29-نوفمبر-2020

فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ

في كتابه المترجم حديثًا والصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت بعنوان "فلسطين أربعة آلاف عام في التاريخ" يتحدى نور مصالحة المقاربة الاستعمارية لفلسطين والخرافة الخبيثة القائمة على مقولة "أرض بلا شعب"، ويرى أن يُقرأ تاريخ فلسطين بأعين شعب فلسطين الأصلي.

تستعرض هذه المادة، في خمس حلقات (هذه آخرها)، فصول هذا الكتاب القيّم والذي لربما يُعتبر الأشمل فيما يتعلق بتاريخ فلسطين الجغرافية لما فيه من تفاصيل ومعلومات.

الاستعمار الاستيطاني وتجريد الفلسطينيّن

استيلاء إسرائيل على أسماء الأماكن الفلسطينيّة

ورد على لسان آرثر بلفور أن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، والصهيونية أكان الأمر عن صواب أو عن خطأ، جيدًا أم سيئًا، متجذرة في تقاليد قديمة العهد، وفي الحاجات الحاليّة، وفي آمال المستقبل، بقدر أكبر بكثير من رغبات ومزاعم 700 ألف عربي يقطنون الآن تلك البلاد القديمة.

يورد مصالحة أنه في أواخر القرن التاسع عشر، حين برزت القومية الصهيونية الأوروبية كقوة سياسية تدعو إلى الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وتجميع اليهود، قلّما تم ذكر أو التنبه إلى أن فلسطين كانت أصلًا مأهولة، كما أن برنامج بازل الذي أعتمد في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 لم يأتِ على ذكر السكّان الفلسطينيّن الأصلييّن حين أعلن هدف الحركة وهو إنشاء وطن آمن رسميًا وقانونيًا في فلسطين للشعب اليهودي.

وقد شهدت السنوات الأولى من جهود الصهيونيّن لتأمين الدعم لمشروعهم في الغرب ترويجًا مكثفًا للخرافة العنصرية "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو الشعار الذي عمّمه شعبيًا إسرائيل زانغويل، وهو كاتب بارز يهودي إنجليزي، أشير إليه في الصحافة البريطانية بأنه المتحدث بلسان الصهيونية.

في عام 1914، قال حاييم وايزمان أن الحركة الصهيونية تعتمد كليًّا على عوامل ميكانيكية، هناك بلد يصادف أن ليسَ فيه شعب، ومن جهة أخرى، هناك الشعب اليهودي، وهو ليست له بلاد. فماذا يلزم بعد ذلك، لتثبيت الجوهرة في الخاتم، بجمع هذا الشعب مع هذه البلاد؟ على مالكي البلاد (الأتراك) إذًا أن يقتنعوا بأن هذا الزواج ملائم، لا للشعب اليهودي فقط، وللبلاد، بل أيضًا لهم.

يوضح مصالحة أنه لم يقصد كل من زانغويل ووايزمان المعنى الحرفي لهذا التأكيد الديمغرافي، بل أنهما كانا يقصدان بأنه ليس هناك شعبٌ في فلسطين يستحق أن يؤخذ في الحسبان في إطار نظريات التفوق الأوروبي العنصري التي كانت تسيطر آنذاك. وفي تعقيب من وايزمان إلى آرثر روبين رئيس قسم الاستعمار في الوكالة اليهودية حين سأله عن السكّان الفلسطينيّن الأصليّين، أجاب وايزمان: أخبرنا البريطانيّون بأن هناك بضع مئات من آلاف الزنوج وليسَ لهؤلاء أي قيمة.

وفيما يخص مسألة إعادة تسمية الأماكن الفلسطينية، يذكر الكاتب أنه منذ ظهور الحركة الصهيونية الاستيطانية وعلى الأخص منذ تأسيس دولة إسرائيل، تطور النزاع حول ذاكرة أسماء الأماكن وإعادة تسمية المواقع بوصفه جزءًا لا يتجزأ من النزاع السياسي في فلسطين، حيث تم تهويد وعَبرنة عدد كبير من الأسماء العربية الفلسطينية، وأن الجيش الإسرائيلي والدولة الإسرائيلية منذ عام 1948 سعيا لإجراء استبدال منهجي لأسماء الأماكن العربية الفلسطينية على زعم الأسبقية الزمنية، وباستخدام علم الآثار الحديث، ورسم الخرائط، زعمّوا الحصول على أدلّة للجذور اليهودية في أرض إسرائيل.

ويشير أيضًا إلى أن سردية غزو الأرض التوارتي كانت النص الأساسي الذي يُبرئ الاستعمار الاستيطاني الأوروبي لفلسطين، كما أن التوارة كانت قد بّرأت الإمبراطوريات الأوروبية والاستعمار الاستيطاني الأوروبي وحتى الإمبريالية الأمريكية الحالية. وقد كانت أيضًا – السردية التوارتيّة – عاملًا حاسمًا في اللاهوتيات السياسية.

ويلخّص مصالحة الاستراتيجيات التي طورتها الييشوف الصهيونية في مرحلة ما قبل تأسيس الدولة لإخفاء القرى الفلسطينية كما يلي:

  • الاستخدام الموسع لاسم فلسطين مقترنًا بالاسم الصهيوني ايريتس يسرائيل من أواخر القرن التاسع عشر حتى عام 1948.
  • الاستيلاء على أسماء عربية، وتهجينها مع أسماء مستوطنات يهودية، وتحويل المستوطنين إلى سكان أصليين.
  • التذرع بسرديات التوراة الأسطورية وعلم الآثار التوراتي من أجل "العودة"، وعبرنة الأسماء الجغرافية الفلسطينية وتحويلها إلى أسماء توراتيّة.
  • استعمال قوائم الأسماء الجغرافية التي وضعها صندوق استكشاف فلسطين، ووردت في أعمال الآثاريين التوارتيّين الغربيّين.

التهجين والعَبرَنة وأسطورة العودة

لقد ادّعى المستوطنون اليهود الأوروبيّون أنهم يمثلون شعبًا أصيلًا يعود إلى وطنه بعد ألفي عام من الغياب، إلاّ أن الواقع كما يذكر الكاتب، أن المواطنين الروس هم الذين شكلّوا المحور الصلب للنشاط الصهيوني. وليسَ مستغربًا أبدًا أنهم كانوا مصممين ليس فقط على اختراع وطن واختراع أمّة، بل على اختراع لغة وهوية جديدتين.

وعلى الرغم من تحول اليهود الأوروبيّين إلى السامية وفق أصحاب النظريات اللغوية والعنصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلاّ أن العبرية الحديثة كانت في الواقع من اختراع الصهيونيّن الأشكيناز في أوائل القرن العشرين، وهي بحسب مصالحة ليست لغة ساميّة، بل لغة هجينة، بمفردات وروابط أوروبية قويّة. ويعتبر أليعيزر بن يهودا واسمه الحقيقي لازار ليبرمان (1858-1922) هو المخترع الأول والأب في عملية التحوّل من الييديش إلى العبريّة الحديثة.

كان بن يهودا يؤمن بأن العربية والآراميّة حفظتا الطابع القديم للغات الساميّة الأصلية، وقد أيّدَ الاعتماد القوي عليهما في استحداث عبريّة حديثة في فلسطين، وقد استعارت اللغة الحديثة الكثير من المفردات من الييديش، والعربية، والآرامية، واللادينو – لغة يهودية إسبانية -، واللاتينية واليونانية والبولندية والروسية والإنجليزية. وفيما يخص الاستعارة من العربية تحديدًا، فإن هذه العملية لا يُمكن أن تُنسب بكاملها إلى بن يهودا أو لجنته للغة العبرية، ومن الأمثلة على الكلمات العبرية التي استحدثها بن يهودا من العربية كلمة قَطّار، وتاريخ، وأديف بمعنى مهذّب من أديب بالعربية.

ولد بن يهودا في قرية لوزكي الليتوانية، وارتاد المدرسة التلمودية في روسيا البيضاء في الإمبراطورية الروسية، وهاجر إلى فِلَسطين عام 1881 وقام بتغيير اسمه، كما عمل محررًا في عدد من الصحف العبرية اللغة منها "ها تسفي" الأيل، وأقفلتها السلطات العثمانية لمدّة سنة بعد معارضة الجماعة اليهودية الأرثوذكسية في القدس التي رأت في عمل الصحيفة تدنيسًا للمقدسات، وكان سكان القدس اليهود يتكلمون العربية والييديش واعترضوا على استخدام اللغة المقدسة (لاشون هاكوديش) العبريّة في الأحاديث اليومية. وقد أعيد إحياء لجنة اللغة العبريّة عام 1904 بعد حلّها عام 1881 وشغل بن يهودا منصب الرئيس، ومن ضمن ما حققته في ذلك الوقت هو اعتراف سلطات الاستعمار البريطاني بقيادة المندوب السامي الصهيوني هربرت صمويل باللغة العبرية الحديثة كواحدة من اللغات الرسمية الثلاث في حكومة الانتداب البريطاني على فلسطين.

في آب/أغسطس من عام 1953 وبعد إقرار قانون الكنيست الإسرائيلي، حلّت محل لجنة بن يهودا ما صار يُعرف بالأكاديمية الإسرائيلية للغة العبريّة بوصفها المعهد العالي للغة العبريّة ومقرّها في الجامعة العبريّة في القدس.

اختراع الذات وتحويلها إلى شعب محلّي وقديم

كان تغيير أسماء العائلات من الييديش مثل بيرلمان إلى العبرية مثل بن يهودا، يوفر للكثير من المستوطنين الصهاينة في فلسطين نمطًا من محاكاة عملية اختراع الذات وتحويلها إلى شعب محلّي. وكانت هذه العمليّة التي أوحت لرئيس الوزراء ووزير الدفاع ديفيد بن غوريون باستخدام الجيش الإسرائيلي عام 1948 لفرض عبرنة عمومية وعمليات تطهير للأسماء العائلية والشخصية لكبار القادة والسياسيين الإسرائيليين.

ولد ديفيد بن غوريون في روسيا بإسم ديفيد غرون، وبعد هجرته إلى فلسطين صار اسمه ديفيد غرين، ثم غيّر فيما بعد اسمه عائلته مُختارًا اسمًا ذا صبغة توراتية، بن غوريون تعني ابن الأسد.

في نظر بن غوريون، كان اختلاق تقليد عِبري، وتركيب أمّة، يعني أن التوارة العبريّة لم تعد وثيقة دينية فقط أو مستقرًا لمعانٍ لاهوتية، بل إنه أعيد تحويلها إلى نص مقدّس قومي وعرقي يحتل مكانة المركز في أساطير التأسيس الحديثة للصهيونية العالمية.

كان بن غوريون ينظر إلى التوراة بنظرة وظيفية تمامًا، فلغة التوراة وسردياتها وأسماء الأماكن فيها تعمل كأساطير استنهاض ورواية تاريخية وعنوان للأرض، وقد جاء على لسانه أنه ليسَ مهمًا إذا كانت قصة التوراة سجلًا حقيقيًا لحدث أم لا، المهم هو أن هذا ما كان يؤمن به اليهود منذ أيام الهيكل الأول.

لم تقتصر جهود الحركة الصهيونية على تغيير الأسماء وحسب، حيث يذكر الكاتب أنه بعد عام 1948، ركّزت المشاريع الصهيونية على عَبرنة وتهويد الجغرافيا الفلسطينية، وأسماء الأماكن من خلال عملية إعادة تسمية المواقع والأماكن والأحداث، وذلك من أجل استحداث هوّيات جغرافية جديدة على علاقة بأماكن يفترض أنها توراتيّة.

وقد عمل على مشروع إعادة تسمية المواقع الجغرافيّة علماء الآثار الإسرائيليون، وأعضاء جمعية استكشاف إسرائيل ولجنة الأسماء الحكومية، وقد ركزّوا جهودهم الأولى على اختراع خريطة لمنطقة النقب "نيغيف" الذي صُدم بن غوريون حين زاره عام 1949 بأنه لا يوجد أسماء عبرية في المنطقة بأكملها.

خلق ماضٍ قابل للاستعمال

لقد تم التعامل مع التراث الثقافي الفلسطيني كأنه أداة للأغراض الاستيطانية الصهيونية، وكان هذا عاملًا مركزيًا في السياسة التربوية الإسرائيلية، ومشاريع الأكاديميا الإسرائيلية التوراتيّة، والحكومة الإسرائيلية لإعادة تسمية الأماكن.

ويذكر مصالحة أن تحويل التوارة إلى تاريخ قابل للاستعمال هو عملية قومية في إسرائيل قام بها مئات الباحثين في الكل الجامعات، انطلاقًا من التأريخ التوراتي ثم الأدلة المحدودة والتخمين الوفير، الأمر الذي دعا وزارة الدفاع لنشر تأريخ كامل لأحداث التوراة، محددةً تواريخ دقيقة لخلق العالم!

يضيف الكاتب أنه في الصهيونية كانت إعادة بناء العصور القديمة بناءً انتقائيًا، والذاكرة التوراتيّة المصطنعة جزء من المهمّة التاريخية لإحياء الجذور والروح القومية القديمة. كما أنه في إسرائيل اليوم، يُزعم بنوع من الهاجس المُلح أن التوارة العبرية قد تحققت بفضل عَلمنة الأركيولوجيا التوراتيّة التي أعطت التاريخ اليهودي لحمًا وعظمًا، واستعادت الماضي القديم ووضعته في نظام حاكم، وأن علم الأثار التوراتية هو الذي أعطى شرعية لدولة إسرائيل.

ويتطرق مصالحة إلى الجدال الغربي في موضوع إسرائيل الحديثة، حيث يرى الكثير من الغربيين أن شرعية الاستعادة الصهيونية اليهودية تتوقف على صدق الصورة التوراتيّة، حيث إن هذا الجدال يركّز على الهويّة الإسرائيلية لأرض لم تكن في الواقع يهوديّة من حيث سكانها المحليّين في معظم حقب تاريخها المدوّن، لكنه ناتج من أن التوراة العبرية ونفوذها في الغرب بوصفها ثقافة مسيحية موروثة تدعم فكرة أن فلسطين كانت دومًا وبطريقةٍ ما هي أرض إسرائيل.

خاتمة: الهوية الفلسطينية المتعددة الشرائح

يختتم الكاتب مؤلفه بالإشارة إلى أنه في العقود الأخيرة، جرى إنتاج الكثير من الروايات والقصائد والأفلام والمسرحيات والتوثيق الإثنوغرافي والفوتوغرافي، والكثير من الأنشطة بهدف مواجهة الإنكار الإسرائيلي، وتصحيح تشوهات الإهمال والتفويض التي تلغي الوجود الفلسطيني في البلاد.

كما يوضّح أيضًا أن الواقع لن يكون بعيدًا عن المنطق القول إن الفلسطينيّن المعاصرين هم على الأغلب أحفاد الفلستيّين والإسرائيليين القدماء، أكثر من اليهود الأشكينازيّين الذين كثير منهم كانوا أوروبيّين اعتنقوا اليهودية في مراحل لاحقة.

وإن نزع بصمات الاستعمار عن التاريخ، واستعادة التراث القديم والثقافة الماديّة لدي الفلسطينيّن وفي فلسطين وحفظهما هما أمران حيويّان، وأنه ثمّة حاجة عاجلة لتعليم تاريخ فلسطين القديم وتاريخ الفلسطينيّن المحليين، المسلمين والمسيحيين والسامريّين واليهود، وأنه لا بد لهذا الفهم والتعليم أن يشملا مادّة علم الآثار النقدي الجديد في فلسطين، والفهم النقدي للتاريخ القديم، وذكريات هذه البلاد.

يذكر أن نور مصالحة مؤرخ فلسطيني مواليد الجليل عام 1957، له العديد من المؤلفات المشهورة منها "طرد الفلسطينيين – مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1992، أرض أكثر.. عرب أقل (1997) وبالإنجليزية صدر له نكبة فلسطين (2012) وفلسطين: تاريخ أربعة آلاف عام (2018)، الكتاب المقدس والصهيونية (2007) وسياسات الإنكار (2003).

يعمل حاليًا كبروفيسور وعضو مركز الدراسات الفلسطينية في لندن، وعضو مركز فلسفة التاريخ في جامعة سانت ماري كما يعمل كرئيس تحرير دورية الأرض المقدسة والدراسات الفلسطينية التي تصدر عن جامعة ادنبرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (1 من 5)

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (2 من 5)

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (3 من 5)

مكتبة فلسطين: فلسطين.. أربعة آلاف عام في التاريخ (4 من 5)