منذ زمن ليس ببعيد، قبل حوالي 22 عامًا، وبعد إسقاط حكم صدام حسين في العراق ودخول قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تأسس مشروع سياسي أميركي بقيادة بريمر آنذاك، اعتمد على تقسيم الشعب العراقي إلى أديان وطوائف وقوميات. وتم القضاء على المشروع الوطني العراقي، وبُني العراق الجديد على مبدأ المحاصصة العرقية-الطائفية، مما أوصل العراق إلى حالة من الضعف الشديد وعدم امتلاكه لقراره. وكل ذلك حصل رغم أن العراق بلد غني بشريًا، وأنجب الكثير من المثقفين والكتّاب خلال القرن العشرين.
واليوم، تبدو سوريا وكأنها تسير على خطى العراق، إذ لم يمض شهران على تحرير سوريا من الأسد وهروب الأخير، ولم يكد السوريون يستيقظون من الفرحة حتى قفز "ملوك الطوائف" لتصدر المشهد في الشارع السوري. في الوقت نفسه، التزمت القيادة الجديدة لسوريا، المتمثلة بأحمد الشرع، بالصمت وعدم مخاطبة الشعب السوري، وكأن الزمن في سوريا بدأ يسير بالعكس.
تبدو سوريا وكأنها تسير على خطى العراق، إذ لم يمض شهران على تحرير سوريا من الأسد وهروب الأخير، ولم يكد السوريون يستيقظون من الفرحة حتى قفز "ملوك الطوائف" لتصدر المشهد في الشارع السوري
وبدلًا من الانتقال من دولة الديكتاتور المخلوع إلى دولة يُؤخذ فيها رأي الشعب بعين الاعتبار، وبدلًا من البدء ببناء دولة تمثل جميع الطوائف تمثيلًا حضاريًا وعادلًا، بتنا ننتظر حركة شفاه رجال الدين من مختلف الطوائف لتحريك الشارع وسن القوانين، مع انحسار كبير لدور العقلاء والمثقفين والسياسيين.
وبعد سطوع نجم الشيخ حكمت الهجري، ممثلًا للطائفة الدرزية، بتصريحات لاقت انتقادات عديدة من الطوائف والأديان الأخرى حول مستقبل الدروز في سوريا الجديدة، وتسليم أو عدم تسليم السلاح في السويداء، واعتباره أن المدينة قادرة على حماية نفسها، وأن الدروز يريدون تطمينات واضحة وصريحة بأن الحكم لن يكون إسلاميًا.
ورغم حديثه بصفته الدينية والطائفية، تم الإعلان عن تأسيس "التيار السوري العلماني" من مضافة الهجري. وبدا الأمر للوهلة الأولى كاريكاتوريًا؛ إذ ما معنى أن يُعلن تأسيس تيار علماني من مضافة رجل دين لطائفة دينية لا تملك من أمرها شيئًا دون موافقة ومباركة رجال الدين فيها؟ وهل معنى تأسيس هكذا تيار من مضافة الهجري أن الأخير سيتعامل مع التيار كسياسي وليس كشيخ عقل الطائفة؟ والأكثر غرابة كان غياب الأصوات الدرزية المثقفة، غيابًا شبه تام عن تصريحاته ومطالباته، وعدم بروز نقاش حول التناقض بين تأسيس تيار علماني وانطلاقه من مضافة رجل دين. هذه الحالة تشبه الحالة اللبنانية، حيث الأحزاب السياسية تأخذ الطابع الطائفي مع مباركة رجال دين الطائفة وموافقتهم.
تم الإعلان عن تأسيس "التيار السوري العلماني" من مضافة الهجري. وبدا الأمر للوهلة الأولى كاريكاتوريًا؛ إذ ما معنى أن يُعلن تأسيس تيار علماني من مضافة رجل دين لطائفة دينية لا تملك من أمرها شيئًا دون موافقة ومباركة رجال الدين فيها؟
وفي المقابل، بتنا نستعرض الفيديو تلو الفيديو لمشايخ يطلقون على أنفسهم صفة "مشايخ العلويين"، رغم أن الجميع يعلم أنه لا وجود لهكذا مشايخ لدى الطائفة العلوية، وأن مشايخ الطائفة لهم صفة دينية فقط، ولا وجود لمتحدثين بإسمها تاريخيًا. لكن خطاباتهم وبياناتهم تركت أثرًا كبيرًا في الشارع السوري ضد الطائفة برمتها، وهي ذات الطائفة التي استغلها بشار الأسد وزرع كراهية ونقمة تجاهها لدى شريحة واسعة من السوريين على مدى سنوات الثورة.
رغم خروج بعض الأصوات العلوية المثقفة في محاولة للتأكيد على أن الشارع العلوي لا يمثله أولئك الذين يدّعون التحدث باسمه، إلا أن هذه الأصوات بقيت محدودة وضعيفة.
أما الصوت المسيحي فخرج عاليًا لافتًا، ومرة جديدة على لسان رجال الدين. إذ خرج رئيس أساقفة دمشق للسريان الكاثوليك، المطران يوحنا جهاد بطاح، بتصريحات مثيرة للجدل استفزت السوريين، دافع فيها عن الأسد الهارب ووصفه بأنه "ضحية". ورد عليه سريعًا الأب سبيريدون طنوس، الذي طالب بمحاكمته. ولا يخفى على أحد دلالات زيارة وزيري الخارجية الفرنسي والألماني للزعماء الروحيين للطوائف المسيحية في دمشق، في إشارة واضحة للدعم الغربي للمسيحيين في سوريا، القلقين من وصول حركة ذات توجه إسلامي إلى السلطة، رغم التطمينات التي أصدرتها الحكومة المؤقتة بشأن الأقليات.
بتنا نستعرض الفيديو تلو الفيديو لمشايخ يطلقون على أنفسهم صفة "مشايخ العلويين"، رغم أن الجميع يعلم أنه لا وجود لهكذا مشايخ لدى الطائفة وقد تركت خطاباتهم وبياناتهم أثرًا كبيرًا في الشارع السوري ضد الطائفة برمتها
وعلى الجانب الآخر، كانت حالة النشوة واضحة لدى شريحة من السنة السوريين مع وصول أحمد الشرع إلى سدة الحكم. افترضت هذه الشريحة أن وجود سني على كرسي الحكم في سوريا سيعني استردادهم لحقهم التاريخي في حكم البلاد، مع تفاؤل مبالغ فيه بالقيادة الجديدة التي لم تتوجه لهم بأي خطاب حتى اليوم.
تبعات هذا التفاؤل جاءت على شكل تبريرات متتالية للحكومة الجديدة، بدءًا من الدعوة إلى الصبر ومنحها فرصة زمنية أطول، مرورًا بالتأكيد على أن السلطة الحالية هي من حررت سوريا، وليس السوريون كلهم. وبالتالي، برروا أن من حق هذه السلطة ذات اللون الطائفي والسياسي الواحد فرض رؤيتها على البلاد، حتى لو شغل منصب وزير العدل رجل كان قد نفذ حكم الإعدام علنًا بامرأتين بتهمة الزنا، واسمه موجود على لوائح الإرهاب العالمية.
الملفت للنظر غياب شيوخ السنة عن الساحة الإعلامية، بعد أن كانت أصواتهم بارزة سواء كانوا مع النظام أو ضده. ويفسر البعض ذلك بأن السلطة الحالية لا ترغب بالوقوع في فخ صعود شخصيات دينية سنية ربما تنازعها يومًا شرعيتها القائمة على أيديولوجية إسلامية سنية سلفية.
لا يخفى على أحد دلالات زيارة وزيري الخارجية الفرنسي والألماني للزعماء الروحيين للطوائف المسيحية في دمشق، في إشارة واضحة للدعم الغربي للمسيحيين في سوريا، القلقين من وصول حركة ذات توجه إسلامي رغم التطمينات التي أصدرتها الحكومة المؤقتة
لقد استغل نظام الأسد ووالده من قبله الحالة الطائفية والقومية لمصلحته كحاكم ديكتاتور، فوزع المكاسب والسلطات بين مركبات المجتمع السوري بطريقة عززت شعور كل جماعة بميزاتها الخاصة، مع إثارة الحسد تجاه الجماعات الأخرى. وفي الوقت نفسه، قمع ومنع أي إشارة إلى المشكلة الطائفية، ليبقى الجميع بحاجة إلى النظام لضمان التوازن بينهم.
اليوم، يبدو المشهد في سوريا غارقًا في السوريالية. فمن جهة، هرب الديكتاتور، وهو حدث "عظيم"، ومن جهة أخرى، قفز رجال الدين لصدارة المشهد، وكأن السوريين، بعد سنوات من العذاب، مجبرون على اتباع نهج طائفي جديد. وكما يقول المثل السوري الشعبي: "ما متنا، شفنا اللي ماتوا".