31-يناير-2022

الروائي فوزي ذيبان

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فوزي ذبيان روائي من لبنان. يكمل دراساته العليا في الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة. صدر له: "إكميل" و"مراتب الموتى" و"أورويل في الضاحية الجنوبية" و"خيبة يوسف" و"بيروت من تحت". ويعمل حاليًا على سيرته الروائية استنادًا إلى تجربته الوظيفية على مدى عشرين عامًا.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

أنا أنتمي إلى عائلة درزية والدروز يؤمنون بالتقمّص أي بانتقال الأرواح من إنسان إلى آخر عند الموت، ومن باب هذا الإيمان كانوا يردّدون على الداوم أنّي جلبتُ معي من إحدى الحيوات السّابقة عادة اقتناء الكتب. فالبنية الاجتماعية التي وُلدت ونشأت فيها لا تتجاوز علاقتها بالكتب ما يتعدى تلك التحضيرات التي يقوم بها الأهل قبل بداية العام الدراسي.. فالكتب في هذا السياق استكمال ضروري للقرطاسية وحاجات المدرسة ولا شيء غير ذلك، فإذا بي نابتة غريبة عن المحيط.

كنت أدخر المال وأنا دون العاشرة من العمر لشراء الكتب التي كانت تستهويني آنذاك، لم أكن ألتفت ببال إلى شراء الألعاب أو الملابس أو "الفرقيع" بعيد الأضحى وهو العيد الوحيد الذي يحتفل بقدومه الدروز ويشترون لأولادهم "الفرقيع" أي المفرقعات النارية.

لا أخفيك أن فكرة أن تعلقي بالكتب تعود إلى حيواتي السابقة تستهويني إلى حد كبير، ثمة بعد وجداني في الموضوع العقل إزائه عاجز لا يدل إلا على عاجز مثله كما يقول واحد من أهل العرفان من متصوفة الإسلام نسيت اسمه. كنت أنظر إلى الجدران في الأماكن المغلقة وأتخيلها تفيض بالكتب عبر رفوف مصطفة داخل ذهني وما زالت هذه العادة متمكنة مني حتى اليوم. لا مكان في العالم يستهويني بعمق إذا ما كان خاليًا من الكتب.

في مرحلة لاحقة من حياتي ومع انتسابي إلى مؤسسة قوى الأمن الداخلي في العام 1993 حدث انعطاف كبير في قضية اقتنائي الكتب، إذ شكّلتْ الكتب ومنذ انتسابي للدرك نوعًا من التوازن النفسي والروحي إزاء عالم المؤسسة التي انتسبت إليها تحت وقع الحاجة للوظيفة. فعالم الدرك كان دخيلًا على حياتي بما فاق طاقتي لكني صمدت إلى أن تقاعدت، ومن أهم عوامل الصمود رمي نفسي في عالم الكتب خبط عشواء. كنت أشتري الكتب مع سنواتي الدركية الأولى بشكل هستيري، فاقتني بالشهر الواحد من الكتب ما يفوق قدرة عشر قراء على قراءتها وكان أهلي قد أسلموا أمرهم لله حيال هذه المصيبة. كحيلة لتبرير هذه "المصيبة" عمدت إلى الانتساب إلى قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية حيث كل المبررات صارت متوفرة أمام أهلي والجيران وزملائي في الوظيفة، وأهم من كل هؤلاء أمام نفسي. نعم، ثمة شعور بالذنب كان يخالجني لدى شراء الكتب في تلك السنوات وهو شعور تخلّصت منه في التالي من الأيام عبر استسلام رقيق عايشته حيال هذا الأمر حتى تجذر في شخصي.

لا أبالي بثمن كتاب ولا بمكان وجوده إذا ما استقر رأيي على اقتنائه، هو نوع من الهوس، من التملك الشيطاني ولا بأس بهذا الأمر وإلا ما كان لحياتي معنى وعذرًا للجوئي إلى هذا الكليشيه.. فكما قرأت في كتاب عن مارسيل بروست، مشكلة الكليشيهات ليست في احتوائها على أفكار زائفة بل في كونها تجسيدات  زائفة لأفكار شديدة الأصالة. إنما وقد تحقق عندي أن الكتب هي حياتي فلا أبالي بتبني الكليشيه المذكور أعلاه. عشقي للكتب ليس تجسيدًا زائفًا، لكنه واقعة شديدة الأصالة في شخصي منذ تفتحت على هذا الكتاب المعجوق والذي يدعى الحياة.. ربما أمي على حق بشأن شغفي بالكتب والذي يلاحقني من حياة سابقة.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

هو سؤال فضفاض لكنه جميل.

الآن وبعد طول تقلّب في عالم الكتب والكتّاب اكتشفت أن لكل فترة كتابها أو مكتبتها وغالبًا ما يأتي الأمر بمحض الصدفة ودون أن يعني ذلك عدم تداخل الأسماء والمواضيع لأسباب تقع خارج طائلة مداركي. بيد أن ثمة كتاب مهما حييت لن أخرج من إسار وقعه عليّ على الرغم من بساطته لدى تصفحي أوراقه اليوم، إنه كتاب "الحلاج – شهيد التصوف الإسلامي" لطه عبد الباقي سرور اشتريته من مقام النبي أيوب الذي يقع في بلدتي نيحا الشوف، وكنت ربما في الثانية أو الثالثة عشرة من العمر.

بطبيعة الحال لم أكن قد سمعت بالحلاج من قبل إنما شكْل الكتاب بتجليده الفني الأنيق وذلك العنوان الذهبي اللون والذي يغطي الغلاف الخارجي ولون الكتاب الأخضر كلها أمور أغرتني باقتنائه. بغضون سنة قرأت الكتاب أكثر من عشر مرات حتى رأيتني وقد حفظت بعض متونه فضلًا عن أشعار الحلاج عن ظهر قلب. لقد شغفت بالحسين بن منصور الحلاج بما تجاوز قدرتي على نزع الكتاب من بين يدي وصار الحلاج بوصلتي في العلاقة مع الله، حتى أني عمدت مرة إلى التوجه لأمي بالسؤال عما إذا كانوا في خلواتهم الدينية التي تمتد من ليل الخميس حتى فجر الجمعة يأتون على سيرة الحلاج. حزنت كثيرًا لما سألتني أمي "مين الحلاج؟!".

مع توالي الأيام وكرها تعمقت أكثر في دراسة التصوف الإسلامي عبر انكبابي على عديد الكتب المتعلقة بهذا الشأن إنما أي كتاب لم يحتل مكان كتاب طه عبد الباقي سرور.. لست أدري، ربما هو الحنين.. فلنترك الأمر للما وراء. الكتاب في مكتبتي حتى اليوم أقوم بتقليب صفحاته من مرة لمرة وأقوم باستنشاق رائحة ورقه بشغف.. نعم أنا من هؤلاء الناس.

لن أحفر في الذاكرة أكثر وسوف أذكر كتب أخرى كان لها وقع كبير عليّ وفقًا للظروف التي رافقت قراءتي لها وعلى رأس هذه الكتب رواية التشيكي ياروسلاف هاشيك والتي تحمل العنوان التالي : "الجندي الطيب شفيك وما جرى له في الحرب العالمية"، والرواية تتناول قصة جندي غريب الأطوار شارك في الحرب العالمية الأولى. قرأت هذه الرواية عندما كنت شرطيًا وقد لازمتني لفترة من الوقت ليس بالقليل وهي حفرت في شخصي عميقًا، وأودت بي إلى نمط من اللامبالاة بقوانين المؤسسة ونمط عملها وصرت أتماهى مع شخصية "شفيك" في الكثير من المواقف وردّات الفعل.

"أوسكار" في رواية الألماني غونتر غراس رائع وتعمدت صداقته لوقت مديد، وصودف أني قرأت الرواية أول مرة وأنا أنفذ عقوبة مسلكية في أحد سجون الدرك بسبب فراري من الخدمة لعدة أيام، فتماهى وعيي مع أوسكار بكوني لا أستطيع أن أكون منضبطًا. قرأت الرواية وهي بعنوان "الطبل الصفيح" مرة ثانية وثالثة ولا أنفك أعود لأوسكار باستمرار.

صديقي الشاعر جوزف عيساوي ألمح إلي منذ فترة كي أكتب تجربتي مع ميخائيل نعيمة في كتابه "يا ابن آدم" الذي قرأته إبان المراهقة واحتل مساحة من وعيي ونطق لساني وقد حفظت من متونه الكثير، وتراه حتى اليوم يتسلل من بين ثنايا ذاكرتي... فالكتاب ما زال مسترسلًا في مداركي حتى اليوم.

لن أذكر كتب الروائي الروسي دوستويفسكي لأني عندها قد لا أتوقف عن الكتابة، لا سيما رواية "الشياطين".

لا كتاب بعينه لمسني من كتب الليبي الرائع إبراهيم الكوني إنما تجدني مأخوذًا بجملة كتبه والتي تتبدى لي ككتاب واحد بعدة أغلفة وعناوين. لدى قراءتي "ناقة الله" استولى عليّ العجب بسبب قدرة هذا الرجل على أن يكون واحدًا كأولئك السحرة في صحراء كتبه المترامية الأطراف.

من النافل أني لا أتبع كرونولوجيا زمنية بعينها لدى ذكري هذه الكتب وهذه الأسماء، بالتالي وانطلاقًا من هذا التشظي الزمني الذي عمدت إليه للإجابة على هذا السؤال، أراني مضطرًا للعودة إلى سلام الراسي الذي قرأته بشغف في بداية عشرينياتي في هذا المركز العسكري أو ذاك. كنت أقرأ الراسي بحب وشغف وغالبًا ما أتوق للعودة إليه وحزنت كثيرًا لدى سماعي بوفاته ولم تكن الفرصة قد واتتني لمقابلته والتعرف عليه.

سأقفز حوالي عشرين عامًا ونيف إلى الأمام وأبثك أخبار علاقتي مع شارلز بوكوفسكي الذي أودى بي إلى ضروب من الخفة لم أحسبها بشخصي يومًا. تحول بوكوفسكي في بعض متونه إلى ما يشبه المعالج النفسي بالنسبة لي.. هو رائع في كل ما قرأت له إنما تبقى سيرة طفولته وصولًا إلى آخر أيام مراهقته من أجمل كتبه بالنسبة إلي.

ربما لا شيء يجمع سلام الراسي مع بوكوفسكي أو الحلاج مع الجندي الطيب شفيك وإلى آخر هذه اللائحة من العناوين والأسماء لكن لا أخفيك سرًا أني أعتبر نفسي محظوظًا عبر لم شتات كل هؤلاء في رأسي.. وسأكتفي بهذا القدر.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

كاتبي المفضّل هو الله. أنا لا أؤمن بالتوحيد بل تراني أقرب إلى الإيمان بتعدد الآلهة لكن هذا لا يحول دون التوقف مليًا عند قدرة رب التوحيد الهائلة عبر نصوصه. ثمة استنكار قد يثار، إذ كيف لا أؤمن بالله الواحد ومع هذا أبدي إعجابي فيه ككاتبي المفضّل؟!

بالواقع، إن قراءتي للمواضيع التي هي من هذا القبيل كالله مثلًا تنطلق من مقاربة سيكوانثروبولوجية للناس وهي مقاربة قال بها العديد من الأنثروبولوجيين وعلماء النفس. إن الحقيقة واقعة ثقافية، والتاريخ يلعب دورًا مركزيًا في تحويل الوقائع الثقافية إلى وقائع سيكولوجية بحيث يكف الثقافي عن أن يكون معطى خارج ذات الإنسان بل يتحول إلى جزء من بنية وعيه ومن آليات إدراكه للعالم. بالتالي يصير من باب العبث القول لهذه المجموعة البشرية أو تلك إن ما تؤمن به غير صحيح وأقصى ما نقدر عليه بهذا الصدد هو التعاطي مع الأمور كما هي وقد صاغها التاريخ عبر سرديات لا سبيل لاستبدالها بسرديات أخرى وهكذا دواليك. فالتاريخ قوي جدا كما تعلم وهو يجيد لعبة الغموض والجلاء... وهذا هو تصوري لله. فالأمر أشبه بالمستحيل الواقعي لدى جاك لاكان... هو مستحيل لكنه واقعي، وكفى.

بالعودة إلى السؤال، نعم. إن الله هو مؤلفي المفضّل في سردياته الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام ولن أذكي واحدة من هذه السرديات على أخرى أقله بالعلن كي لا يزعل أحد من أهل الله وموحّدِيه.

إن الله كاتب هائل، فحتى أولئك الذين ينفون وجوده تراهم مستفزين بقوة نصه كما هي الحال مثلا مع نيتشه الذي أعلن بجهار الصوت موت الله. فالرجل، وكما يرى الأمر الكثير من دارسيه كان مشبعًا بشعور الغيرة من الله بل أن جملة نصوصه هي ردات فعل يسوقها الحسد من نص الله.

ثمة تغلغل لهذه النصوص بما يتجاوز قدرة الإنسان على التخيّل لذا ترى أن الدراسات في التاريخ والأنثروبولوجيا والفلسفة وعلم النفس والأعصاب وصولًا إلى السحر والشعوذة لا تكف عن استحضار نصوص الله بغية الوقوف على حقيقته النهائية عبر محاولة فك مغاليق نصوصه.

أرشدني إلى نص بشري واحد خضع لجملة التأويلات والمقاربات المتضاربة والمختلفة والمتناقضة التي خضع لها نص الله الهائل، كتاب الله الهائل بأجزائه الثلاثة أفضل أن أقول.

هو نص غزير ومندفع وإذا أردنا أن نستعير مصطلحات علماء النص نقول هو نص متعدد المستويات بحيث ترى أن متلقّيه غالبًا ما يقع في إسار الحيرة التي تفتك بذهنه جرّاء متواريات هذا النص أو بداهاته التي قد أرساها التاريخ فإذا بهذا المتلقي يعود ليستغفر كاتبي المفضّل بسبب ما ألمّ به من تيهان.

أما إذا خرجنا من الدائرة المحض نصية لدى تطرقنا لكتاب الله، إن السؤال الأول الذي يلفح الذهن والخيال هو : أين لنا أن نجد نص أقحم البشر بحروب وصراعات وتقاتل حتى حدود الإفناء مثل نص الله؟!! وعلى الرغم من وجاهة هذا السؤال لا يمكن أن نغفل الدور المحوري الذي يلعبه هذا النص في محاولات التقريب بين البشر وزرع الوئام والسلام العالمي وهذه القصص... هو نص غريب عجيب.

الله هو كاتبي المفضّل لعدة أسباب ولكن يبقى أهمها بالنسبة لي أنه لا يحفل بقرّائه على الإطلاق. ترى الله في بعض متونه كمن يكلم نفسه أو كمن لا يكلم أحدًا... هل ثمة من إبداع يضاهي هذا الإبداع. هو نص شعري، تربوي، حربجي، مسالم، منشرح مكفهر في آن معًا.

جرّب البعض من رجال التاريخ وقاماته العظيمة تقييد دلالات هذا النص عبر انطاقه بما يتلاءم مع وجهة نظر هؤلاء كالقديس أوغسطينوس أو إبراهيم بن سيّار النظام أو في القرن العشرين جورشيم شوليم على سبيل المثال لا الحصر، إنما أي تقييد هو وكتاب الله لا يني يقدم نفسه بأشكال شتى عبر حقب التاريخ وحضاراته!!

الله هو كاتبي المفضّل ولكن هذا يستوجب بالتأكيد معاينة المحفّز الهائل بدوره الذي ساق الله لأن يأتي بنصه... وأقصد في هذا السياق النص غير المدوّن للشيطان.

من منهما يعاضد الآخر أكثر في هذا التواطؤ السري؟ لا أحد يدري، وعدم الدراية هذا أيضًا يضفي الروعة على كل من الكتابين الظاهر منهما والمستتر.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟ هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

نعم، غالبًا ما أعمد إلى تدوين الكثير من الملاحظات في تلك الفراغات التي تحوط سطور الكتاب الذي يقع بين يدي بحيث أجد الكتاب لحظة الإنتهاء من قراءته وقد فاض بما لم يكن بالحسبان، فالأمر أشبه ببناء نص فوق نص أو استيلاد عفوي لنص آخر يداخل النص المطبوع وأكثر ما استمتع بتلك النصوص التي تسوقني إلى هذا الشيء فإذا بي مغبة استطرادات واقتباسات وأحيانًا إزاء رسوم وخربشات أقوم برميها فوق فراغات النص بعفو الخاطر... وهو أمر ممتع وجميل.

ثمة من كتب يومًا أن الكاتب الأصلي للنص هو القارىء وليس المؤلف. لا ريب أن هذه العبارة تشي بكثير المبالغة لكنها تنطوي على الكثير من الصحة. إن القارىء في بعض نواحيه هو استئناف لبدء آخر لم يكن في بال المؤلف وهو أيضًا قد يكون يمثابة المكمّل لنص هذا المؤلف الذي غاص في غياهب الإنزواء ولا بأس بهذا الأمر.

كان فولتير يقول أن أنفع الكتب هي تلك التي يكتب القراء نصفها، فالقارىء بنهاية الأمر هو كائن الصدفة بالنسبة لأي نص بالتالي فهو محكوم بسردية ثقافية وسيكولوجية واجتماعية مغايرة كليا لسردية الكاتب، فمن أين لهذا القارىء من ثم أن ينجو من ثقل التاريخ والجغرافيا وظروف الولادة لدى تلقفه للعالم ونصوصه مهما ادعى من موضوعية وغيرها من ثرثرات!!

لا مفر، نحن كائنات مركبة وربما مكركبة بما لا يمكن توقعه وهذا التعقيد لا بد أن ينتأ مع أول فرصة يمكن عبرها صياغة هذا النتوء.

بالنسبة لي أن النصوص – مِشْ كل النصوص – هي عبارة عن آليات استنطاقيه شاءت ذلك أو أبت، وهو استنطاق متبادل بيني وبينها، هي تسوقني كل مرة لأسأل نفسي من أنا، وأنا بدوري أسوقها لتفضي إليّ بما هو غير مدون أو غير مبثوث بصريح العبارة وفحولتها كما كانت تقول العرب من باب الإشادة وحسن البيان. ثمة مكبوت، ثمة مسكوت عنه أو متوار ومن المتعة الإنصات إلى هسيسه ومحاولة إلقاء القبض عليه في كل نص. فالأمر أشبه بعلاقة محقق الشرطة مع مجرم أو لص ذكي وأنا كنت شرطيًا لفترة لا بأس بها من عمري.

يا لها من متعة تلك التي تتأتى عن محاولة الإيقاع بلص ذكي يعمل على إبقاء قوله في طي العتمة والكتمان. إن النص لص حربوق والقارىء يجب أن يكون حربوقًا بدوره. ولِمَ لا، قد يكون النص هو المحقق والقارىء محل الإستجواب. إنها لعبة التخفي والظهور أو الغمّيْضة بين القارىء والنص وليست تلك التدوينات الجانبية وتلك الملاحظات التي أقحمها في الفراغات إلا عبارة عن محاضر تحقيق، مذكرات جلب وإحضار بل وإنذارات بإلقاء القبض. وتبقى اللذة في فعل التعقب ذاته وتلك المراوحة بين البوح وكتمان السر... غالبًا ما تقيم المتعة في رحلة المسير بين القارىء والنص وليس في محطة الوصول.

كان لوتريامون يقول ان الكتاب لا يبدأ ولا ينتهي.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

مع انتشار الكتاب الإلكتروني ازداد تعلقي بالكتاب الورقي إلى حد كبير. بالإجمال أنا من تلك الكائنات التي يطلق عليها باللغة الإنكليزية كلمة (لوديتيه) أي أولئك الذين يكرهون التطور التكنولوجي ويرون به وبالًا على البشر، فما بالك عندما يكون هذا التطور في سياق الإنقضاض على ما يغني وجودي في العالم!!

لا أخجل من القول أني أستنشق رائحة الكتاب فأنا على كل حال من صنف بشري ربما يكون في طريقه للانقراض والأمر بالنسبة إلي محمودًا. غالبًا ما يستبد بي الحنق لأني وُلدت في عصر التطور التكنولوجي وأتمنى لو الصدفة رمت بي في تلك الحقبة من حياة البشر قبل اختراع الدولاب وأكثر ما يغريني السفر عبر الجمال. لِمَ العجلة والعمل على نطح الوقت بقرنين تكنولوجيين بشعين؟!

ثمة صديق غالبًا ما يردد على مسامعي أن البقاء للأسرع. حسنًا، إن الصاروخ سريع جدًا فليكن البقاء للصاروخ. أنا كائن بطيء الحركة ولا أحبذ الإستعجال لقضاء أي أمر.

فيما مضى من أيام كنت آخذ جانب الحيطة لدى تطرقي لهذه المسائل أما الآن فإلى الجحيم.

الكل على عجلة لقضاء أموره وما أن يقضي الأمر حتى تغلّه قيود الملل وانتظار عطلة نهاية الأسبوع كي يستريح ويعود للعمل يوم الإثنين. كتب الفيلسوف الفرنسي ادغار موران عن التكنولوجيًا قائلًا انها بمثابة السحر الذي قد انقلب على الساحر وهو كلام صحيح.

من المستحيل أن أقرأ عبر الشاشة ما يتجاوز الأسطر المعدودة، وحتى لحظة هذا الحديث أنا أكتب بالقلم فوق الورق ثم أعمل مجبرًا على نقل الكلام إلى اللاب توب أو تقوم فاطمة (زوجتي) بهذه المهمة الشاقة كما أرى أنا الأمر.

الإنسان يخترع كل شيء ومع كل اختراع تراه يفرح لدى سماعه أن ثمة علاجًا جديدًا للإكتئاب.. إنهم يبنون السدود أمام الأنهار. بالنسبة لي هذا عمل غير مفهوم؛ هل البشر أكثر حكمة من جريان ماء النهر؟

الكتاب الإلكتروني شيء غريب على جهازي العصبي وخلايا دماغي البدائية التي يبدو أنها تأبى أن تتطور بما يلائم حاجات العصر.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

لا أجيد التكلم عن مكتبتي لكني أجيد النظر إليها بإمعان. قد يتبادر إلى ذهن البعض أن ثمة شعرية في هذه العبارة، لست أدري... قد يكون.

لكني حقًا لا أجيد التكلم عن هذه الصحبة التي تجاوزت الثلاثين عامًا ونيف. عندما أدخل إلى تلك الغرفة التي تحوي رفوف الكتب المكدسة يداخل قلبي وذهني شعور بالفرح الممزوج بالأمان.. الأرجنتيني بورخيس كان يتخيل الجنة عبارة عن مكتبة لا بداية لها ولا نهاية.

تكلم شوبنهاور عن تلك العلاقة المعقدة التي تقوم بين المكتبة والمقبرة، إذ أن القراءة بالنسبة إلى هذا الفيلسوف هي بمثابة تمرين على التعامل مع الموتى الذين يتخللون الحقب التاريخية ويخترقون أسوار الجغرافيا والحدود. أحب كثيرًا توصيف شوبنهاور للموضوع وألقى نفسي منسجمًا بعمق مع هذا التوصيف الرقيق ولا سيما لدى إمعان الذهن في ما قاله يومًا لايبنتز وهو أيضًا فيلسوف: لا سلام إلا في المقابر.

نعم، أنا لست متفائلًا لكني أنظر إلى تشاؤمي بللا مبالاة، إنه واقع الحال مع الأخذ بعين الإعتبار أن موتى الكتب يتنفسون وبعضهم قد يحدق بك مليًا على غفلة عنك وتراه قد يستدعيك للعودة إليه وإلا كيف لنا أن نفسر قفز أحدهم المباغت داخل جوارير الرأس التي تحسبها قد أغلقت بإحكام؟!! ترى بعضهم ككائنات استجدت فجأة عبر نقر خفيف على الظهر أو ربت مؤدب فوق الكتف.

لا أجيد التكلم بتاتًا عن مكتبتي لكني أجيد التحديق بها وتتبع مراحل عمري الذي ينقضي على وقع تقليب الصفحات كما يقول عاشق شهير للكتب سبقني إلى هذا القول الجميل.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

من النادر أن أقع على كتاب واحد أقرأه. غالبًا ما تستبد بي الحيرة فتجدني مغبة أربعة أو خمسة كتب في آن معًا. كنت أرى في الأمر عيبًا إلى أن اكتشفت عبر قراءتي لحياة فتغنشتاين أن الرجل كان يسلك نفس الشيء بل تراه ما خلا الروايات لا يأتي على كتاب من أوله إلى آخره. قلت لحالي "عال"، فلأكن مثل فتغنشتاين أقله في هذه المسألة.

أثناء كتابتي هذه الأجوبة أنا أقرأ كتابًا بالإنجليزية لإسحاق عظيموف يتكلم عن الكلمات التي تعود لعالم الأساطير والتي تتخلل عالمنا الحديث، إنما بسياقات مختلفة كليًا، وأقرأ أيضًا سيرة حياة فرجينيا وولف التي كتبها "كوينتين بيل" ونقلها عطا عبد الوهاب للعربية بالإضافة إلى كتب أخرى.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة هند الديوان

مكتبة أحمد حنيطي