05-يوليو-2020

طبريّة - تاريخ موسوعي من انشائها سنة 20 م إلى نهاية الانتداب البريطاني سنة 1948

تُعنى هذه الزاوية باستعادة كتاب من الكتب الفلسطينية، على اختلاف أنواعها، بهدف إعادته إلى حيز التداول من جديد، ذلك لأنّ الكتب لا تتقادم، ولأنّ معرفة فلسطين ضرورية في يومنا هذا أكثر من أي وقت آخر.


يوضح الدكتور عصام سخنيني (1938-2019) مقصده من وضع مؤلفه الضخم "طبريّة - تاريخ موسوعي من انشائها سنة 20 م إلى نهاية الانتداب البريطاني سنة 1948"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2009 وبدعم من وزارة الثقافة الأردنية وتمويل من جامعة البترا الخاصّة، أنه ليس مجرد كتاب آخر عن طبرية، بل سعى جاهدًا إلى أن يصل به إلى مستوى العمل الموسوعي الجامع لكل ما يخص هذه المدينة.

وقد حوى الكتاب الذي جاء في 490 صفحة تاريخًا مفصلًا للمدينة منذ تأسيسها عام 20 ميلادي إلى سقوطها بيد عصابات الهاغاناه عام 1948. ولأنه ليسَ بالإمكان إعادة صناعة التاريخ وتغيير تفاصيله، إلا أننا نجد أنه من الأهمية بمكان اليوم، أن نعيد التذكير بما جرى في فترة ما قبل النكبة، وسقوط المدن الفلسطينية على التوالي بيد العصابات الصهيونية.

الحركة الوطنية والمقاومة المسلحة

يذكر سخنيني أنه في العام 1890، أرسل القائم مقام أمين أرسلان تحذيرات إلى العاصمة إسطنبول تنبه إلى توسع عمليات شراء الأراضي من قبل اليهود، معبرًا عن قلقه من أن هذه العمليات من الممكن أن تغير من هوية البلد.

وفي مطلع القرن العشرين، سجلت طبرية حادثة تعتبر سابقة في حالات التصدي لعمليات بيع الأراضي لليهود، حيث هبّ الفلاحون حين علموا أن عائلة سرسق البيروتية قد قامت ببيع أراضٍ تملكها للوكالة اليهودية، فما كان من الفلاحين إلا أن هاجموا المهندسين ومساعديهم وكل من أرسلتهم الوكالة اليهودية لمسح الأرض وعلى إثر هذه المقاومة لم يتم تسجيل الأرض بإسم الوكالة.

وقد شهدت فلسطين بشكل عام ظهورًا للهيئات الوطنية بعد عام 1918، وكانت بداية هذه الهيئات فيما يُعرف بالجمعيات الإسلامية – المسيحية التي كانت القدس مركزًاا لها، وتوزعت فروعها على المدن الأخرى منها طبرية. وكان لحضور وجهاء وممثلي طبرية في المؤتمرات العربية الفلسطينية جميعها لغاية السابع منها والأخير الذي عُقد عام 1928.

أمّا في الفترة التي ظهرت فيها الأحزاب الفلسطينية المختلفة، فكان لحضور الحزب العربي الفلسطيني برئاسة الحاج أمين الحسيني الحضور الأكبر في طبرية، وكان اثنان من أبناء المدينة من ضمن لجنته التنفيذية.

يذكر سخنيني أيضًا أن المدينة لم تشهد مصادمات ما بين الفلسطينيين واليهود إلا خلال ثورة عام 1936، حيث إن اليهود الذين سكنوا طبرية في تلك الفترة كانوا من السفارديم، وعرفوا بحسن الجوار والتعايش السلمي والعلاقات الطيبة مع الفلسطينيين، بالإضافة إلى أنهم كانوا يشكلون نحو نصف عدد سكان طبرية، ومما يدل على ذلك، يوثق الكاتب الرسالة التي أرسلها الشيخ طاهر الطبري مفتي المدينة إلى اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني ردًا على انتقادات لعدم مشاركة أهالي طبرية في الإضراب الذي دُعي إليه عام 1922، ويشير الطبري في رسالته إلى أن القيام بالتظاهر والإضراب في مدينة ذات أكثرية يهودية يعتبر أمرًا صعبًا، كما أن تنفيذ الإضراب لن يكون ذا نفع ولن يؤثر في الحركة التجارية لأنه معظمها يقع تحت سيطرة اليهود.

ومن الأحداث اللافتة التي وقعت في طبرية، هو ما حدث في نيسان/أبريل من عام 1937، حيث نظمت مجموعة تابعة للمنظمة الصهيونية الجديدة مسيرة من المدينة إلى مستعمرة تل حي شمال فلسطين، وأثناء سير الموكب من وسط المدينة قام الأطفال الفلسطينيون برشقهم بالحجارة، الأمر الذي إلى اندلاع مواجهات عنيفة بين الطرفين أسفرت عن جرح عدد من الجنود البريطان ومحاكمة شابين عربين بالسجين لسنة وسنتين، أمّا اليهود فقد أصدرت المحكمة البريطانية حُكمًا عليهم بالسجن شهرًا وشهرين.

في تشرين أول/أكتوبر من عام 1938، شهدت طبرية حدثًا مُهمًا إذ سيطر الثوار على المدينة لثلاث ساعات، حيث نفذ الثوار والبالغ عددهم حوالي  300 إلى 400 مجاهد في خمس فصائل، وكان قائد الفصيل الرئيسي أبو إبراهيم الكبير، حيثُ قام المجاهدون بتطويق المدينة من كافة المحاور قاطعين أسلاك الهاتف بين طبرية وكل من صفد والناصرة ونصبوا الرشاشات على مراكز منيعة، وقاموا بالهجوم على معسكرات الجيش البريطاني والبيوت اليهودية.

كما قام الثوار برفع الأعلام العربية على دار الحكومة، وإحراق محكمة الصلح والسرايا والمتاجر اليهودية. وقد أسفرت المعركة عن قتل سبعين من اليهود وثلاثة من الخفراء، واستولى الثوار على عدد من البنادق والذخائر وانسحبوا بسلام بعد ثلاث ساعات.

وقد أعقبت هذه المعركة عمليات انتقام واسعة من البريطانيين في طبرية وغيرها من المدن الفلسطينية، حيث إنها وفي أواخر العام 1939 شددت من وطأة عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين بهدف التفرغ للحرب العالمية الثانية والإستعداد لها.

سقوط طبرية

عاشت طبرية فترة هدوء نسبي خلال الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ويشير سخنيني إلى أن أهالي المدينة اعتقدوا أنهم سيكونون في منأى عن أي اعتداءات صهيونية نتيجة لتمتعهم بعلاقات جيدة مع يهود المدينة والذين كان يُطلق عليهم أحيانًا صفة "يهود أبناء عرب". وقد تسبب هذا الاعتقاد كما يذكر سخنيني في ميل سكان طبرية إلى مهادنة اليهود إلى أن تكشفت نواياهم الحقيقية، فبدأوا بالاستعداد والتجهيز لاحتمالية المواجهات التي كانت تلوح في الأفق.

في الثامن من آذار/مارس من العام 1948، شهدت طبرية اشتباكات بين الفلسطينين واليهود، وفي محاولة لاحتواء الأحداث ومنع تصعيدها التقى إثنان من الوجهاء العرب هم صدقي ونايف الطبري بوساطة القائد العسكري البريطاني في المدينة بآخرين من اليهود، وقد توصل الطرفان إلى اتفاق هدنة كان من أبرز بنودها هو أنه باستطاعة العرب واليهود أن يدخلوا جميع قطاعات المدينة بحرية طالما لم يحملوا السلاح، وأن يبقى ممثلو الطرفين على تواصل لمعالجة أية حادثة. ويعلّق سخنيني أن هذه الاتفاقية كانت بمثابة خدعة تكتيكية من قبل اليهود لإعادة تنظيم صفوفهم وتجهيز أفرادهم بالأسلحة والذخائر.

لم تصمد هذه الاتفاقية سوى يومين، فقد تجددت الاشتباكات في الحادي عشر من ذات الشهر وقتل فيها اثنان من اليهود وجرح أربعة فلسطينين، وعلى الرغم من محاولات حاكم لواء الجليل والقائد العسكري في المدينة لتهدئة الأوضاع إلا أن مساعيهم فشلت وتم إعلان حظر التجول في المدينة. فور رفع حظر التجول، عادت الاشتباكات وبشكل أعنف من قبل في المدينة، واستمرت كذلك حتى الخامس عشر من آذار حين صدرت أوامر مشددة من السلطات البريطانية بوقف القتال بحجة أن مسؤوليتهم تتمثل في الحفاظ على الأمن لغاية 15/05/1948.

استمرت الهدنة الأخيرة بين الطرفين حتى الثامن من نيسان، حيث تجدد القتال بين الطرفين دون أن يُعرف من كان البادئ بإطلاق النار، وفي ذلك اليوم تحديدًا استطاع القناصة الفلسطينيون أن يقتلوا ثمانية من اليهود، وكردٍّ على هذه العمليات تم قصف الأحياء العربية في المدينة من قبل اليهود.

على مدى أربعة أيام متتالية، سيطر الفلسطينيون والمجاهدين العرب على بعض المراكز المهمة في المدينة، مثل فندق باتلر وبنك أنكلو بالستاين، وكانت تعتبر مواقع استراتيجية خلال المعارك، لكن حين دب اليأس في العصابات الصهيونية، اتجهت نحو قرية ناصر الدين وارتكبت مجزرة مروّعة راح ضحيتها اثنا عشر شخصًا معظمهم من النساء والأطفال ودمروا المنازل وأحرقوها وشردّوا أهلها نحو طبرية والمدن الأخرى. وكان لوقع هذه المجزرة ومن قبلها مجزرة دير ياسين الأثر الكبير في نفوس الأهالي في طبرية، وقد طالب مفتي المدينة الشيخ طاهر الطبري في رسالة وجهها إلى القائد البريطاني للمنطقة الشمالية بحماية الفلسطينين والعرب من وحشية العصابات الصهيونية، لكن ردّة الفعل البريطانية كانت كالمهزلة وفق وصف سخنيني، إذ إن تهديداتها للعصابات الصهيونية كي تتوقف عن إطلاق النار وارتكاب المجازر لم تكن جديّة أو حقيقية أبدًا.

في 16 نيسان/أبريل، بدأت الهاغاناه بتنفيذ ما عُرف حينها بالخطة "دالت"، إذا قامت القوات الصهيونية بإقتحام المدينة وتنظيف طريق الخروج إلى الجليل الأعلى، واستولت على القلعة العربية في مخرج المدنية الشمالي.

بعد هذه الأحداث، قامت السلطات البريطانية على استحياء بعرض مشروع على اليهود يتم من خلاله مبادلة سكان طبرية العرب باليهود القاطنين في صفد إلا أن قادة اليهود رفضوا الاقتراح رفضًا قاطعًا.

والتاريخ يُسجل أنه خلال هذه الفترة، كانت القوات العربية في حالة غياب تام عمّا يجري في المدينة، فلم يصل أحد من القادة العرب الذين كانوا يترأسون جيش الإنقاذ، لا فوزي القاوقجي ولا أديب الشيشكلي الذي كان قائد جيش الإنقاذ في شمال فلسطين، ولا طه الهاشمي رئيس اللجنة العسكرية التي شكلتها الجامعة العربية، ولا حتى الحاج أمين الحُسيني، ولم يرسَل أي رسول لإستطلاع ما يجري في المدينة.

في 17 نيسان/أبريل، كان هجوم العصابات الصهيونية ساحقًا مما جعلها تسيطر على المدينة وتبدأ في تهجير السكان العرب، وعلى إثر هذه المعطيات، بدأت السلطات البريطانية بالإعداد لتسليم المدينة لهم.

في اليوم التالي، بدأت عمليات ترحيل الفلسطينيين من بيوتهم، وقد ادّعت الصحف اليهودية حينها أن هذا الاخلاء قد تم بطلب من الوجهاء العرب في طبرية وأنها لم تجبر أحدًا على ترك منزله، وقد ساعدت السلطات البريطانية في عمليات التهجير حيث قامت بفرض حظر تجول في الساعات التي تم تجهيز الحافلات فيها لنقل الفلسطينين والتي سارت في اتجاهين، أغلبهم توجه نحو الأردن وتحديدًا مدينة إربد، وجزء منهم توجه نحو مدينة الناصرة، وفي الساعة السادسة والنصف وخمس دقائق من مساء ذلك اليوم، كانت طبرية قد أخليت بالكامل من سكانها العرب.

ما بعد الاحتلال

لم يكن مخطط العصابات الصهيونية يتوقف على طرد الفلسطينيين واحتلال المدينة، بل أن ممارساتهم التي أعقبت استلامهم للمدينة كان الهدف منها محو أي أثر للعرب فيها كي لا يُطالب أحد منهم بالعودة إليها مستقبلًا.

فقد تم هدم المدينة القديمة بكاملها، وفي تلك الفترة، كانت ملكية العرب من العقارات تبلغ 76,854 مترًا مربعًا معظمها في البلدة القديمة لطبرية، ولم توفر آلة الهدم الصهيونية مساكن اليهود القُدامي في البلدة أيضًا، فقامت بهدم ما يملكون من عقارات مقابل تعويضات تافهة، وذلك بحجة إعادة بناء المدينة على النمط الحديث لتستوعب المهاجرين اليهود الجدد الذين كان أغلبهم من أوروبا.

في العام 1955 أصدرت الحكومة قرارًا يقضي بمصادرة جميع العقارات في طبرية بما فيها ما كان يملكه اليهود، وعلى الرغم من الاحتجاجات التي قاموا بها، إلا أنه قد تم إجبارهم على دفع أجرة المنازل التي كانت لهم – ولم تعد – إلى الحكومة.

ذهبت أراضي العرب في طبرية والمقدرة بأكثر من 555 دونمًا إلى جمعية الاستعمار اليهودي والصندوق القومي اليهودي، وحارس أملاك الغائبين، ولم يعد أي فلسطيني إلى أرضه منذ ذلك التاريخ.

عمل عصام سخنيني نائبًا لمدير مركز الدراسات الفلسطينية، ودرّس لسنوات عدّة في جامعة البترا الخاصّة، له العديد من المؤلفات المتعلقة بتاريخ فلسطين منها: فلسطين الدولة: جذور المسألة في التاريخ الفلسطيني (مركز الأبحاث الفلسطيني)، والإسرائيليات: مكونات أسطورية في المعرفة التاريخية العربية (المؤسسة العربية للدراسات) حاز على جائزة جامعة فيلادلفيا لأحسن كتاب للعام 2006، والمستشرقون ومصطلحات التاريخ الإسلامي: تحليل ونقد (دار جرير).. وغيرها من المؤلفات.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: قبل الشتات.. التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 - 1948

مكتبة فلسطين: أرض أكثر وعرب أقل