13-يوليو-2018

مقهى في الجزائر

في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، لا مكان لـ"أنْ تبدوَ مثقّفًا" بل "أن تكون مثقّفًا"، وإلّا لا مكان لك في الـمشهد الثقافي الفعلي، لا "التهريج الثقافي" أن يكون لك مكانٌ في المشهد الثقافي الجزائري في الحواضر الثلاث الجزائرية التي كانت تحتكر المشهد الثقافي الجزائري دون غيرها: الجزائر، وهران، قسنطينة، عليك أن تكون متواجدًا في إحداها.

في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، في الجزائر، كانت القاعدة ألا مكان لأن تبدوَ مثقّفًا بل أن تكون مثقّفًا

يظن البعض وربّـما نسبة عالية مـمّن ينتمي الى الأنشطة الثقافية ويعمل بها، أن الـمثقف هو الشاعر وكاتب القصة والرواية، وأن الأنشطة الثقافية هي تلك الأمسيات والأصبوحات والمهرجانات، والندوات الأدبية التي يتم فيها قراءة الشعر، أو القصة، أو الأجناس الأدبية الأخرى، في تصورهم هذا هو المثقف، وما عداه لا ينتمي الى الصفة الثقافية وجوهر الثقافة. بيد أن هذا التصور، أو هذا الزّعْم مجافٍ للحقيقة، ويـمكن أن نستدلّ على ذلك من جملة التعريفات التي تؤكد بأن الثقافة هي مجموعة القيم المؤثرة على نـحْوٍ جيد في السلوك المجتمعي، وقد تأخذ الثقافة مسارًا معاكسًا عندما تكون القيم التي يستند إليها التفكير، والسلوك المجتمعي رديئة، أو تخلو من الجوهر الانساني.

اقرأ/ي أيضًا: "طفلُ البيضة" لأمين الزاوي.. العزلة والفقدان وفوبيا الآخر

وتبعًا لهذا التعريف للثقافة، فإن كل إنسان يتعامل مع محيطه وفق رؤية جيدة، قائمة على منظومة قيم إنسانية راقية فإنه يعدُّ من المثقفين، وليس الأدباء حصرًا هم المثقفون وحدهم، فربما نـجد إنسانًا لا علاقة له بالشعر، والأجناس الأدبية الأخرى؛ لكنه يحمل قيما راقية، وفي ضوئها يضبط أفكاره وسلوكه ويكون نموذجًا راقيًا للمجتمع كله، مثل هذا الإنسان هو نموذج راقٍ للمثقف المؤثر والقادر على التغيير.

منبر ثقافي آخر كان الواحة الفكرية للقادم إلى العاصمة هو مقهى "اللوتس" بشارع ديدوش مراد، أين يتلاقى الكُتّاب والمبدعون من كلّ الأطياف الفكرية والإبداعية والأيديولوجية، جزائريين وتونسيين ومغربيين، مشارقة من سوريا والعراق وفلسطين ومصر. كان مقهى أدبيًا تساوى مع المقاهي الأدبية التي عُرفتْ بها حواضر الشرق العربي، مثل حواضر الغرب الأوروبي.

منذ الصباح الباكر إلى آخر ساعة من الليل، في جلسات أخوية حميمية كانت تُطرح قضايا الثقافة العربية بكلّ زخمها وراهنها، كما تطرح قضايا الراهن العربي، ومكابدات إنسانه، كان اختلاف الفكر والرؤى سيّد الموقف؛ إنما دون جدلٍ حادٍّ، ولا إلغاء للآخر مهما كان الاختلاف الإيديولوجي، أغلب الطبقة المثقفة الجزائرية كانت تلك منابرها التي تكوّنت فيها، ومهما كانت الأوصاف التي أُطلقت عليها؛ فإنها أسّست للثقافة الجزائرية المعاصرة.

مقهى "اللوتس" في شارع ديدوش مراد في الجزائر، كان بمثابة مختبر تأسست فيه الثقافة الجزائرية المعاصرة

اقرأ/ي أيضًا: واسيني الأعرج.. ملهاة الجوع والغربة

العديد من أسماء تلك المرحلة هي التي بقيت في الصدارة كمرجع للثقافة الجزائرية حتى بعد رحيل البعض منها عن عالمنا: أبو العيد دودو، أبو القاسم سعدالله، عبد الله شريط، محمد مصايف، الطاهر وطّار، عبد الحميد بن هدوقة، عبد المجيد مزيان، يحي بوعزيز، مولود قاسم، عبد الرحمن شيبان، وغيرهم كثيرٌ؛ ومن الذين لا يزالون على قيْد الحياة كثيرون، منهم: واسيني الأعرج، أمين الزاوي، جروة علّاوة وهبي، عبد الحميد شكيل، بقطاش مرزاق، محمد مفلاح، بلحيا الطاهر، خيدوسي رابح، حيدار محمد، هؤلاء وغيرهم جيل السبعينات، لا يزال في الساحة الثقافية واقفًا ينتج، وما تخلّى عن رسالته الثقافية المشبعة بالروح الوطنية الجزائرية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مي زيادة كما رواها واسيني الأعرج

بياض السّـرير