11-مارس-2025
جنود الاحتلال الإسرائيلي استخدموا الفلسطينيين كدروع بشرية في غزة (رويترز)

جنود الاحتلال الإسرائيلي استخدموا الفلسطينيين كدروع بشرية في غزة (رويترز)

فتحت الشرطة العسكرية الإسرائيلية تحقيقًا رسميًا حول مزاعم تتعلق باستخدام الجيش الإسرائيلي للمدنيين الفلسطينيين كدروع بشرية خلال العمليات العسكرية في قطاع غزة.

هذه الخطوة جاءت بعد تقرير للجنة الدولية للصليب الأحمر كشف عن شهادات موثوقة لعدد من الفلسطينيين الذين أُجبروا على تنفيذ مهام عسكرية تحت تهديد السلاح.

وقد أثار التقرير، الذي نُشر في كانون الثاني/يناير الماضي، جدلًا واسعًا داخل الأوساط الحقوقية والسياسية، مما دفع جهات دولية، بما في ذلك الإدارة الأميركية السابقة بقيادة جو بايدن والحكومة البريطانية، للضغط على إسرائيل من أجل التحقيق في هذه الانتهاكات.

أحد الجنود الذين تحدثوا لصحيفة "هآرتس" أوضح أن استخدام المدنيين في العمليات العسكرية لم يكن تصرفًا فرديًا من قبل بعض القادة الميدانيين، بل كان يتم بموافقة ضمنية من قيادات الجيش

التحقيق في ممارسات الجيش الإسرائيلي تحت الضغط الدولي

بحسب صحيفة "هآرتس"، فإن التحقيقات العسكرية تشمل ست حالات موثقة استخدم فيها الجيش الإسرائيلي مدنيين فلسطينيين كأدوات لتنفيذ عمليات عسكرية خطيرة، ما يعرض حياتهم للخطر في انتهاك صارخ للقوانين الدولية. جاء قرار التحقيق بعد تقرير الصليب الأحمر، الذي أكّد أن ما لا يقل عن تسعة شهادات فلسطينية حول هذه الانتهاكات كانت موثوقة، وأشار إلى أن بعض الحالات مدعومة بأدلة مصورة ومقاطع فيديو.

وكانت صحيفة هآرتس قد نشرت تحقيقًا في أب/أغسطس 2024، كشفت فيه عن هذه الممارسات، مؤكدة أن الجيش الإسرائيلي استخدم المدنيين الفلسطينيين في مهام خطيرة شملت تفتيش المباني، وإشعال النيران، وزرع المتفجرات في مواقع يُعتقد أنها تابعة لحركة حماس. ومنذ ذلك الحين، استمرت الشهادات في الظهور، مما أدى إلى تصاعد الضغوط على الحكومة الإسرائيلية للتحقيق في هذه الادعاءات.

تفاصيل المهام التي أُجبر المدنيون على تنفيذها

وفقًا للشهادات التي تم توثيقها، فإن المدنيين الفلسطينيين الذين تم إجبارهم على تنفيذ مهام عسكرية خطيرة لصالح الجيش الإسرائيلي، غالبًا تحت تهديد السلاح، ما عرّض حياتهم للخطر المباشر.  وقد شملت هذه المهام تفتيش المباني المشبوهة والتأكد من خلوها من المقاتلين قبل أن يدخلها الجنود، إضافة إلى إشعال النيران في المنازل والمستودعات التي يُشتبه بأنها تابعة لمسلحين، مع إجبارهم على البقاء داخلها لضمان انتشار الحريق. كما تم استغلالهم في نقل الذخيرة وزرع المتفجرات في مواقع يُعتقد أنها تابعة للفصائل الفلسطينية، فضلًا عن إرسالهم إلى الأنفاق لاستكشاف وجود مسلحين أو ألغام، مما جعلهم عرضة للموت المحتم. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تم إجبار بعضهم على العمل كمخبرين داخل المستشفيات والمنشآت الطبية، حيث أُلبسوا زي الأطباء والتمريض لجمع معلومات عن الجرحى المقاتلين، ما شكّل انتهاكًا خطيرًا للقوانين الدولية والإنسانية.

"شاوِيش"

أطلق الجنود الإسرائيليون على المدنيين الذين كانوا يُجبرون على العمل معهم لقب "شاوِيش"، وهو مصطلح عربي من أصل تركي يعني "الرقيب". وأفاد التقرير بأن هذه الممارسة كانت شائعة في وحدات المشاة، وخاصة في لواء ناحال، ولواء جفعاتي، ولواء الكوماندوز. وأكد العديد من الجنود السابقين الذين تحدثوا إلى "هآرتس" أن القيادة العسكرية كانت على علم بهذهالممارسات، لكنها لم تحرك ساكنًا لوقفها.

أحد الجنود الذين تحدثوا لصحيفة "هآرتس" أوضح أن استخدام المدنيين في العمليات العسكرية لم يكن تصرفًا فرديًا من قبل بعض القادة الميدانيين، بل كان يتم بموافقة ضمنية من قيادات الجيش. وقال جندي خدم في غزة: "كنا نسمع دائمًا أن حياتنا أكثر أهمية من حياة الفلسطينيين. إذا كان هناك خطر، فلماذا لا نجعلهم يذهبون أولًا؟"

إسكات المعترضين داخل الجيش الإسرائيلي

رغم أن بعض الجنود عبّروا عن رفضهم لهذه الممارسات، إلا أن قادتهم العسكريين كانوا يمنعونهم من التحدث علنًا عن الأمر. وأشار أحد الجنود إلى أن كل من كان يحاول الاعتراض على هذه الممارسات كان يُعتبر معرقلًا للعمليات القتالية. وأضاف: "إذا اعترض أحد الجنود على استخدام المدنيين، كان القادة يسألونه: هل تعتقد أن حياة الفلسطينيين أهم من حياة زملائك الجنود؟ هذا السؤال وحده كان كافيًا لإسكات أي معترض."

عنف جسدي ونفسي 

لم يكن إجبار الفلسطينيين على تنفيذ المهام العسكرية هو الانتهاك الوحيد، فقد كشف التقرير أيضًا أن هؤلاء المدنيين تعرضوا للتعذيب والإذلال خلال احتجازهم. حيث كانوا مقيدين ومعصوبي الأعين، وكان بعض الجنود يمارسون العنف ضدهم دون أي سبب. وقال جندي سابق في الجيش الإسرائيلي: "كان القادة يمرون بجانبهم ويضربونهم على رؤوسهم بخوذاتهم، فقط لإظهار السلطة عليهم."

في شهادة أخرى، روى أحد الجنود تفاصيل استخدام الفلسطينيين كدروع بشرية، قائلاً: "كان أحدهم شابًا في العشرينيات، والآخر مراهقًا يبلغ من العمر 16 عامًا. أُبلغنا بأنه علينا الاستفادة منهما كدروع بشرية، وحذرنا أحد الضباط قائلًا: لا تضربوهما بشدة، فنحن بحاجة إليهما لفتح الطريق أمام الجنود".

من جانبه، أكد جندي آخر أن هؤلاء المدنيين لم يكونوا مشتبهين بأي نشاط عدائي، ولم يخضعوا لأي تحقيق، بل كانوا يُحتجزون لفترات تتراوح بين أيام وأسابيع، ويتم نقلهم بين الوحدات المختلفة. وخلال فترة احتجازهم، كانوا ينامون في أماكن غير مخصصة لذلك، ويحصلون على الطعام فقط عندما يرمي لهم أحد الجنود شيئًا يأكلونه. كما كانوا يتعرضون لعنف مستمر، يُجبرون فيه على تحمل الضرب والإذلال بشكل متكرر.

وأشار الجندي إلى أن بعض الجنود تعاملوا معهم بعنف مفرط، موضحًا: "أي جندي غاضب أو متوتر كان يمكنه ضربهم دون أي تداعيات، فقد كان يُنظر إليهم على أنهم لا قيمة لهم. وفي الواقع، يكاد لا تخلو أي وحدة عسكرية من احتجاز شاويش خاص بها".

وأشار التقرير إلى أن بعض المدنيين رفضوا تنفيذ الأوامر، مما أدى إلى تعرضهم للضرب أو حتى إطلاق النار عليهم. ووثّق الصليب الأحمر حادثة تم فيها إطلاق النار على أحد المدنيين في ظهره، بعدما رفض دخول مبنى يشتبه بأنه ملغّم.

ردود الفعل الدولية والضغوط المتزايدة

أثار التقرير غضبًا دوليًا واسعًا، حيث طالبت منظمات حقوق الإنسان بإجراء تحقيق مستقل لمحاسبة المسؤولين عن هذه الممارسات. ورغم أن الصليب الأحمر رفض التعليق على التقرير، إلا أنه قدّم نتائجه إلى وزارة الدفاع الإسرائيلية، التي اضطرت إلى فتح تحقيق داخلي للحد من تداعيات هذه الفضيحة.

من جهتها، أصدرت وزارة الأمن الإسرائيلية بيانًا نفت فيه استخدام المدنيين كدروع بشرية، لكنها أكدت أنها تحقق في مزاعم انتهاكات القانون الدولي. وأضاف البيان أن أي جندي يثبت تورطه في مثل هذه الممارسات سيواجه محاكمة عسكرية، إلا أن الكثيرين يشككون في مدى جدية هذه التحقيقات.

ماذا بعد؟

يرى البعض أن التحقيقات قد تكون محاولة لامتصاص الغضب الدولي، يؤكد آخرون أن الكشف عن هذه الممارسات قد يؤدي إلى مزيد من التدقيق الدولي في السلوك العسكري الإسرائيلي في غزة.

وفي ظل غياب أي إجراءات قانونية حتى الآن، يبقى السؤال مطروحًا: هل ستتم محاسبة المسؤولين، أم أن هذه التحقيقات ستظل شكلية، كغيرها من التحقيقات السابقة التي لم تؤدِّ إلى أي تغيير جوهري في سلوك الجيش الإسرائيلي؟