29-يناير-2018

الروائية نعمة خالد

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


نعمة خالد روائية فلسطينية سورية، صدرت لها روايتان هما: "البدد" و"ليلة الحنة"، وثلاث مجموعات قصصية هي: "المواجهة" و"وحشة الجسد" و"نساء". لديها دراسة نقدية في أعمال كوليت خوري بعنوان "بوح الياسيمن الدمشقي". تُرجمت روايتها "ليلة الحنة" إلى اللغة الألمانية. تعمل حاليًا على رواية تقارب بين حصار برلين بعد الحرب العالمية الثانية، وحصار مخيم اليرموك الراهن. تقيم في ألمانيا منذ عام 2015.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كسر هذا السؤال زمني لعقود عديدة، فأنا لم أتساءل يومًا: ما الذي دفعني إلى عالم الكتب؟ في الحقيقة هذا السؤال جعلني أنبش زمني باحثة عن إجابة. طويلًا استوقفني. هل كانت قصص "المكتبة الخضراء" بما فيها من عوالم سحرية لسندريلا وعقلة الإصبع والأخوات الثلاث وأميرة الثلج، حيث أستأجر كل يوم واحدة من تلك القصص من مكتبة الموصلي؟ أم ما تنبأت به مدرسة اللغة العربية حين موضوع عن الجد نكتبه وأنا في الصف الخامس ابتدائي. هذا الموضوع الذي نال الثناء منها ودوّن على السبورة، لتكتبه طالبات الصف ويحفظنه غيبًا، وتسر لي ستكونين كاتبة؟ لا ليس هذا بالتأكيد ما دفعني إلى عالم الكتب، وليست البداية هنا. سأتمهل وأكسر الزمن أكثر.

في مدينة القنيطرة، في الجولان، كانت منازلنا هانئة وادعة في حي الشهداء. مرج أخضر يمتد بين البيوت ومقبرة الشهداء ملاعب الطفولة. غالبية سكان الحي تربطهم أواصر القرابة والصداقة. كل بيت تظلل ساحته عريشة العنب أو شجرة مشمش أو تفاح. ولعل صاحبة الحظوة عند الأطفال هي صبحة، زوجة عمي رشيد، وهذه الحظوة ليست مجانية، فهي الفاعل الأكبر في مساحة خيال الأطفال. بفارغ الصبر ننتظر المساء لننسرب إلى دارها واحدًا تلو الآخر، وفي جيب كل منا ما استطعنا أن تخفيه عن أعين أهلنا من رؤوس بصل أو بطاطا أو بلوط. ليكون عالم الحكاية مجدولًا برائحة الشواء في مدفأة الحطب التي تضيء العتمة بجمراتها مع الضوء الكليل لمصباح الكاز الذي غالبًا ما تكون زجاجته قد تم نسيانها بما علق عليها من سواد الدخان.

تتمدد صبحة على فراشها ونحلق حولها بانتظار صوتها الذي كانت تلونه حسب المشهد والحالة، وتسير بنا في غابات لم نعرف عنها شيئًا سوى ما تصف، نتوارى خلف الأشجار من الغولة، نجمع بعض طعام الشاطر حسن. نمسك أيدي بعضنا ونداور الخوف بالتعاضد والتصاق كل منا بالآخر حين يقع الشاطر حسن في فخ القاتل السارق لفرحة الناس، ولكثرة ما طلبنا، بهدف حفظ بعض ما تقول، أعادت حكاية "ودعة وصيني" مرات.

"ودعة وصيني" اسمان لأسدين صغيرين رباهما الشاطر حسن على طريقته، وجعل ملاعبهما طبقًا من ورد وآخر من رماد، وعلّم أخته أن طبق الورد دلالة على راحته حين غياب، وطبق الرماد هو مؤشر لضيق ألم به، وعندها عليها أن تطلق "ودعة وصيني" اللذين سينجدانه. وحفظنا أن الشاطر حسن حين يهتف: "ودعة وصيني بالعجل تعالي لي/ أخوكم الشاطر حسن سنّوا له السكاكينِ/ على دروب السلاطين". يتعفران بالرماد فتطلقهما أخت الشاطر حسن ويقطعان الفيافي.

هل كانت صبحة عرافة أو صاحبة كرامات؟ ها هم السلاطين يفرخون بوجوه كثيرة، وجه بعمامة، وآخر بملابس الفرنجة ثمنها يكفي عائلة لشهرين أو أكثر، وثالث بحذاء عسكري، وكله يسن سيفه لرقاب المقهورين.

ربما هذا ما دفعني إلى عالم الكتب، بت أبحث عن مفهوم العدالة، مفهوم السياسة، وأبحث عما يمكن أن يحدث في هذا العالم فرقًا كما ودعة وصيني اللذان نصرا الشاطر حسن على السلطان القاتل.

كان لزوجي دورًا في ذلك. الزوج الذي كان رفيق نضال في التجربة الفلسطينية. محمود نمر محمود هذا هو اسمه، وهو من ساعد في وضع خطة الإجابة على أسئلتي الكثيرة، وعودني على موازنة للكتب كل شهر، وأي المجالات ستفي بالغرض والوصول إلى ما يشفي غليل الأسئلة التي تفرخ مع كل مستجد وكل صباح. ثم قادتني الأسئلة إلى الكتابة، وبت القارئة الكاتبة في آن، وما زلت الرهينة للكتاب.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

المروحة واسعة، ولا أستطيع أن أسمي كتابًا أثّر في حياتي، لكن هذا لا يمنع أن أقول إن كتب علم النفس قد أثرت، وبعض كتب التراث صنعت ما صنعت؛ جلال الدين الرومي والجاحظ، وكذلك رواية "الحرب والسلم" لتولستوي، وأدب أمريكا اللاتينية أثر فيّ، وكتب علم الاجتماع كذلك. كما قلت تشكيلتي الثقافية ارتوت من منابع كثيرة.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

لدي كتاب كثيرون أحب بعض ما كتبوا. أحب "سداسية الأيام الستة" و"المتشائل" لإميل حبيبي، وأحب بعض ما كتب ماركيز، ولعبد الرحمن منيف مساحة وافرة لدي، وكذلك الكاتب المصري خيري شلبي.

في الحقيقة، أحب كل من فرد مساحة واسعة لما يسميه النخبويون القاع الاجتماعي، فهناك تصنع الحياة.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرأينه عادة؟

هذا ديدني حين أقرأ كتابًا نظريًا، أو حين أقرأ أدبًا وفي نيتي الكتابة عنه، ومرات أقرأ لأستمتع فقط دون كتابة ملخص.

  • هل تغيّرت علاقاتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

في الحقيقة لا يستهويني الكتاب الإلكتروني لأنه لا يستطيع أن يمنحني شعور ملامستي للورق، هذا الشعور الذي فيه من الدفء ما يجعل القلب عامرًا بالصفاء، لكني وبحكم الظرف الذي أعيش في منفاي الجديد بت مضطرة للتعامل مع الكتاب الإلكتروني، لأن الكتب الورقية باتت عزيزة على التوفر. وبحكم بداوتي، وعدم معرفتي بالتكنولوجيا، رحت أستعين بالعارفين ليحملوا لي ما أرغب من الكتب المتاحة.

  • حدّثينا عن مكتبتك.

سؤالكم هذا فتق الجرح الذي أداريه من سنوات. مكتبتي قلتم؟ أجل، كانت لي مكتبة لا أعرف مصيرها، الكتب عامرة على جدران الغرفة خلف خزن اخترت أن تكون فضية للخروج من الرتابة التي اعتدت أن أراها في مكتبات الصحب.

منذ عام 1967 أنا وزوجي نبني مكتبتنا على هون. استشهد زوجي وأكملت ما كنا بدأناه. رحت كل شهر أقتطع من راتبي موازنة الكتب التي أرغب بها، وحين لاحت لي إمكانية السفر، للمشاركة في ملتقيات ثقافية، أعود أدراجي بكنز ثمين من الكتب. ودائمًا ما كنت أترصد مكتبات الرصيف على سور جامعة دمشق، أو تحت جسر الرئيس، لأغني مكتبتي بنفيس الكتب.

رصفت مكتبتي في الرفوف حسب الموضوعات، هنا الرواية وهناك الشعر. هنا الدراسات النقدية، وفي مكان آخر المسرح، في الجهة المقابلة كتب التراث، واصطفت كتب علم النفس على رف خاص بها، كذلك ما يتعلق بعلم الاجتماع والكتب الفكرية وما له علاقة بما كتبه المستشرقون.

لست أدري كم من آلاف الكتب عندي، لكن ما أعرفه أن مكتبتي تسعف أكثر من اختصاص لدراسة الدكتوراه لما فيها من مراجع. وصلني مؤخرًا، أي منذ أكثر من سنتين، أن قذيفة عمياء قد استهدفت المكتبة، ولا أدري في مخيم اليرموك هل تحولت الكتب إلى بعض دفء لمن يعاني من البرد والجوع هناك، إن أمدت البعض ببعض دفء سيكون حزني أقل عليها، أما إن كانت مساحة لانتقام من صنع من نفسه نائبًا لله على الأرض، يحكم بمزاجه هو لا بما أمر الله، سأكون نهبًا لحزن شديد.

في كل الحالات، معرفة حقيقة ما وصلت إليه مكتبتي أنها محاصرة كما اليرموك وأهله.

  • ما الكتاب الذي تقرأينه في الوقت الحالي؟

بين يدي رواية أمسكت بعنقي من سطورها الأولى، هي "الغرانيق" للكاتب السوري مازن عرفة، وأنا أشارف على الانتهاء منها. مزقتني هذه الرواية كلَّ ممزق، فهو بحرفية عالية، وبقلم العارف بتلك العوالم التي تصطرع في الذات الواحدة الإنسانية، ينتقل من جرح إلى جرح، ومن سادية إلى أخرى، لنكتشف نحن بني البشر أن الفصام لا يعطي شخصيتين وحسب، بل يفرخ العديد من الشخصيات التي ننتمي وتنتمي لنا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة أسماء عزايزة

مكتبة زوينة آل تويّه