16-يونيو-2020

بيروت يوم 21 تشرين الأول/أكتوبر 2019 (باتريك باز/ا.ف.ب/Getty)

تحضر الديمقراطية شرطًا مؤسسًا لنجاح العلاقة الصحية والمثمرة بين الكاتب ومؤسسات الحكم، لذلك من الطبيعي أن يسود الخلاف والتناقض علاقة االكاتب بالسلطة في بلد من نوع لبنان. وبأي كاتب يختص حديث ضرورة الديمقراطية؟. بالتأكيد ليس ذلك الكاتب المهادن للسلطة. غنما من يحاز مناصرًا لموضوعية حق الضعفاء، ومن يطالب بالحرية والمساواة ويحرض ضد كل أصناف التمييز، الطبقي ثم الثقافي والعرقي وكل تمييز على خلفية الاعتقاد والرأي،  كما يرفض التفاوت في الثروات ولا يكون لديه إشكال في أداء الأثمان المترتبة على انحيازه لكل صاحب حق.

تتفق كل الأطراف المشكلة لتركيبة السلطة في لبنان على معطى أساسي مرتبط بتكثيف قمع الحريات وإلغاء الحق بالتعبير خارج عباءة أحزاب هذه السلطة

لطالما كانت القضية الأساسية بشأن حرية الكاتب تعود لاعتبارها قضية حرية وديمقراطية المجتمع ككل. حرية الكاتب تتضمن مجموعة من الحريات الديمقراطية مجتمعة في وحدة لا تتجزأ. ومنها حرية الرأي وحرية التعبير وحرية الموقف والعمل السياسي وحرية المعتقد الديني وحرية الاختلاف وحرية الاتفاق وحرية النقد الديني وحرية الصحافة والنشر والتوزيع والعمل النقابي والإبداع الفني والأدبي وغيرها من سلة الحريات المتكاملة.

اقرأ/ي أيضًا: كورونا إكسبريس

يمكن القول إن جميع الحريات الديمقراطية هي حريات ملازمة لحرية الكتابة، فحرية الكاتب ليست سوى الديمقراطية بأعمق معانيها. وفي المحصلة، فإن مشكلة الكاتب مع السلطة ليست "سلبطة" ولا تجني من منطلق الرفض للرفض. إنها مشكلة تراكمات فشل السلطة في لبنان وحصاد هذا الفشل اليومي في مجمل المصائب التي يدفع ثمنها من يعيش فيه.

لا يمكن للكاتب أن يمارس حريته في غياب حرية الأخرين، فلا يمكن الفصل بين حريته وحرية المجتمع ككل. هذا أن الأنظمة حين تضطهد الكاتب فإنما هي تخنق صوت الذين لا صوت لهم من المواطنين. هذا ما يبينه النهج المتبع  بوضوح في لبنان منذ بداية احتجاجات 17 تشرين وحتى اليوم. كما أن المعادلة معكوسة أيضًا، فاضطهاد المواطن في ماله وعمله وجسده كما هو حاصل في لبنان، إنما هو اضطهاد للكاتب وللحريات الديمقراطية التي للمجتمع معًا.

ما شهده لبنان من اعتقالات تعسفية واستدعاءات لمكتب مكافحة جرائم المعلوماتية أو مكتب أمن الدولة ومعهما المباحث الجنائية أو الشرطة القضائية بسبب منشورات ومقالات منذ بداية التحركات الشعبية والاحتجاجات الحالية فاق بكثير مستويات القمع "المعتادة". إذ تظهر التقارير الصادرة عن مؤسسة سمير قصير مثلًا، انتهاكات بالجملة موثقة بحق الصحافيين والإعلاميين والمصورين والمدونين والناشطين. 

كما تواصلت الانتهاكات بحق هؤلاء أثناء تغطيتهم التظاهرات المطلبية خلال شهر أيار/مايو 2020. فيما يشير التقرير عينه إلى عدة حوادث مصورة حتى "اعتدى عنصر أمني بالضرب على مراسلة  قناة "MTV"  رنين إدريس ومراسل قناة "LBCI" أحمد عبدالله، ومنعت عناصر من الجيش وأمن الدولة كلاً مراسلة قناة "الجديد" ليال سعد والمصوّر محمد السمرا ومراسلة قناة "MTV" ميريلا بو خليل والمصوّر فرناندو حويك من التصوير خلال تفريقها للمتظاهرين على طريق القصر الجمهوري في بعبدا فيما اعتدت عناصر تابعة لحركة "أمل" بالضرب على رئيس تحرير جريدة "17 تشرين" الصحافي بشير أبو زيد على خلفية منشور له على "فايسبوك".

يضاف إلى ذلك الهجمات المتكررة لمناصري أحزاب السلطة وتكسيرهم لخيام المحتجين وتهديداتهم المستمرة والتي لم يكن من قدرة أو إرادة لدى مؤسسات الدولة الأمنية للوقوف في وجهها أو لعلها كانت متواطئة معها. ليمكن القول أنه تتم ممارسة العنف الحاصل في لبنان بحق الكتاب والصحفيين والمحتجين كما بحق الناس عامة ممن خرجوا منتفضين في وجه المنظومة الحاكمة. بينما لا يكاد يذكر عنف الدولة ومؤسساتها الأمنية إذا ما تمت مقارنته بالعنف الحاصل من قبل الأحزاب السلطوية في مناطقها. فنحن أمام شكلين للعنف: العنف الرسمي المؤسساتي وعنف الأهالي "العفوي"، ويا للمفارقة، أن عنف الأهالي العفوي إنما يجد سنده دومًا لدى أحزاب السلطة الحاكمة في لبنان وبذلك تغيب المحاسبة، كما في قضية "طفوا بيت نبيه بري، وضوو بيوت الناس" والتي أدت إلى ترهيب كاتبها وضربه وتهديده.

هل ما تزال الديمقراطية هي السبيل الوحيد الممكن للحوار في لبنان أم أن هناك حربًا عنيفة غير مباشرة بدأت أحزاب السلطة في خوضها ضد كل من يعترض على نهجها الفاسد؟

تتجلى ظاهرة أخرى فيما انتشر عبر السوشيال ميديا من "بعد السحسوح" و"الراينجر على راسك" و"البوط أشرف منك" و"الإنفوي ناطرك تحت البيت" و"حقك رصاصة". وهي أقوال وأفعال نابعة من ذهنيات الاستبداد الحزبي الذي تمارسه الأحزاب في مناطقها بحق المنتفضين. فيما صارت هذه الأقوال باستخداماتها ساخرة ومثيرة للضحك لكنها بالرغم من ذلك تحمل في طياتها عنفًا مبطنًا منتشرًا في الهواء الذي يتنفسه المواطن اللبناني. إنه عنف مستتر يثير الخوف والرعب دون ممارسته الفعلية، لكن إمكانية تحققه لا يمكن التغاضي عن مضامينها. وخاصة في قضية "بعد السحسوح" التي تعرض لها العديد من المواطنين عبر تهديدات من قبل حزب الله لتصوير فيديو اعتذار من الأمين العام للحزب حسن نصرالله والتراجع تحت التهديد والضغط عن كل ما قيل بحقه.

اقرأ/ي أيضًا: التكنوقراط بين لبنان وإيطاليا: لعب في الوقت الضائع

في سياق متصل، تم تكليف النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، يوم الإثنين 15 حزيران/يونيو 2020، قسم المباحث الجنائية المركزية "مباشرة التحقيقات لمعرفة هوية الأشخاص الذين عمدوا إلى نشر تدوينات وتعليقات وصور تطال مقام رئاسة الجمهورية، تتطلب من النيابة العامة التمييزية ملاحقة أصحاب هذه الحسابات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بجرم القدح والذم والتحقير، وإتاحة الاطلاع عليها من خلال public posts". في مرحلة يتخبط فيها لبنان بأسوأ أزمة بنيوية في تاريخه الحديث، جراء أداء من تبوأ المسؤولية فيه، وغياب أدنى معايير الديمقراطية عن أحزاب السلطة وزعماء الطوائف، يتطلع اللبنانيون إلى القضاء ليشكل درع الدفاع عن الحريات والحقوق المكفولة في الدستور والمواثيق الدولية! وهناك ريبة تفوح من "التعميم" الذي يتضمنه طلب التكليف، وتوقيته وعدم وضوحه، ويشكل إمعانًا في المسار الانحداري للحريات في لبنان، وإيعازًا مستنكرًا لتعزيز الرقابة الأمنية على مواقع التواصل الاجتماعي.

 كما لا يعكس مثل هذا "التعميم" إلا استمرارًا لذهنية قمعية، تستسهل ترهيب المدونين والنشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، والإعلام الإلكتروني المستقل. ويبرز هذا التعميم نية أهل السلطة الانقضاض على الحريات العامة لأخذها إلى القعر الذي وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. أما الإساءة الفعلية إلى مقام رئاسة الجمهورية، فهي من خلال الإيحاء بأنها على رأس سلطة قمعية تتماهى مع ممارسات دول الجوار، وهذا أمر أخطر بكثير من أي منشور أو صورة أو تعليق، قد يكتب على مدونة أو صفحة إلكترونية. فهل ما تزال الديمقراطية هي السبيل الوحيد الممكن للحوار في لبنان أم أن هناك حربًا عنيفة غير مباشرة بدأت أحزاب السلطة في خوضها ضد كل من يعترض على نهجها الفاسد؟ لذا لم يعد من الممكن أن نسمح بأن تتلاشى الديمقراطية في لبنان، ولو بشكلها الهجين، عبر ضرب كل حركات الااتفاض والاحتجاج والمطالب الشعبية المحقة. هذا الضرب الذي يتفق في ممارسته كل أطراف النظام.

يعد ضطرار المثقف والكاتب إلى التستر على الواقع أو الوقوف على الحياد بشأنه أو الصمت حياله هو كذلك نوع من الاضطهاد تعود أسبابه إلى الخوف المتجذر في الممارسة السياسية الكيدية وانعكاساتها في لبنان. إنه حياد ناتج عن سياسة العصا والجزرة. لكن كل حياد ما هو إلا خداع يصب في نهاية الأمر في مصلحة قوى القمع والقهر التي بات اللبنانيون يعرفون أشكالها ويتشعرونها يوميًا. كل دعوى إلى الحياد يطلقها "المثثقف" هي تخل عن الحرية وتأييد لخنقها. فلا حياد في العمل النضالي الفكري والثقافي والسياسي المرادف للعمل الشعبي في مواجهة الظلم. وعلى الرغم من المعرفة المسبقة بعواقب المواقف التي يتخذها المثقفون والكتاب والمنتفضون في لبنان، إلا أنه لم يعد بالإمكان الوقوف على الحياد؟ ومن هنا تحضر مقولة صادق جلال العظم "دفاعًا عن حق الكاتب في الحياة".

 

اقرأ/ي أيضًا:

انتفاضة السويداء.. حفر في الواقع لا قفز بالهواء

لا أستطيع التنفّس: اللغة الاستعارية كأساس للاحتجاج