20-يناير-2020

الشاعر والباحث محمد طلبة رضوان

ألترا صوت - فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


محمد طلبة رضوان شاعر وباحث من مصر. مهتم بالشأن العام، بالأخص الشأن الديني، باعتباره مركز انشغالات العقل العربي، وسر تقدمه في السابق وأحد أهم أسباب تخلفه في الحاضر، بفعل القراءات السياسية والطائفية التي استثمرتها الأنظمة الاستبدادية والحركات الإسلامية على حد سواء.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

لا أعرف، كل ما أذكره أنني استيقظت يومًا وأنا في الصف الثالث، أو الرابع، الابتدائي وطلبت أن أقرأ، فطلبت مني أمي أن أستعين بمكتبة البيت، وكانت صغيرة وكلها كتب دينية، تفسير الصابوني، وطبعة أخبار اليوم من كراسات تفسير الشعراوي، وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، وفقه السنة لسيد سابق، وكتب في الرقائق، أتذكر أن أحدها كان بعنوان: يوم الفزع الأكبر، في إشارة إلى يوم القيامة، حاولت مع فقه السنة، استفدت ولم أستمتع، قرأت الإحياء، لم أفهم، أما الشعراوي فكنت أحب مشاهدته في التلفزيون مع أبي لا قراءته، طالبتهم ثانية بالقراءة، طالبت بإلحاح، في وجود أبي، فردت أمي: عندك المكتبة، فضحك الوالد رحمه الله وقال: يعني محمد في هذا السن سيقرأ عن الفزع الأكبر؟ سألوني ماذا تريد أن تقرأ؟ أجبت: قصص، فقالت أمي: اذهب لابن خالتك، لديه مكتبة كبيرة من القصص والروايات، كان بيت خالتي رحمها الله في حارة مجاورة لحارتنا، وكان ابن خالتي يكبرني بثلاث سنوات، ولديه كل ما صدر، حتى ذلك الحين، من إصدارات المؤسسة العربية الحديثة، من روايات الخيال العلمي والروايات البوليسية، رجل المستحيل وملف المستقبل و"ع في 2"، لنبيل فاروق، والمكتب رقم 19 لشريف شوقي، وميكي وفلاش وعناوين أخرى لا أذكرها، قرأتها كلها، كلها حرفيًا، وفي زمن قياسي، وانتقلت سريعًا من الاستعارة للشراء، عرفت أصحاب المكاتب أيامها، كان الكتاب بجنيه واحد، ويمكنك قراءته واستبداله بآخر نظير ربع جنيه، بعد ذلك بقليل قرأت كتب مصطفى محمود، كانت توزع مع باعة الجرائد، واهتممت مع الوقت بقراءة الجرنال، أبي كان يقرأ الجرائد الثلاث، الأهرام والأخبار والجمهورية، وأحيانًا المساء، كان يهتم بالأساس بصفحة الرياضة، قرأتها، وسرعان ما تعمدت تجاوزها إلى جريدة الشعب كنوع من التمرد، كانت الشعب تصدر عن حزب العمل، في وقت التحالف بين العمل والإخوان، قرأت لعادل حسين وأحببته، وقرأت عمود "هذا ديننا" للشيخ محمد الغزالي بانتظام، وكان بوابتي للقراءة الدينية، ومن بعده محمد عمارة الذي فتح أمامي أبواب الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقرأت لمحمد عبده ورشيد رضا ومحمود شلتوت والمراغي ومحمد فريد وجدي وعبد المتعال الصعيد والعقاد، وغيرهم، كل ذلك بالتوازي مع القراءة في الرواية التي انتقلت بطبيعة الحال من القراءات المراهقة إلى نجيب محفوظ، بحكم الذيوع والشهرة، كانت روايتي الأولى مع نجيب هي الطريق، وكانت زيارتي الأولى لسور الأزبكية بحثًا عن رواية أولاد حارتنا، كانت ممنوعة. وانطباعي عنها في هذه المرحلة المحافظة هي أنها رواية كفرية، ذهبت لأشتريها وأقرأها لأقف بنفسي على مواطن الكفر التي حكى عنها المشايخ، وأناقش بفهم، وجدتها في مكتبة ألف باء، كانت مكتبة متخصصة في كتب الفلسفة القديمة، نسخ نادرة، وأخرى مصورة لكتب لم يعد لها وجود، صاحبها رحمه الله كان سلفيًا، للمفارقة، سألته عنها، فقال بصوت منخفض: موجودة، كانت الرواية ممنوعة، نظر يمينًا ويسارًا، قبل أن يأتي بها ويضعها في كيس أسود ويمنحني إياها، بـ 30 جنيه، كل محاولات الفصال فشلت، أخذتها للبيت، وبعد نوم الجميع التهمتها وأنا تحت فراشي، 3 أيام اقرأ وأنتظر مواطن الكفر ولا أَجِد، كان مصطفى محمود على بساطته قد علمني، ربما دون أن يقصد، معنى المجاز، تحركت مع مجازات محفوظ بسلاسة دون أن أشعر بشيء مما حكاه أهل الشرع، فهمت ماذا يعني، تفهمت انفصال الرمز عن المرموز وما يستتبع ذلك من فروق بينهما ليست بالضرورة رأي الكاتب في الأصل إنما هي ما تحتاجه الصورة من ألوان لتبدو طبيعية، لم أكن قد قرأت سطرًا واحدًا في النقد الأدبي بعد، لكنني فهمت بالدربة، كانت صدمة، أول صدماتي مع شيوخي، وعلى رأسهم محمد الغزالي، الذي كنت أحبه، ولم أزل، ولا أتصور أن يخطئ في تقييم رواية، قرأت الرواية مرة أخرى لعلني أعثر على شيء، لم أَجِد، الرواية عظيمة، حتى موت الجبلاوي لم أفهم منه وقتها أنه موت الإله، كما تصور المشايخ في سذاجة، إنما هي "فكرة" موت الإله، أو عدم وجوده التي يزعمها البعض، رأيت نجيب محفوظ العظيم وهو يرد عليهم في وضوح: إذا كنتم قد قتلتموه فلن تستطيعوا أن تعيشوا بدونه، إذا كان السحر (أي العلم) هو وسيلتكم فقد مات الجبلاوي وهو راض عن عرفة، أي أن الله راض عن العلم، وسوف تستخدمون السحر نفسه لتستعيدوا الجبلاوي، لن يغنيكم علمكم عنه، أي أن العلم لن يغني عن الإيمان بالله، كان محفوظ واضحًا في فصله الأخير حد الملل، تجاوز مجازاته ورموزه قليلًا، واقترب من الخطابة، لم يكن ينقصه سوى أن يختم الرواية بـ"سبحان الحي الذي لا يموت" ليفهم المشايخ، ورغم ذلك لم يفهموا وشنوا عليه حملة شعواء، بحثت عنها وقرأت تفاصيلها، وبدأت منذ ذلك الوقت في إعادة النظر في المشايخ بوصفهم قادة رأي، رأيتهم في حجمهم الطبيعي، لهم ما لهم من معرفة دينية، وعليهم ما عليهم من جهل مطبق بالمعارف الأخرى، التي لا تقل أهمية، حتى أقربهم إلى وأعقلهم وأثورهم، سقط في امتحان نجيب محفوظ، تحركت قراءاتي منذ ذلك الحين على ساقين، الدين والأدب، بعد أن كنت أعرج بساق واحدة! من هنا كانت البداية الحقيقية.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

هذا سؤال صعب ومربك، لا يوجد كتاب واحد قرأته إلا وترك في أثر، حتى الكتب السخيفة والمملة، ثمة فكرة، سطر، عبارة، خطأ وقع فيه الكاتب وانتبهت له، أي شيء، يترك أثر، وتتراكم الآثار لتصنع شخصيتك، لكن يمكنني أن أذكر لك ما جال بخاطري الآن من كتب الدور ما بعد الأرضي: الإسلام عقيدة وشريعة محمود شلتوت، الاستقلال الحضاري محمد عمارة، العروبة والإسلام عصمت سيف الدولة، الإسلام والأوضاع الاقتصادية محمد الغزالي، مهمة الشاعر في الحياة سيد قطب، حياة محمد هيكل، الطريق والحرافيش وأولاد حارتنا وليالي ألف ليلة نجيب محفوظ، أهل الكهف وفن الأدب توفيق الحكيم، كتب ومقالات كثيرة لمحمود السعدني، هذه هي الكتب الأبرز التي تحتفظ بها الذاكرة من المرحلة الثانوية وبداية المرحلة الجامعية، قبل أن تتخذ القراءات مسارات أكثر اتساعًا وتنوعًا، وتخصصًا، وتشتتًا أيضا.

  • من هو كاتبك المفضل؟ ولماذا أصبح كذلك؟

السابق سؤال صعب، هذا سؤال مستحيل، أنا أتوتر من أفعال التفضيل ولا أَجِد في كاتب واحد مهما كان صفة الكمال التي تجعله كاتبي الأفضل دون غيره.

في الرواية والقصة مثلًا أحب ديستويفسكي وإيميل زولا ونجيب محفوظ وجمال الغيطاني وعبد الحكيم قاسم وعلاء الديب وماركيز وتشيخوف، وعشرات غيرهم. في الشعر، سيدنا المتنبي، ومعه المعري وأبو نواس، ومن قبلهم أمرئ القيس، ومتفرقات من المعلقات وقصائد الجاهليين، كما أحب بساطة العباس بن الأحنف، وشبحنة دعبل الخزاعي، ويقتلني أبو حكيمة ضحكًا ومسخرة، كما أرق لقصائد المجنون، يأسرني شوقي أحيانًا وأستسخفه أحيانًا أخرى، كذلك حافظ والجواهري، ومن قبلهم البارودي، أمل دنقل صورة معلقة بدبوس على جدار القلب، الأبنودي أشتمه من شدة الإعجاب، عم فؤاد حداد أخاف منه وأعامل دواوينه باحترام كأنه يراقبني من خلالها، عم نجم وصلاح جاهين أصدقاء أعزاء دائمين ومزعجين، نتبادل الآراء على المقهى، ويشتم بعضنا بعضًا، ومن أبناء جيلي أيضًا من لا يقل عن هؤلاء، أو عن بعضهم، حتى تأذن التجربة بالنضج..

في الفكر الإسلامي أدين لكثيرين، القرضاوي والغزالي وعمارة ومحمد عابد الجابري ونصر أبو زيد وفهمي جدعان وفضل الرحمن وطه العلواني وأبو القاسم حاج حمد وقائمة طويلة لا تنتهي، في حوار في الفلسفة كثيرون: عبد الرحمن بدوي، ويوسف كرم، وتوفيق الطويل، ومحمود قاسم، وعشرات غيرهم خلاف الغربيين.

وكذلك في السياسة والتاريخ والاجتماع والنقد الأدبي، لا يوجد شخص واحد في أي مجال.. لو سألتني من هو نبيك المفضل لكان السؤال أسهل!

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

مع بعض الكتب نعم، لكن ليس دائمًا.

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

تغيرت، وكنت أظنها لا تتغير، مع بداية موجة النسخ والقراءة الـ"PDF"، حاولت ولم أستمتع، كنت أفضل الكتاب الورقي، لحم ودم وقلم أسطر به على هوامش الكتاب ما أشاء، وعلاقة رومانسية مع الغلاف والصفحات وموضع الكتاب في المكتبة وذكرياتي معه، أين قرأته ومتى، وكم استغرق من الوقت، ثمة كتب في غرفة نومي، وأخرى في مكتبي، وثالثة على المقهى، ورابعة في المترو، وخامسة في الجامعة أثناء المحاضرات المملة، وسادسة في السفر إلى الإسكندرية، سيما سفرات القطار، فالقطارات تحب الكتب، وهكذا.. إلا أن السفر وضياع الكتب، واغترابي عن المكتبة وضيق مساحات الشقق في الغربة كل ذلك جعل من الكتاب الإلكتروني من إكراهات الواقع، لم تستمر المقاومة، استسلمت وبدأت مع الكيندل ثم تركته إلى الآيباد، واستفدت من جهود نساخين كثيرين على رأسهم الخارق للعادة علي مولا.

  • حدثنا عن مكتبتك؟

هذا حديث ذو شجون، مكتبتي لم تلحق بي، سافرت من مصر في ظرف أمني صعب، حيث كانت السلطة تلاحقنا جميعًا، الصحفيين والباحثين والنشطاء وأصحاب الرأي وأصحابهم ومؤسساتهم وبيوتهم، كنت قد قررت أنني لن أغادر أبدًا، وظللت في مصر حتى كانون الأول/سبتمبر 2015، ثم اجتمع علي المرض والملاحقة الأمنية، وكان المرض من جراء تدهور الحالة النفسية بسبب ما يحدث لأصدقائنا في السجون والمعتقلات، وما يحدث لنا ولمهنتنا بعد أن تحولت مصر إلى معتقل كبير، وكانت النصيحة الطبية واضحة بالمغادرة، كذلك كانت نصيحة صديق من القريبين لدوائر الأمن، غادرت في يوم وليلة ودون تخطيط مسبق، بعد صدور قرار القبض علي بالفعل، مكتبتي وقتها تتجاوز الستة آلاف عنوان، وموقعها من البيت غرفة مستقلة، بالإضافة إلى نصف غرفة نومي، ونصف الصالة، لم أستطع أن آخذ معي سوى مائة كتاب، أذكر أنني دفعت مبلغًا كبيرًا في المطار، نظرا لزيادة وزن، حملتها معي من القاهرة إلى بيروت ومن بيروت إلى إسطنبول، شنطة كبيرة، ضخمة، مغرية لمن يجهل أنها لا تحمل سوى الكتب، وحين استأجرت شقة بإسطنبول وجئت بعمال لنقل الشنط، سرقها أحدهم، وحين اكتشفت كدت أموت غيظًا، اتصلت بمن أتى لي بالعمال ووعدته بعدم الإبلاغ عن اللص ومكافأته بمئتي ليرة (أفضل من كتب لن يستطيع بيعها في السوق التركي)، إذا تراجع وأعاد لي الشنطة، كدت أقبل رأس سارقي ليعيد لي زبدة المكتبة، إلا أنهم أنكروا جميعًا أي صلة لهم بالموضوع، السمسار والعمال، وضاعت الكتب.

أتذكر من محتويات هذه الشنطة: الأعمال الكاملة للأبنودي، والأعمال الكاملة لأحمد عبد المعطي حجازي، وديوان صلاح عبد الصبور "حياتي في الشعر" طبعة الهيئة العامة للكتاب، وديوان أمل دنقل، طبعة مدبولي الاستثنائية، ومحمود درويش (الأعمال الجديدة) وديوان عبد الوهاب البياتي بجزئيه، وديوان السياب، وكذلك خمسة روايات لنجيب محفوظ، ورواية لرضوى عاشور، وكتاب كل رجال الباشا لخالد فهمي، وكتاب نداء الشعب لشريف يونس الله يرحمه، وكتاب الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق لهيكل، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفكر الإسلامي لمايكل كوك، وخمسة كتب لعزمي بشارة، من بينهم مجلدان من كتاب الدين والعلمانية في سياق تاريخي، كانا قد صدرا حديثًا واشتريتهما من مكتبة الشبكة العربية للأبحاث في القاهرة، قبل سفري بأسبوع واحد، ولم أكن قد قرأتهما بعد، الرجل سرقهم بالسوليفانة ابن الكلب، بالإضافة لكتب في الفلسفة، وعلم الاجتماع وأخرى في التراث.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟ وماذا وجدت فيه حتى الآن؟

السلف المتخيل للباحث المتميز رائد السمهوري، وهو يبحث في المعنى الحقيقي للسلف، وهل ما نزعمه اليوم من آراء للسلف أو مرجعية للسلف، أو تفكير بالسلف، يعود إلى السلف حقا، وإلى أفكارهم بالفعل، وإلى قراءة تاريخية لهذه الأفكار، أم أنه يعود إلى سلف متخيل، استخدمنا في خامات أفكارهم لإعادة تصنيعهم وتغليفهم وترويجهم كمنتج يتناسب مع الظرف الديني والسياسي الراهن، رائد يحلل هذه العلاقة التاريخية، ويفكك المفهوم، ويجيب عن الأسئلة التي تدور حوله والعبارات التي لا معنى لها في الحقيقة لكنها براقة ورنانة يسهل مغازلة الخيال الجمعي بها، وخداعه، وتدجينه، وتجنيده، مثل عبارة سلف الأمة، وخير القرون، إلخ والكتاب يتخذ من الإمام أحمد بن حنبل ومحنته وأفكاره ومذهبه نماذجا للتطبيق

أقرا أيضا، بالتوازي، كتاب الحكاية وما فيها للروائي المتميز محمد عبد النبي، وهو كتاب ممتع وشيق، لغة رشيقة، وخبرات عملية مفيدة، حول كتابة الحكاية، وفي تقديري حول الكتابة بشكل عام، أغلبها أعرفه وأمارسه بالفعل، لكنني لا أجيد التعبير عنه مثل "نيبو"، وهذا ليس سهلًا، التعرف إلى نفسك والاقتراب من مهاراتك واكتشاف خبراتك في مرآة كاتب آخر، أفضل منك في التعبير عنك، إضافة، ودعم، ومتعة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة بلال فضل

مكتبة سليمان المعمري