط الأبنية السكنية في الحارة التي تقع فيها البناية، وهؤلاء يشعرون بنوع من الفخر نظرا لوضعهم الاستثنائي، لأن الخدمة العسكرية في مكان كالأفرع الأمنية لا تتحقق لولا الدعم والوساطة والتوصيات كما يعلم القاصي والداني في بلادنا، وهذا ما يوفر لهم امتياز التسلط على المارة.

عبرنا الشارع وتجاهلنا معًا الأصوات التي كانت تصلنا من جنود الأمن الوطني المتعطشين لرؤية فتاة، أي فتاة كانت ستفي بالغرض.

في عليتنا السرية، كانت الترتيبات تجري وفق نظام دقيق، الصعود الحذر دون أن ننبس بكلمة، الانتباه الشديد للعيون السحرية التي تتباهى على كل باب، فلو كان بصيص الضوء نافذًا منها لتابعنا الصعود، ولو كانت معتمة لتعللنا بأننا نبحث عن اسم ما مسجل على جرس الباب أو اللافتة التي تدل على أصحاب البيت، فلربما كان أحد ما يراقب الصاعدين من وراء بابه، اقتضت الضرورة أن نطور مهاراتنا.

كنا ولضيق الوقت المتاح نبادر فورًا لخلع ما نقدر عليه خلعه من الثياب، وهذا التمادي حصل على دفعات، فأول مرة لم تكن كآخر مرة، ورغم البرد لم نكن نشعر إلا بحرارة الشوق.

لم تكن غزواتنا للبناية متواترة، بل كانت مدروسة، وكنا نتركها أيامًا ثم نعاود الكرة، فليس من المحبذ التواجد هناك يوميًا، وحدث ذات مرة أننا ضبطنا شابًا وفتاة قد قررا الصعود واتخذا من الغار الذي كان لنا ملجأ لنزواتهم، وما كان منهما إلا أن سارعا بالنزول هربًا، انتظرنا حتى غابا وأخذنا مجددًا المكان.

كانت اكتشافاتنا الجنسية تلهينا عن أي شيء آخر.

كنت عاري الصدر عندما سمعت همسًا يأتي من الطابق الذي نعتليه مباشرة. تجمدنا من الخوف، ودارت بي الدنيا، بينما كانت الفتاة تستر جيوبها، كنت أفكر بكيفية الخروج من المأزق الذي وقعنا به.

كانت اللمبة التي توجد عادة في الممر الطابقي قد اشتعلت، وبدأ ظل ما بالتطاول على الجدار المقابل لنا، مما يعني أن الشخص قد بدأ فعلا بالصعود، وبملاحظة البطء والحذر الذي كان الظل يتمدد به، عرفت بأن ذلك لا يبشر بخير، فهي مشية شخص يريد التأكد مما عرف أو اكتشفه مسبقًا.

تسارعت الأفكار في بالي، ماذا لو أننا وقعنا في قبضة سكان البناء ونحن على هذه الحالة؟

ومن سيتفهم ترهات العشق واللوعة؟

هل ستتطور الأمور أكثر ليفتضح أمر الفتاة؟

يقدم الجسد في حالات الهلع الشديد ميزات لا يمكن تخيلها، فهو يعمل بآلية وقائية منفصلة تمامًا عن العقل، كان جسدي وجسدها يلتصقان تمامًا بالأرضية وينخسفان نحو الحائط ليكسبا أكبر مسافة قد تخفينا عن نظرات الصاعد الفضولي.

أما العقل فقد حسم المسألة، كان لا بد من الركض والفرار مهما اقتضى الثمن، وهذا يعني الإمساك بيد الفتاة ثم التقافز عبر الدرجات بشكل صادم ومفاجئ.

ولم يكن من الأمر مفر فقد أطل رأس المترصد أخيرًا والتقت نظراتنا.

كان شابا يافعًا، ويبدو أنه تفاجأ بمنظرنا، فاستغرقه الأمر ثواني عدة ليصرخ بأعلى صوته: حرااااامي.

من الجدير ذكره بأنني فكرت بعد زمن بتلك الكلمة "حرامي"، فذلك الولد ورغم ضبطه لحالة واضحة تمامًا، تنتهك العرف الاجتماعي، إلا أن التحذير الذي أطلقه لينبه سكان المبنى كان خاطئًا.

ولكنني أفهمه تمامًا، حين كنت في عمره، كان أكثر ما أخشاه هو الحرامي، ذلك الذي يتسلل ليلًا حاملًا مصباحه وواضعًا القناع على وجهه، ولو أنني قابلته وجها لوجه لتركته يسرق البيت بما فيه على أن أقرر مواجهته.

من الصعب تخيل أن الحرامي إنسان مثلنا، وأنه في حقيقة الأمر يرتعد خوفا بينما يمارس نشاطه.

في تلك اللحظة السريعة، تمنيت فعلًا أن يتم تجريمي بصفة حرامي على أن يُلقى القبض عليّ بصفة ماجن!

كل شيء يمكن أن يغتفر وأن تتوفر له أسباب الرحمة إلا العشق، فقد كان كبيرة الكبائر.

متجاوزًا الصبي بقفزة عملاقة، اخترقت الفراغ الذي كاد يلتهمني، بينما أفسح لي الطريق مرتعبًا، كانت يد الفتاة مشتبكة بيدي وأصابعها متيبسة بين أصابعي..

السرعة التي انطلقت بها لم تمكني من رصد أبواب الشقق التي كنا نجتازها نزولًا باتجاه باب الفرج، غير أنني متأكد بأن أعداد اللاحقين لنا تتزايد كلما نزلت طابقًا، شعرت بأن جيشًا كاملًا قد امتلأ بالحقد بدأ بالهرولة خلفي، كانت الأصوات تتعالى وصراخهم وصخبهم يتزايد كلما اقترب من باب النجاة الذي يفصل البناء عن الشارع العام.

ومع أن كاحل الفتاة التوى زعقت من شدة الألم إلا أنها تابعت الركض كغزالة تنشد النجاة من ضباع اشتد بها الجوع.

وصلنا للطابق الأرضي ثم انسلخنا من الدخل نحو الفضاء الخارجي، وهنا وقع ما لم يكن بالحسبان، فقد اختارت الهرب هي باتجاه الحارات الخلفية، أما أنا فقد سلكت الاتجاه الآخر المعاكس تمامًا، وكان ذلك قرارًا حكيمًا، فالحارات ستغدو كالفخ المحكم الإطباق أما الأوتوستراد الذي تطل عليه البناية فهو السبيل الوحيد للنجاة. نظرت خلفي فشاهدتها تترنح وتسقط على الأرض.

حسم الأمر، استدرت بسرعة البرق وركضت نحوها تناولتها عن الأرض، ولم أعرف حينها من أين امتلكت تلك القوة، استدرت مجددًا وركضت نحو أول الواصلين، ويبدو أن منظري الوحشي قد زرع في قلوبهم الخوف، فتسمروا لبرهة في مكانهم، اخترقتهم ودلفت للشارع أخيرًا.

لتتخيل معي يا صديقي المنظر، شاب يركض عاري الصدر، حاملًا لفتاة، يركض خلفه جمهور غفير من الرجال والأطفال، عويلهم يتعالى كلما ابتعدت عنهم.

مرت بالقرب منا سيارة أجرة، ثم توقفت فجأة، وعادت بسرعة، أشار لي السائق أن أصعد. كانت المسافة الباقية الفاصلة بيني وبين المتعقبين لا تتجاوز عدة أمتار حين استطعت الفرار.

نظرت من النافذة الخلفية بينما كانت السيارة تبتعد عن جيش السكان.

في السيارة كان الموقف أصعب ويتطلب حنكة ثعلب لشرح القصة، ساعدتني البديهة على اختلاق قصة غريبة.

زعمت بأننا مندوبا مبيعات لأدوات المطبخ وتقشير البطاطا والخضروات وخلافه، وأننا صعدنا البناء وتوازعنا الطوابق، ثم أنني سمعت صراخها فنزلت راكضًا لاكتشف بأن أحدهم قد تحرش بها، فثارت ثائرة وتطورت الأمور حتى انتهت بما شاهده الرجل بأم عينه. لم تقنع تلك الرواية السائق، غير أنه أنزلنا حيث أردنا دون أن يطالب بأي نقود.

لاحظت بأن حبيبتي كانت تعرج. بعد أن ودعتها.

مشيت مرتجفًا شوارع كثيرة، قبل أن أصل للبيت.

حدثت هذه القصة منذ حوالي العشرين عامًا. كانت تلك قصتي الأولى مع الحب، وكانت تلك العلية سريري الأول.

تلك العلية الواقعة في تلك البناية الواقعة في الناحية الشمالية من حارتي التي قضيت فيها سنوات طويلة من عمري، لم تعد موجودة.

فقد تهدمت بقنبلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة ضد اللقاح الطائفي

الأزعر والبردان والساهي وأنت وأنا