31-مايو-2018

نقل جزء من يهود الفلاشا إلى تل أبيب بالطائرات (أ.ف.ب)

على مدى سنوات طويلة لم ينج البحر الأحمر من الغزوات الإسرائيلة، أحيانًا لإحكام القبضة على ساحل تتنفس عبره أغلب الدول العربية، وفي أحايين كثيرة لإدارة عمليات جهاز "الموساد" النوعية. لكن عملية تهجير اليهود الفلاشا بهدف تعزيز وجود الاحتلال الإسرائيلي في ثمانينات القرن المنصرم، اكتنفها الغموض، على نحو أكثر إثارة، ولاذ أغلب السودانيين المتورطين فيها بالصمت، ربما لشعورهم بالخيانة والتواطؤ مع جهاز مخابرات اشتهر بالإجرام والقتل، في حين أخفت اسرائيل الأسماء، واكتفت بالإشارة إلى منتجع عروس في ولاية البحر الأحمر الذي أدارت منه عملياتها السرية.

عُقدت محاكم تاريخية اتهمت الرئيس جعفر نميرى بالخيانة وبالتورط بترحيل اليهود الفلاشا إلى فلسطين المحتلة

في العام 1985 أطاحت ثورة شعبية بنظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، وفي الحال عُقدت محاكم تاريخية عُرفت آنذاك بمحاكم سدنة مايو، وتم توجيه الاتهامات إلى الرئيس جعفر نميري ونائبه اللواء عمر محمد الطيب، واللواء عثمان السيد رئيس جهاز الأمن الخارجى، والفاتح عروة المدير الحالي لشركة زين السودان، وعدد آخر من ضباط جهاز أمن الدولة المنحل، وذلك بتهمة الخيانة وترحيل اليهود الفلاشا من الأراضي السودانية إلى إسرائيل، العدو الأول للأمة العربية وللسودانيين ضمنهم، لكن تلك المحاكم انتهت إلى إنكار تام، رغم الروايات المتواترة عن موافقة الرئيس النميري شخصيًا على إجراءات العملية، وقبضه الثمن.

 بدأت العملية بتأمين ترحيل يهود الفلاشا من منطقة "القضارف" الحدودية المتاخمة لإثيوبيا وحتى مطار الخرطوم، وتأمين منطقة ركوبهم الطائرات، على مدى شهر ونصف بدأت من تشرين الأول/أكتوبر 1983 وحتى منتصف تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، وتم ترحيل ما لايقل عن 25 ألف يهودي لتوظيفهم في عمليات الاستيطان التي لم تتوقف حتى اليوم.

المثير في الأمر أن الموساد نجح في بناء منتجع عروس بمدينة بورتسودان من خلال خداع هيئة السياحة السودانية، واستئجار منتجع عروس هذا عبر شركة سويسرية للغطس في الظاهر، والتغطية على أخطر عملية مخابراتية من داخل الأراضي السودانية، هدفت في النهاية إلى إجلاء آلاف اليهود العالقين في معسكرات اللجوء السودانية .

ورغم أن العملاء أخفوا هوياتهم بسبب موقف الشعب السوداني من الاحتلال الصهيوني، لتتحول العملية برمتها إلى عملية سرية، ولدرجة أن عميل الموساد غاد شيمرون، الذي عمل بالقرية قال في مذكراته: "كان ذلك من أسرار الدولة التي لم يتحدث عنها أحد، حتى أسرتي لم تعرف". وتوالت تباعًا الحكايات التي أفرج عنها أرشيف الموساد وفق تراتبية التقادم الأرشيفي، وتحولت إلى فيلم هوليودي يعظم مزاعم بطولية.

اقرأ/ي أيضًا: آخر ضحاياه صحفية تونسية.. الخداع الإسرائيلي يتواصل

وأفرجت صحيفة هآرتس الإسرائيلة عن بعض الصور والتفاصيل الخاصة بتلك العملية بعد 37 عامًا من التكتم، والتي تحولت إلى عمل سينمائي، ونقلت الصحيفة قصة إدارة الموساد لعمليته من منتجع عروس السوداني، ورسم أجواء تلك العملية التي وصفتها الصحيفة بأنها "كانت واحدة من أكثر عمليات الموساد جرأة وتعقيدًا وأطولها تشغيلًا".

ودارت كواليس الرواية في مركز الغوص والاستجمام الصحراوي على الساحل الشرقي في السودان، وهو كما يبدو اليوم مزيج من الأجواء الرائعة والشواطئ الرملية والشعاب المرجانية، بما في ذلك حطام السفن الحقيقية قبالة ساحل شرق أفريقيا، إذ لا يزال قِبلة للسياح من كل بقاع العالم. ووفقًا لرواية الصحفية على لسان أحد عملاء الموساد، فقد تم تأهيل منتجع عروس من قبل وكالة الاستخبارات الإسرائيلية، التي زارها نشطاء مخيمات اللاجئين السودانيين بالشاحنات وهم يحملون اليهود الإثيوبيين، المعروفين أيضًا بإسم بيتا إسرائيل، في الرحلات المغادرة عبر السودان للعودة إلى المنتجع، قبل ترحيلهم ونقلهم جوًا إلى تل أبيب.

وتم تدريب قوات الكوماندوز البحرية الإسرائيلية لإجلاء اليهود الإثيوبيين بواسطة قوارب من السودان إلى إسرائيل، بإذن من غاد شيمرون، وكيل الموساد السابق، الذي لعب دورًا رئيسيًا في إنشاء وتشغيل منتجع البحر الأحمر، وكانت تدفعه رغبة حقيقة لمساعدة "القبيلة اليهودية المفقودة".

ويقول شيمرون لصحيفة "هآرتس": "أنا سعيد جدًا بإعادة إحياء القصة وإعادتها من الموت"، وسرد بعض الوقائع المنسية، قائلًا "إنها تجربة العمر، تم إطلاق النار علينا؛ تم اعتقالي واستجوابي من قبل الأمن السوداني. الحمد لله لم يقتل أحد أو يصب بجروح خطيرة، لكن عمليات نقل المهاجرين كانت خطيرة بالتأكيد".

وفي آذار/ مارس 1982، عندما تم إطلاق النار على الإسرائيليين من قبل وحدة عسكرية سودانية، تبعتهم و"حمولتهم البشرية" إلى الشاطئ، معتقدين أنهم مهربون. ويروي شيمرون أن الكمين حدث في الوقت الذي كان فيه الوكلاء يحمّلون آخر مجموعة من الإثيوبيين على متن قارب مطاطي يرسلهم للالتقاء بزورق بحرية إسرائيلية تنتظر في المياه الدولية، وبينما كانت الطلقات تطير فوق رؤوسهم، بدأ أحد الإسرائيليين يصرخ على الضابط السوداني المسؤول. "ماذا تفعل، أنت مجنون؟ كيف تطلق النار على السياح؟"، وهدده بتقديم شكوى إلى الجهات العليا، فانطلت الخدعة على خفر السواحل السودانية، ويعتقد شيمرون أن النداء الوثيق كان بمثابة نهاية مهمات الإنقاذ البحري التي جرت خلال الأشهر الستة السابقة للعملية. وكشف أن 17 طائرة نقل جوي هبطت مؤقتًا في الصحراء السودانية وأقلعت باليهود الإثيوبيين.

إذن فجميع تلك العمليات تم تنفيذها من قبل فريق عروس، مركز القيادة، وهذا يعني أن المنتجع استُغل بالكامل لإدارة أعمال الموساد إزاء تهجير اليهود الفلاشا، ولربما وظف في عمليات أخرى داخل وخارج الأراضي السودانية.

نجح الموساد ببناء منتجع عروس من خلال خداع هيئة السياحة السودانية، واستئجار المنتجع عبر شركة سويسرية

يعتقد إسحق أحمد فضل الله الكاتب الصحفي السوداني أن "إسرائيل تولي البحر الأحمر اهتمامها من ذلك المنطلق، وهي الأكثر تواجدًا فيه"، مضيفًا، أنه من يوم ترحيل الفلاشا لم تتوقف عمليات الموساد، وهم يعلمون أن السودان لوحده لا يستطيع مواجهتهم ولذلك يتمادون في التوغل". أما بخصوص الاعتداء الإسرائيلي على مصنع اليرموك السوداني في العام 2012، لا يستبعد إسحق تنفيذه من داخل قاعدة إسرائيلية بالبحر الأحمر. ويستدرك قائلًا: "الحكومة السودانية كانت تعلم بتلك الضربة الجوية قبل أن تحدث ولذلك نقلت كل المعدات العسكرية واستبدلتها قبل ساعات"، واعتبر أن البحر الأحمر من أكبر المشاريع التي يعمل الإسرائيليون عليها، كما أن الحروب الآن مجملها بهدف السيطرة على موانئ البحر الأحمر. مدللًا على ذلك، بأن الموساد اليوم يدير إرتيريا بالكامل، وقد أصبح  الرئيس أسياس أفورقي لعبة في يد إسرائيل.

وبالعودة لقصة دخول الموساد إلى منتجع عروس، فقد أجّرته المؤسسة السودانية للسياحة مقابل مبلغ 320 ألف دولار أمريكي، لشركة سويسرية، قالت إنها تريد إنشاء وجهة جديدة لقضاء العطلات. وبطبيعة الحال كان مدراء الشركة "الأوروبيون" ومدربو الغوص ورياضة ركوب الأمواج هم في الواقع عملاء استخبارات إسرائيليين، وقام الموساد بتأجير منتجع عروس لمدة ثلاث سنوات ووضع عدد من الوكلاء الرئيسيين هناك، وقد تم تكليفهم بتجديده وتوصيل الكهرباء والماء وتحويله إلى وجهة سياحية مليئة بالموظفين وممتعة، كما أظهرت الصور التي نشرتها "هآرتس" أعضاء فريق الموساد وهم يعتلون السيارات في الصحراء السودانية، وفوق ظهور المراكب المطاطية، بجانب العميل غاد شيمرون داخل منتجع عروس وهو يشير إلى صورة معلقة للرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري.

وبرر شيمرون في مذكراته إنفاق إسرائيل لأموال طائلة من أجل تهجير اليهود الفلاشا: "أي دولة متطورة أخرى ستكون مستعدة لاستثمار عشرات الملايين من الدولارات لإنشاء بنية تحتية تشغيلية لنشاط سري في بلد معادٍ، يشارك فيه عدد كبير من قوات الجيش، فقط لإنقاذ عدة آلاف من الجياع المدنيين في أفريقيا التي مزقتها الحرب". لكنه وبالرغم من ذلك انتهى الحال باليهود الإثيوبيين إلى شعور بالدونية والعنصرية وعنف الشرطة، ولا أحد يستطيع تخيل حجم معاناتهم الطويلة، وكثير منهم قرر الهرب إلى أوروبا، لأن "الوطن البديل" لم يكن ملائمًا للعيش،على ما يبدو.

اقرأ/ي أيضًا: بعد اغتيال الزواري.. الشارع التونسي يضغط ويحتج

ومن المهم التذكير أن اليهود جاؤوا إلى بورتسودان ضمن شركات الملاحة البحرية والتجارة والتعليم وغيرها، لكنهم لم يكونوا منظمين تنظيمًا ظاهرًا بالرغم من بصمتهم الحاضرة في تكوينات المدينة، وهناك أسر انصهرت وتصاهرت في المجتمع السوداني وفقًا لإفادة الصحفي المتخصص في شأن البحر الأحمر، عبد القادر باكاش، ولذا لم يكن غريبًا على جهاز الموساد إقامة شركة استثمارية لتأجير وإدارة وتشغيل المنتجع، وليكون قبلة لهواة الغوص من الأوروبيين وليكون غطاءً لإقامة ضباط وعملاء الموساد الذين أشرفوا ونفذواعمليات ترحيل يهود إثيوبيا إلى إسرائيل، عن طريق البحر الأحمر وعن طريق الجو من مطار فورتي سڤن بمحلية سنكات.

خرج الموساد من منتجع عروس بعد نهاية عملية "اليهود الفلاشا" لكن اختراقاته للحدود السودانية لم تنقطع

وقال باكاش لـ"ألترا صوت" إن جهاز الموساد خرج من منتجع عروس بعد نهاية عملية "اليهود الفلاشا" لكن اختراقاته للحدود السودانية لم تنقطع، ففي نيسان/ أبريل 2008 نفذ ضربة جوية في منطقة "أوكو قباتيت" الشرقية لـ15 سيارة يشتبه في أنها لمهربي سلاح إلى غزة بحسب الزعم الإسرائيلي، وفي ذات العام نفذت ضربة أخرى لأربع سيارات في وادي العلاقي بولاية البحر الأحمر، وفي أيار/ مايو 2011 نفذت إسرائيل غارة جوية بالقرب من مطار بورتسودان الدولي استهدفت المواطن السوداني عيسي الهداب، الذي قُتل في الحال، أما في العام 2012 فقد نفذت إسرائيل ضربة جديدة داخل بورتسودان بحي ترانسيت، استهدفت تاجرًا معروفًا يدعي العمدة نويصر، أحد شيوخ قبيلة العبابدة.

فيما أوضح باكاش أن "عددًا من الصيادين السودانيين الذين يعتلون المراكب الخشبية في الساحل السوداني شكوا من تعرضهم للتفتيش من قبِل غواصات إسرائيلية تباغتهم من وقت لآخر"، وهذا يعني أن إسرائيل على مرمى حجر، إن لم يكن الموساد لا يزال ينشط بصورة ما داخل الأراضي السودانية أيضًا.

في ذات الوقت تستعر حمى التطبيع مع إسرائيل من قبل القوى التي تسعى لبسط نفوذها بالبحر الأحمر بشتى السبل الخفية والمعلنة، أي أبوظبي تحديدًا، عبر شركة موانئها، وبحجج المساعدات الإنسانية والاستثمار كذلك. وفي الوقت عينه الذي تستثمر فيه السعودية في مشروع نيوم، وتتنازل عن جزر امست مرتعًا لقواعد حربية إسرائيلية في البحر الأحمر، ناهيك عن مصير تيران وصنافير المصرية التي فرض بها عبد الفتاح السيسي لصالح مشروع التصاق السعودية بإسرائيل من باب التطبيع "القانوني" أيضًا بستار القانون الدولي والحدود البحرية! 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أشرف مروان.. كيف تجاهلت إسرائيل جاسوسها الأثمن؟

العملية كاسندرا.. كيف قايضت واشنطن مخدرات حزب الله بالاتفاق النووي الإيراني؟