01-فبراير-2016

المتحدث باسم المعارضة السورية سالم المسلط في جنيف (دورسون أدمير/الأناضول/Getty)

لا يختلف سوريان، من أي معسكر سياسي كانا، على أن البلاد تمر بمرحلة حرجة وصعبة، وأن طاولة المفاوضات التي أُجبر كل من النظام والمعارضة بالجلوس إليها لا تبعث على الراحة لا سيما على الضفة الثورية ومن قبل الجماهير المؤيدة للثورة، خشية من أن يحصل النظام في المفاوضات على ما لم يحصل عليه في الميدان رغم الإسناد الروسي والإيراني والمليشياتي الأجنبي المباشر لقواته.

لكن الهيئة العليا للمفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية، التي أوكل لها مهمة التصدي لعملية التفاوض، والتي بدأت عمليًا أمس، يوم الأحد 31 كانون الثاني/يناير في جنيف، قدمت أداء جيدًا ومختلفًا عن أداء مجالس وهيئات المعارضة السابقة، رغم ما تتضمنه مهمتها من ضرورة الحفاظ على مكتسبات الثورة الميدانية والسياسية وتحقيق غاياتها بإزاحة نظام الأسد وتأسيس دولة ديمقراطية تحفظ حرية وكرامة جميع السوريين، بالتوازي مع الحاجة الملحة للتماشي مع متطلبات التوافقات الدولية التي لا تسمح بالتخلف عن المفاوضات وتفرض مسارًا جديدًا للتسوية السياسية في البلاد والذي أعلن في فيينا وأقر بقرار دولي صادر عن مجلس الأمن تحت رقم 2254.

استطاعت الهيئة العليا برئاسة رئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب إبداء قدر كبير من الصلابة في تقديم أي تنازلات

استطاعت الهيئة العليا برئاسة رئيس الوزراء السوري المنشق رياض حجاب إبداء قدر كبير من الصلابة في تقديم أي تنازلات على مذبح المفاوضات، لا سيما وأن المبعوث الدولي الخاص لسوريا، ستيفان دي مستورا، لا يكل عن محاولة تحويل العملية التفاوضية من عملية سياسية تكلل صراعًا عسكريا تفرض تغييرًا جذريا في النظام السوري إلى حملة علاقات عامة يطلب فيها من النظام إعادة تشكيل حكومته (التي يرأسها حاليًا وائل حلقي) وضم عناصر من المعارضة إليها وتوحيد فصائل المعارضة وجيش النظام استعدادًا للمعركة الأهم، من وجهة نظره ونظر النظام، وهي ضد تنظيم الدولة، وهو ما يبدو أنه النسق المفضل من قبل إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما منذ عام على الأقل.

الهيئة العليا للمفاوضات قاومت تلك المساعي بجدارة عبر المطالبة، في ردها على دعوة دي مستورا لها رسميًا إلى حضور المفاوضات، بفصل المسار الإنساني (الذي يتضمنه القرار الدولي 2254) عن المسار السياسي، بمعنى إخراجه عن دائرة التفاوض وجعله مقدمة ضرورية لأي عملية تفاوضية، ويشمل هذا إنهاء حصار المدن والقرى وإدخال المساعدات الإنسانية فورًا إلى تلك المناطق وإطلاق سراح المعتقلين ووقف الهجمات والاعتداءات ضد المدنيين فورًا، وخاصة القصفين الجوي والبري، كما نص عليه القرار المذكور. واعتبرت الهيئة في بيانات عديدة أن هذه الإجراءات هي الكفيلة ببناء الثقة الضرورية بجدوى المفاوضات، وهو الأمر الذي أجاب عنه دي مستورا "مضطرًا" بأنه حق للشعب السوري وهو غير قابل للتفاوض.

من جهة أخرى، رفضت الهيئة وجود وفد ثالث من المعارضة المحسوبة على موسكو، وفي مقدمتهم هيثم مناع رئيس مجلس سوريا الديمقراطية وتيار قمح، أو حتى حضورهم كمفاوضين مستقلين عن المعارضة، بعدما كان دي مستورا يعتزم توجيه دعوة لهم على هذا الأساس أو ذاك، إرضاءً لروسيا وإيران، وهما طرف في اتفاق فيينا المؤسس لهذه العملية، ليقوم المبعوث الدولي لاحقًا بتوجيه دعوات لهؤلاء بصفة مستشارين لا مفاوضين، وعزز موقف الهيئة موقف أنقرة المعارض بالكلية بحضور صالح مسلم، زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف على قائمة الإرهاب في تركيا والغرب. وهددت أنقرة بمقاطعة مفاوضات جنيف في حال دعوة الرجل المتحالف حاليًا مع هيثم مناع والمدعوم بقوة من روسيا، وبالفعل لم توجه له دعوة، الأمر الذي رفضه مناع وأعلن مقاطعته لجنيف بناء على ذلك.

شددت الهيئة العليا للمعارضة السورية على أن تكون مرجعية مفاوضات جنيف 3 هي – بالإضافة إلى القرار 2254

وشددت الهيئة العليا للمعارضة على أن تكون مرجعية مفاوضات جنيف 3 هي -بالإضافة إلى القرار 2254- بيان جنيف الأول، الذي يُعتقد أنه كان أكثر تبنيًا لمطالب الثورة وأكثر إنصافًا للشعب السوري، وهو يتضمن الدعوة لإقامة "هيئة حكم انتقالي" من طرفي التفاوض بصلاحيات تنفيذية كاملة (ما يعني بصورة غير مباشرة سحب الصلاحيات الرئاسية من الأسد) وينص على إعادة هيكلة مؤسسات الدولية، وفي مقدمتها الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية. وطالبت الهيئة قبل موافقتها على حضور مفاوضات جنيف بأن يكون الهدف منها إقامة "هيئة حكم انتقالي" لا "حكومة وحدة وطنية"، الأمر الذي أيدته الإدارة الأمريكية عبر بيان لمبعوثها إلى سوريا مايكل رانتي في وقت لاحق، في محاولة من الأخير لتلطيف الموقف الأمريكي بعدما تسرب من تهديدات وزير الخارجية جون كيري للمعارضة في حال لم تشارك في المفاوضات.

واشترطت الهيئة أيضًا تطبيقًا كاملًا لا انتقاء فيه ولا استثناء للقرار الدولي 2254، بما يفرضه على النظام من تنازلات ميدانية، في فقرتيه 12 و13، وهما اللتان تنصان على ما سمته هيئة المعارضة "إجراءات بناء الثقة".

وعلى صعيد الوفد التفاوضي، كان لافتًا إبراز الشق العسكري من المعارضة، وهو ما يمثل ذروة نشاط الثورة ضد نظام الأسد، عبر إسناد رئاسة الوفد إلى العميد أسعد الزعبي من الجيش الحر، وإسناد مهمة كبير المفاوضين إلى محمد علوش، أحد قادة جيش الإسلام ذي النفوذ الواسع في دمشق وريفها. وهو ما أزعج موسكو التي قالت إنها تعتبر جيش الإسلام وأحرار الشام تنظيمين إرهابيين وتعارض مشاركتهما في مفاوضات جنيف، لكن هذا الموقف كان على ما يبدو أقرب إلى المناورة منه إلى الواقع، إذ تخلت عنه سريعًا عندما أعلنت الهيئة العليا موافقتها على الذهاب إلى جنيف.

وواجهت الهيئة ضغوطًا كبيرة لدفعها نحو حضور المفاوضات دون شروط مسبقة، وبعد اتصال كيري بحجاب، ولقاء الأخير بوزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، أعلن رئيس الهيئة العليا للمفاوضات تلقي هيئته ضمانات بفصل المسار الإنساني والشروع في تطبيقه على وجه السرعة ودون انتظار نتائج المفاوضات، وهو الأمر الذي بنت عليه موقفها بالموافقة على الحضور إلى جنيف لكن دون الدخول إلى قاعة الأمم المتحدة، وليس بهدف التفاوض مع وفد النظام، بل للتباحث مع دي مستورا وموظفي المنظمة الدولية حول تطبيق المطالب الإنسانية كمقدمة للشروع بالمفاوضات.

وحصدت الهيئة العليا للمفاوضات، نتيجة مناوراتها الفعالة ومراقبة أدائها الجيد لمصلحة الثورة السورية، تأييدًا شعبيًا واسعًا في الأوساط السورية المناهضة للنظام، تشكلت حالة التفاف شعبي حول المعارضة لا مثيل لها على مدى السنوات الخمس الماضية، لا سيما بعد تصريحات حجاب التي وصفت بالصلبة والقوية فيما يتعلق بحضور المفاوضات، والتي أكد فيها عدم المشاركة بالمفاوضات ما لم تتحقق مطالب المعارضة المشار إليها، ما أضاف عبئًا جديدًا على الهيئة وكبل نسبيًا قدرتها على المناورة، نظرًا لحاجتها الملحة للظهير الشعبي والذي بدوره يمثل عامل قوتها الرئيسي في مواجهة الرياح الدولية العاتية.

يبقى أن التحدي الأكبر هو في تطبيق تهديدها الذي أطلقته السبت 30 كانون الثاني/يناير في أنها ستنسحب من المفاوضات (التي لا زالت غير مباشرة) في حال استمرت الانتهاكات من طرف النظام التي دشنها مع حضور وفده إلى جنيف بقصف مخيمات النازحين في جبل التركمان بمحافظة اللاذقية بعد يوم من إعلان الهيئة العليا موافقتها على الذهاب إلى جنيف. إذ لا تبدو أي جدية من النظام ولا من القوى المؤثرة في قراره (روسيا وإيران) في المضي قدمًا بالمفاوضات وخلق البيئة الملائمة لها، بل يقتصر حماس هذا الطرف على الوصول إلى نقطة مكافحة الإرهاب والاتفاق على جعلها أولوية ما يعني صياغة جديدة للعملية السياسية بعيدًا عن الإطاحة بالنظام أو بإدخال تغييرات جذرية على رأس هرمه، وهو ما تعرفه الهيئة العليا، ولكنها على ما يبدو تعول على ظهير إقليمي يدفع باتجاه الدخول في المفاوضات لكنه يرى إمكانية انسحاب وفد المعارضة خلال المفاوضات إذا لم يتحقق تقدم معتبر، الأمر الذي مهد له بالفعل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتصريح وصف فيه التفاوض مع النظام دون تحقيق المطالب الإنسانية "خيانة للمقاتلين"، فيما جدد وزير الخارجية السعودية توعده الأسد برحيله سياسيًا أو عسكريا، معبرًا عن تأييد قرار المعارضة وتبينها لتطلعات الشعب السوري في مستقبل ديمقراطي لا مكان فيه للأسد.

اقرأ/ي أيضًا:
استعدادًا لجنيف 3
جنيف 3.. لا حل في الأفق السوري