27-سبتمبر-2021

لوحة لـ ربيعة ياسين/ الباكستان

تردّد هذا العنوان طيلة عقود، في الصحافة، وفي الجامعات، نُظّمَت حوله مؤتمرات، وأُحدِثت مؤسسات ومجاميع لغوية، كلها حملت ذلك العنوان البرّاق: "حماية اللغة العربية".

تدرّج الاهتمام به من خطاب وإجراءات تليق بحماية نوع نادر من الطيور المهاجرة، أو الأشجار المدارية المهددة بالانقراض، إلى خطاب حياة أو موت، وإجراءات قسرية متشدّدة تمنع حتى إطلاق الأسماء الأجنبية على مطاعم البيتزا. 

حماية اللغة العربية تكون بإلباسها بنطالًا وقميصًا، ومراقبتها وهي تمشي في الشوارع سليمة معافاة، تشمّر عن ساعديها، تنفخ في كفيها، وتبدأ العمل

يجري تداول رقم 12.3 مليون كلمة للتفاخر باللغة العربية، ولإثبات أنها أوسع وأغنى لغة بالعالم، ويقارنوها بـ 600 ألف كلمة في الانكليزية، و150 ألف في الفرنسية و160 في الألمانية، وعادة ما يختمون تلك "المفخرة" بالمقارنة مع 3000 كلمة في اللغة البلغارية (خلطًا بين مفردات اللغة، والمفردات الكافية لتعيش الحياة اليومية في بلد). 

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: ابن منظور وموسوعة اللغة العربية

لا أدري كيف تم إحصاء هذا العدد، ولكنّي أظن مجتهدًا عاشقًا للعربية أجرى جمعًا تقديريًا للجذور الثلاثية والرباعية (ولن يتوقف على الخماسية) وضربها بعدد الاشتقاقات المحتملة (ماضِ ومضارع وأمر واسم فاعل واسم مفعول، واسم زمان ومكان وآلة، واضافة سين التنفيس وسين التحوّل وسين الطلب، وسين تشبّه الفاعل بالمفعول وغيرها). 

وحتى نصل لعدد 12 مليون كلمة، لا بد أنها ستكون من قبيل: "في زمن الاستناقة ذهب مستنوقون كثر إلى المستناق فاستناقوا"، أي في الزمن الذي كثُر فيه التشبّه بالنوق، ذهب متشبهون بالنوق إلى مكان التشبّه بالنوق فتشبّهوا بالنوق. 

وهذه ليست أربع كلمات جديدة، بل ثمانية، لأن في شرحها أربع أخرى أيضًا، وأيضًا وأيضًا. 

ومن دلائل الغنى أيضًا أن هذا الإحصاء المليوني لا يضم عبارات من قبيل: (الرجال كلهم هكذا، لن ينجح أبْدِيْتْ حياتك، ما لم تفرمتي كل الماضي. بلكّيه على كل الأبلكيشينات. ناقصنا نيردات، بليز انتبهي كم رامبو مكرّش عليك. ألا تذكرين كيف فعلت ريفرش لحياتي بعد أن عملت ريموف للإكس). 

لسان العرب الذي جاء في ستة آلاف صفحة (طبعة بولاق الأولى) ضمّ 80 ألف باب (وفي الصحاح 40 وفي القاموس المحيط 60)، واشتّق من كل باب ما يجوز اشتقاقه منه (اسم فاعل ومفعول وغيرها). 

وهو قاموس غني واسعٌ، يجب الاحتفاظ بنصفه ـ على الأقل ـ كحلي مُتْحَفيّة نزورها بين الفينة والفينة للتلذذ بطريقة نحتها، فـ "لا مندوحة" لأي لغةٍ في العالم من أن تجدد نفسها بقدر ما هي حيّة، وبقدر ما تفرض عليها الحياة. 

فحماية اللغة العربية تكون بإلباسها بنطالًا وقميصًا، ومراقبتها وهي تمشي في الشوارع سليمة معافاة، تشمّر عن ساعديها، تنفخ في كفيها، وتبدأ العمل. لا أن تلبس عمامة وجبة صوف، ولا أن تمشي عارية مكتفية بوشوم الدراجات النارية والثعابين على كامل الجسد، ولا أن تستعين بالعكاكيز لتداري عرجها. 

في الحقيقة يجب حماية اللغة العربية لكن ممن؟ من نفسها ربما، ومن عشّاقها ومقدسيها على الأرجح

منذ خمسينات القرن العشرين، بداية ما يعرف بعصر الدول الوطنية، والتخلص من "ربقة" الاستعمار، لم تقصّر أي دولة عربية بهذا الشأن، و"هبّت لنصرتها" بدرجة أو بأخرى، وبالغت بعضها لدرجة مبتذلة، خصوصًا تلك التي حوّلت الانتماء العربي لأيديولوجيا، وأداة حكم (سيما مصر عبد الناصر وسوريا وعراق البعث). والتي لم تعثر على أفضل من اللغة من بين كل العناصر التي تشكّل القوميات (أو ما اصطلح على اعتباره كذلك). فلذلك استلمت الراية من حرّاس آثار السلف، والذين ظلوا لقرون يحرسون اللغة العربية كما كانت في القرن السابع، معتقدين أنهم قداستها تأتي من قداسة القرآن الذي نزل بها. استلمت الدولة الوطنية الراية من السلف الصالح، وتعاملت مع اللغة بتقديس، ولوت عنقها، ووضعت قدميها في حذاء حديدي، كي تبقيها بالحجم والقدرة المناسبين لوظيفتها الأيديولوجية. فجرت محاولات يائسة ومهدورة لتعريب الطب والتكنولوجيا وعلم الجينات، وماركات الألبسة وحبوب الشوكولا وأصابعها. 

اقرأ/ي أيضًا: برج بابل "اللّغات" العربية

لم تتطور اللغة تطورًا طبيعيًا، ولم يفعل الأدب والصحافة ما عليهما من ابتداع لغة انتقالية. انتقالية دائمًا. واجتمع على تلك اللغة مجموعة من الأعداء، قيدوها بالسلاسل، سلبوها حيويتها وحريتها، لفرط ما يحبونها. 

في الحقيقة يجب حماية اللغة العربية لكن ممن؟ من نفسها ربما، ومن عشّاقها ومقدسيها على الأرجح. وإلا فما الذي يجعلني أكتب في القرن الحادي والعشرين كلمات: لا مندوحة، وربقة، واستنوق؟ أظنه نفسه من فرض بالقانون على وكيل لشركة أغذية عالمية في عاصمة عربية أن يضع على واجهة محله: فطيرة ساخنة، فيما كان يقصد كتابة: بيتزا هات.

 

اقرأ/ي أيضًا: