18-أبريل-2022
محمد الأمين بحري

الناقد محمد الأمين بحري

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


محمد الأمين بحري كاتب وأكاديمي من الجزائر. من أعماله: "البنيوية التكوينية: من الأصول الفلسفية إلى الفصول المنهجية" و"الأسطوري: التأسيس والتجنيس والنقد".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أعتقد أن عنوان قصة مجيئي لعالم الكتب سيكون "التحول"، أو ربما "متاهة أرنب آليس" وكلاهما واحد. ففي مرحلة طيش طفولي، أو بالأحرى مراهقاتي؛ أعجبني غلافًا به صورة رومنسية لرواية "لمن تقرع الأجراس" لأرنست هيمنغواي (ترجمة خيري حماد)، من مكتبة متهالكة، كان ذلك في بداية المرحلة الثانوية من الدراسة، ثم أردت إرجاعها بعد قراءتها، فوجدت بأن المكتبة قد أغلقت، وحل محلها بائع خرداوات، فسألته أين أجد صاحب المكتبة؟ فقال لي تجده في السوق يبيع الفول المطبوخ، فتوجهت إليه في السوق، وقد تعرف إلي مباشرة وناداني: أن تعال.. فأتيت خجلًا، وقبل أن يتكلم، أخرجت الرواية من تحت ثيابي وقلت له، أخذتها للقراءة فقط لأني لا أملك ثمنها، وها أنا أعيدها لك بعد قراءتها، فقال لي علمت ذلك وتركتك تفعل، ثم كتب لي إهداءً على غلافها، وقال لي: "أنت صاحبها الفعلي ولا أحد يستحقها سواك، ستكون قارئًا ذا شأن، فقط واصل دراستك وستحصل على الكثير من منها.."، فكانت كلماته بطعم المحرك النفاث الذي قذف بي إلى فضاء القراءة الذي لم أخرج منه منذ تلك الحادثة إلى اليوم، حادثة رسمت منعرجًا في حياتي التي لم تكن أدبية على الأطلاق، فكانت بمثابة دفقة الأوكسجين التي أحيت كياني بفعل القراءة التي أدركت قيمتها مبكرًا من خلال عمق وكثافة رواية " لمن تقرع الأجراس" لهيمنغواي، وكلمات المكتبي المفلس الذي أنهى رحلة ثقافته مع الكتاب فوالًا في سوق شعبي.. لكن، وأنا عائد إلى البيت وقد اغتسلت بالعرق البارد من جراء تلك المقابلة المفحمة، كان يتجاذبني سؤالان يضطربان في نفسي.. يقول الأول: ها قد أنهى الرجل المكتبي المثقف حياته مفلسًا وبائعًا للفول كسبيل لإنقاذ نفسه وحياة أطفاله.. فهل هي نهاية كل محب للكتب؟؟ ثم أجيب نفسي بسؤال آخر.. لربما أرادني من خلال إهداء هذا الكتاب الجميل، أن أواصل المسيرة من حيث توقف هو؟ ولعله اختار التوقف في هذه المحطة ليسلمني الشاهد لأتم مهمة أزلية أبدية لا تنتهي بانتهاء مشوار حاملها؟ وكان أن انتصر السؤال الثاني.. وأكملت مسيرة عمي العربي الفوال.. ولم أخيب ظنه ولا أمنيته ولا وعده لي باكتشاف عوالم لا تنقضي دهشتها مع القراءة والكتب.. لم يهدني المكتبي المفلس كتابًا بل أهداني أرنب آليس، الذي اتبعته ودخلت الجحر المتاهي الذي لمّا تتوقف دهشة عوالمه العجيبة بعد.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

هي عدة كتب بالأحرى: لعل أهمها: قصة الحضارة لويل ديورانت، وثانيها البيان والتبيين للجاحظ، وثانيها الغصن الذهبي لجيمس فريزر، ورابعها الطوطم والتابو لفرويد. وخامسها مداريات حزينة لليفي ستروس.. لقد تركت هذه الكتب آثارًا عميقة في مساري ولا أعتقد أنها ستنمحي يومًا.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

عالميًا: الروائي اليوناني: نيكوس كازانزاكيس، عربيًا: الروائي إبراهيم الكوني.

ميزة كازانزاكيس أنه يفلسف الفكر البشري ويترجمه بواسطة الحماقات البشرية، والجنون والحب والجريمة، وهذه ليست موضوعات للكتابة عنده بل مؤسسات منتجة للخطاب والعوالم السردية. وهذا هو الملهم في قلمه المختلف.

أما إبراهيم الكوني كاتب من طينة الفاتحين، من أمثال هوميروس وسيرفانتس وشكسبير، إذ شق طريقًا في السرد العالمي ابتكره بنفسه، يمكن أن نسميه: "السرد الأسطوري الصحراوي الزاخم معرفيًا بأنثروبولوجيا الإنسان الصحراوي"، وقد قدم للأدب الإنساني في روايته خطًا سرديًا شقه بقلمه، اعتقد أنه لم يسبقه إليه كاتب في العالم لا من حيث المعرفة الثقافية، ولا من حيث التقنيات السردية المستخدمة، ولا حتى من حيث القواميس اللغوية المتعددة المجتمعة في نصوصه، وطبعًا سيحاول الكثيرون اتباع خطه، لكن لا أعتقد أن أقلام المقلدين والسائرين على الدرب، تضاهي ما شقه الفاتحون.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

طبعًا لا يمر كتاب قرأته دون أن أكتب ملخصًا عن أهم أفكاره، واقتباساته، وملاحظات نقدية عن محاسنه وسيئاته، حتى أن أنشأت لهذا النوع من المراجعة كراسًا خاصًا للقراءة سميته "The Book Bank"، وهو عبارة عن كناش أو بلوك نوت فيه كل تلك الخطوات التي تحتفظ بأهم معلومات الكتاب المقروء، ويحمل يتسع كل بنك للقراءة لعشرة كتب. هكذا كي لا تضيع قراءتي ويلتهمها النسيان عبر السنين، حتى إن ضاعت الكتب، أو أرجعتها لمن استعرتها منه، فإن زبدتها ستبقى عندي محفوظة، وقد أستعملها في شتى مقالاتي النقدية أو مؤلفاتي إن تقاطعت معها فأستدعيها، بطريقتي وأهمشها من مصدرها لأنها مدونة عندي بالسطر والصفحة والطبعة. كأنما تلك الكتب حاضرة معي على الدوام.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

طبعًا للكتاب الإلكتروني طعمه الخاص، فهو عندي مثل دخول نوع جديد من المأكولات للسوق، فنتعلم من الطعام الجديد طريقة أكله ووسائل أكله، وطبيعة التعامل معه. ولن أنسى أن الكتاب الإلكتروني قد ساعدني، بل كان علاجًا لي من حَوَلٍ داخلي في عيني، حيث لم تكن عدستان داخل عيني مطابقتان تمامًا فسبب ذلك ضبابية في الرؤية، فظننت أنه ضعف بصري بالولادة، لكن بعد الفحص، كشف لي الطبيب أن بصري سليم وأني أعاني من حَوَلٍ داخلي سببه عدم تطابق عدستين داخل عيني، وقال لي: علاجك الوحيد هو القراءة الالكترونية لأن بصرك سيتركز في نقطة واحدة، وهذه رياضة ستعيد العدستان لموضعهما دون تدخل طبي. فكان أن عكفت على القراءة الإلكترونية، وكانت سبيلًا لتحسن الرؤية وشفائي من الحول الداخلي، عكس الكثرين الذين يشتكون من أن القراءة الإلكترونية أضعفت أبصارهم، ومنذ ذلك الحين صار للكتاب الإلكتروني مكانة هامة لدي، خاصة أن قارئه يتحكم في حجم الأسطر كما يريد ويشتهي. لذا أقول إن سلوكي القرائي قد تغير فعلًا بسبب الكتاب الإلكتروني، حيث تضاعف حجم ما أقرأه، كما ونوعًا، حيث صار اطلاعي أكثر راهنية وتحيينًا لكل جديد على الساحة الأدبية والعلمية والفكرية في العالم.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

مكتبتي كائن حي متطور ومتنقل، ولد في غرفة بالبيت، ولما ضاق به البيت، عمدت إلى ترك المخطوطات والكتب العتيقة بالبيت، ونقلت الكتب الجديدة إلى مكتبي بالجامعة، لأؤسس "مكتبة الباحث"، وهي عبارة عن مكتبة للاستعارة المجانية لجميع طلبة جامعة بسكرة، أضحت تنمو كل عام بفضل رافدين أساسيين أولهما هبات المتطوعين من أصحاب الكتب الذين أرادوا المساهمة التطوعية فيها لإفادة الطلبة والباحثين، والرافد الثاني والأهم، هو الصالون الدولي للكتاب في العاصمة الجزائرية الذي تحل دورته كل عام، وقد دأبت منذ حوالي ثماني سنوات على اقتطاع مبلغ مالي كل شهر من أجرتي أخصصه لرحلتي للصالون الدولي للكتاب. حين يحل موعد المعرض أجمع مقتطعات جميع الأشهر لتكون مبلغ كتب كل سنة.

أما داخل الصالون فقد دأبت على اقتناء جديد الكتاب محليًا وعربيًا وعالميًا، وفي مختلف الأجناس التأليفية الإبداعية والعلمية، بمعدل لا يقل عن أربعمائة كتاب في كل دورة، وقد أضحت الزيادة مطردة للكتب فوق هذا العدد، حتى بلغت في معرض الكتاب الحالي أكثر من خمسمائة كتاب. أختارها بنفسي، وعادة تفرض العناوين نفسها علي، إذ كثيرًا ما أمر بدار نشر فيجلبني عنوان لم أكن قد أدرجته في لائحة مقتنياتي، وقد يكون في مجال فني أو فكري لا علاقة لي به، لكنه يدهشني ويجذب فضولي، فأقتنيه وأكتشف عوالمه وأتركه بين يدي الطلبة، فأجد بأنه صار أهم كتاب من حيث لا أحتسب. وقد فرضت تلك الخيارات تبويب المكتبة وفرهستها وفق الأنواع التالية:

روايات (عالمية- عربية)/ قصص (عالمية – عربية-)/ مسرح (عالمي/ عربي) / نقد ودراسات أدبية وفنية/ تنمية بشرية/ مجلات ودوريات/ مكتبة الفيديو (أقراص مضغوطة للمسرح والسينما)/ ثقافة عامة وكتب غير مصنفة (أدب رحلات/ خواطر/ نثريات مختلفة/ مقامات/ ملاحم/ أدب شعبي وأنثروبولوجيا ثقافية).

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

لا أدري إن كانت عادتي في القراءة جيدة أم سيئة، لكني أفتح في العادة من ثلاثة إلى أربعة كتب في اللحظة ذاتها، على أن تكون كتبًا متنوعة المجالات، إذ حين يتسلل الملل والروتين من مادة كتاب ما أغير الجو بالرحلة إلى كتاب آخر في مجال آخر، فأربح كمية القراءة، ونوعيتها وراحة نفسي وإنعاش ذاكرتي، وفي الوقت نفسه، أمارس قراءة تسجيلية تجعلني مركزًا ومنتبها لتسجيل أهم اللفتات التي تؤثر في ما أقرأ. وحاليًا أنا أعيد قراءة كل أعمال إدوارد سعيد، لأني أعتبر أن ما كتبه هذا المفكر شيء حي يتجدد كل يوم. فأعيد إنعاش أدواتي النقدية بقراءته.

كما أقرأ في خط موازِ، كتب: "محاط بالحمقى" لتوماس إريكسون وهو كتاب في أنماط السلوك البشري والتنمية البشرية، ورواية مثل "إيكاروس" لأحمد خالد توفيق، ورواية "امتداح الخالة" لماريو بارغاس يوسا.