19-يوليو-2020

كتاب اللد والرملة

تُعنى هذه الزاوية باستعادة كتاب من الكتب الفلسطينية، على اختلاف أنواعها، بهدف إعادته إلى حيز التداول من جديد، ذلك لأنّ الكتب لا تتقادم، ولأنّ معرفة فلسطين ضرورية في يومنا هذا أكثر من أي وقت آخر.


في 2006 صدر عن "الأهلية للنشر والتوزيع" ضمن سلسلة المدائن الفلسطينية كتاب المؤرخ محمد محمد حسن شرّاب بعنوان "اللد والرملة – توأمان لفلسطين خالدان"، وقد اشتمل الكتاب الذي جاء في ثلاثة فصول على سرد تاريخ المدينتين منذ الوجود العربي الكنعاني، مرورًا بكل الحضارات التي تعاقبت عليها، وصولًا إلى الحدث الأكبر في تاريخ فلسطين؛ النكبة.

ولا يأتي ذكر مدينة اللد إلاّ وترافقها الرملة، والعكس صحيح أيضًا. وفي الحكاية الشعبية التي يتداولها أهل هاتين المدينتين والتي تبين حجم التنافس والقرب بينهما، تبرز حكاية المئذنة التي حاول بعض من أهالي اللد سحبها من الرملة إلى مدينتهم حيث قاموا بربطها بحبل وحين سحبوه رأوا خيال المئذنة يميل نحو اللد فصاح أحدهم: "شد شد قرّبت الرملة ع اللد" وراحت مثلًا.

يرجح المؤرخون أن اللد حُررت من الروم على يد عمرو بن العاص قبل تحرير بيت المقدس، ويورد الطبري رسالة وجهها عمر بن الخطاب إلى أهالي "لُد" يعطيهم فيها الأمان على أنفسهم وأموالهم وأملاكهم في مقابل التزامهم بدفع الجزية. وحين تم تقسيم بلاد الشام إلى أجناد، تم اختيار اللد عاصمة لجند فلسطين التي كانت تضم جنوب فلسطين وجنوب الأردن.

أمّا الرملة، فيذكر شرّاب أنها تأسست على يد سليمان بن عبد الملك حين قرّر أن يختار مكانًا فسيحًا بعيدًا عن العمران ليكون فيه قصر الحُكم ومكان الإقامة، فوجد رملة بجوار اللد وبنى فيها وسميت لفترة طويلة بعدها "رملة لُدّ".

وللتاريخ أيضًا، نستعرض هنا أهمية هاتين المدينتين حين كانت فلسطين واقعة تحت الانتداب البريطاني، ومن بعدها مطامع العصابات الصهيونية في الاستيلاء عليها وتهجير أهلها وارتكاب أفظع المذابح بحقهم.

يذكر شرّاب أن موقع اللد الجغرافي في السهل الداخلي لفلسطين، ووقوعها على تقاطع للطرق الرئيسية أعطاها أهمية استراتيجية خلال فترة العثمانيين، مما دعا القيادة العامة للقوات العثمانية أن تختارها مركزًا لتجمع وانطلاق قواتها أثناء الحرب العالمية الأولى، وحين انهزم العثمانيون، لحقتهم القوات البريطانية واحتلت اللد والرملة في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1917، وقد اختار الجنرال اللنبي – القائد العام للجيوش البريطانية -  قرية بير سالم القريبة من اللد والرملة مقرًّا لقيادته.

في 1922، قامت حكومة الانتداب بتقسيم فلسطين إلى ست مناطق تحت مسمى لواء، وكان منها لواء اللد الذي ضم قضاء يافا وقضاء الرملة، وقامت بتعيين حاكم ومساعد لكل لواء كلاهما من بريطانيا.

أصبحت اللد في ذلك الوقت المدينة الأهم في فلسطين من حيث المواصلات، فأقيمت فيها محطة مركزية للقطارات تتجه لمختلف أنحاء البلاد ومدن أخرى خارج فلسطين. وفي 1934 قرّرت بريطانيا إنشاء مطار في فلسطين ووقع الاختيار على مدينة اللد، وتم إنشاء المطار شمالي المدينة وهو ما يُعرف اليوم بمطار "بن غوريون".

ينأى الكاتب بنفسه عن التجاذبات السياسية التي حدثت إبّان النكبة، فلا يلومُ طرفًا دونَ آخر، بل يعزو ما وصلت إليه الحالة في العام 1948 إلى كافة الظروف مُجتمعة، فبالنسبةِ لشرّاب، فإن القيادة الفلسطينية ومعها الزعامات العربية والسياسات الأجنبية هي كلها أدّت لهذا الضياع والتشرد، ويشدد على رفض كلمة "خيانة" طرف ما دون الآخر، فالكلُ مُلام والكل له دور فيما نحنُ فيه اليوم.

وفق قرار التقسيم الصادر عام 1947، كانت اللد والرملة من ضمن مناطق الدولة الفلسطينية المقترحة، ولمّا كانت أطماع القيادات الصهيونية لا تكتفي بما نص عليه قرار التقسيم، فكان لا بد من التحضير والتجهيز لما سوف يكون فور انسحاب القوات البريطانية وانتهاء فترة الانتداب.

لم تسقط اللد والرملة في فترة انسحاب القوات البريطانية، بل تم الاستيلاء عليها ما بعد قيام دولة "إسرائيل"، ويذكر شرّاب أنه في 11 تموز/يوليو من عام 1948 دخلت العصابات اليهودية اللد وتحديداً عند الساعة الرابعة بعد الظهر بعد اشتباكات كثيفة مع المدافعين عن المدنية، وأخذ أفرادها يخرجون السكان من بيوتهم وتجميعهم في ساحة الجامع الكبير وكنيسة الخضر، ومن شدّة الحر وقلّة مياه الشرب، فقد الكثيرون وعيهم، ومساءً أصدر الجنود أمرًا للنساء والأطفال بالعودة إلى منازلهم.

في ساعات الليل من ذات اليوم، بدأ جنود الاحتلال بعملية الطرد الممنهج للسكان، فقاموا بإجبارهم على ترك منازلهم قائلين لبعض الأهالي: اذهبوا إلى قريتي خروبة وبرفيليا جنوب شرق المدينة أو إلى رام الله.

تجددت المعارك بين المدافعين عن اللد والقوات الصهيونية في اليوم التالي، وكانت جثث الشهداء ملقاة في الأزقة والشوارع، ولم تتوقف أوامر الجنود الصهاينة لسكان المدينة بالرحيل، مترافقة بتهديدات بالقتل إن قرروا البقاء في الأحياء التي أبدت مقاومة.

وقد لجأ العديد من الأهالي إلى جامع دهمش خوفًا من جنود الاحتلال معتقدين أنهم لن يجرؤوا على اقتحامه، لكن ما حصل هو أنهم قاموا بذلك مخالفين كل الأعراف الانسانية والدينية وقتلوا كل من احتمى فيه، وكانت الحصيلة 176 شهيدًا في الجامع فقط من أصل 426 شهيداً سقطوا في ذلك اليوم.

وقد تحصّن عدد من المقاومين الفلسطينيين في مركز الشرطة وحاولت القوات الصهيونية اقتحامه، وحين فشلت في ذلك، أجبرت عددًا من وجهاء المدينة للذهاب إليهم ومفاوضتهم للاستسلام، فكان رد المقاومين أن أطلقوا النار عليهم فقتلوا منهم مبروك حسونة وأصابوا القاضي الشرعي الشيخ طاهر حمّاد بجروح بالغة. وحين أيقن الصهاينة من فشل هذه المحاولة، جمعوا عددا من النساء والأطفال وأجلسوهم مقابل مركز الشرطة واستخدموهم كدروع بشرية وقصفوا المبنى من فوق رؤوسهم، وحين اقتحم الجنود المبنى بعد ظهر الثالث عشر من تموز/يوليو وجدوه خاليًا، وتحول هدفهم إلى إخلاء المدينة من سكانها.

 72 ساعة كانت كافية لاحتلال اللد وتهجير أهلها، فبعيد انسحاب الجيش الأردني منها، انتشر جنود العصابات الصهيونية داخل المدينة واعتقلوا كل من هم في سن الجندية وفصلوهم عن عائلاتهم، وشهدت المدينة نقصًا في المواد الغذائية والأدوية، وأجبروا على الرحيل مشيًا وفوق رؤوسهم زخات الرصاص من المحتلين.

في نهاية ذلك اليوم، لم يبق من سكّان اللد البالغ عددهم أكثر من خمسين ألفًا بما فيهم الذين لجؤوا إليها بعد الخامس عشر من أيار/مايو سوى حوالي 1000 شخص سكنوا منطقة الجامع الكبير والكنيسة وقد استغلت قوات الاحتلال بعضًا منهم لتشغيل محطة القطارات وقيادتها لتعزيز التموين والذخائر لجيشهم.

وعلى الرغم من وقوع مدينتي اللد والرملة ضمن الدولة الفلسطينية المقترحة في قرار التقسيم الصادر عام 1947 كما ذكرنا سالفًا، إلّا أن التاريخ يذكر أن الاستيلاء عليهما واحتلالهما كان ضمن خطط القيادات الصهيونية لما تتمتعان به من موقع استراتيجي، ويذكر بيني موريس ما يلي: إذا كنا سنحكم على أعمال الجيش الإسرائيلي بتاريخ 13/7/1948 فإن نزوح سكان اللد كان طردًا ممنهجاً وليس نزوحًا اختياريًا.

وينقل شرّاب عن أسبير منير صاحب كتاب "اللد في عهدي الانتداب والاحتلال" واقع الذين بقوا في اللد بعد هذا التاريخ، ويشير إلى أنهم بعد انتهاء حملة التهجير، قاموا بتفقد بعضهم بعضًا لمعرفة من بقي ومن تهجّر، وحيث إنهم كانوا يقيمون في منطقة الجامع الكبير والكنيسة والمستشفى، قام جنود الاحتلال حينها بوضع سلك شائك وبوابة يحرسها عدد من الجنود المسلحين لمنعهم من الخروج من تلك المنطقة.

ولأجل تدبير الأمر، قام من تبقى من أهل المدينة بتشكيل لجنة لتمثيلهم أمام الحاكم العسكري للمدينة، ووزعت الأعمال الضرورية على من هو قادر عليها مثل التمريض والنظافة العامّة والتموين.

ومما يذكره أيضًا، أنه في 16/7/1948 جاء ضابط صهيوني وجمع الرجال المتواجدين ضمن المنطقة المحاطة بالأسلاك الشائكة وأمرهم أن يقوموا بجمع الجثث المبعثرة في المدينة، وتنظيف بيتين من بيوت أهالي اللد لتصبح مقرًا للقيادة العسكرية فيها.

أمّا الرملة، فجاء احتلالها سريعًا بعد كل الأحداث التي وقعت في اللد، وعلى الرغم أنّ البريطانيين قد انسحبوا منهما بتاريخ 14/05/1948 ومحاولات الأهالي التجهيز والتحضير لمقاومة الصهاينة، إلا أن ما حدث خلال الشهرين اللاحقين أعطى قوات الاحتلال الميزة والتفوق على كل جهود المقاومة.

تم محاصرة الرملة من جميع الجهات بتاريخ 12/07/1948 بعد الاستيلاء على جميع القرى المحيطة بها، وكما يذكر شرّاب، أن قوات الاحتلال كانت قد جهزّت حافلات وناقلات جنود لنقل أهالي الرملة إلى قرية القباب القريبة من اللطرون التي كانت بأيدي الجيش الأردني وتم إخلاؤها في اليوم التالي.

من أصل سبعة عشر ألفًا تعداد سكان الرملة قبل ذلك التاريخ، بقي منهم حوالي أربعمائة شخص، ارتفع إلى 1550 شخصًا في نهاية العام بسبب عودة بعض أفراد الأسر التي تفرق أبنائها في تموز/يوليو من نفس العام.

ويشرح شرّاب ما حدث قبل ذلك اليوم حيث بدأت قوات الاحتلال بالسيطرة على القرى المجاورة للرملة واللد وحاصرتها، وكانت القوات المدافعة عن المدينتين تتألف من المقاومين الفلسطينيين وسرية تابعة للجيش الأردني قوامها 75 جندي، أمّا الجيوش العربية الأخرى كالمصري والعراقي فكان تمركزهم في مناطق أخرى.

فور أن سيطر جيش الاحتلال على اللد، توجهوا نحو الرملة، بقوة تتألف من أربعة مصفحات مسلحة بالمدافع الرشاشة فقام المدافعون بالتصدي لهم وأجبروهم على التراجع. في اليوم التالي وصلت تعزيزات كبيرة لجيش الاحتلال وشنوا هجومًا كبيرًا على المدينة، فانسحب الجيش الأردني وتم حصار المدينة من جميع الجهات، وما هي الا ساعات حتى تم اقتحامها.

ويروي شرّاب نقلًا عن اسماعيل النحاس، عضو اللجنة القومية في الرملة وشاهد عيان على سقوط المدينة، أنه وبعد حصار المدينة وتجنبًا لسفك دماء أهلها، توجه وفد من وجهاء المدينة للاتفاق مع جيش الاحتلال لتسليم المدينة، وفي تفاصيل الاتفاقية التي تم توقيعها أن أهل الرملة اشترطوا على الجيش أن لا يقوموا بعمليات نهب وتخريب، ولا يقوموا بمساءلة أي مواطن حمل السلاح دفاعًا عن المدنية، وأن لا يعتقلوا أحدًا من أهلها. ويكمل النحاس روايته فيقول أن الوفد نسي أن يحتفظ بنسخة من الاتفاقية، وفور عودتهم إلى الرملة، تفاجأوا بأن كل ما تم الاتفاق عليه لا يعدو عن كونه أوهامًا، وأن الجيش احتل المدينة بالفعل وقام بالطلب من سكانها الخروج مشيًا إلى أي مكان آخر، فما كان منهم إلا رفض ذلك مطالبين بوسائط نقل تحملهم إلى آخر نقطة يمكن أن تصل إليها السيارات.

لقد كانت الرملة آخر مدينة احتلّها الصهاينة، وعلى الرغم من وجود الجيوش العربية في فلسطين آنذاك، إلا أنها لم تكن لتفعل شيئًا أمام التجهيزات التي كانوا يملكونها. وكما يذكر شرّاب في نهاية كتابه أن اليهود كانوا يخططون لكل هذا منذ وعد بلفور، بينما العرب لم يستوعبوا ما حدث إلاّ حين صدر قرار التقسيم عام 1947، وحتى حينها، كان العرب يأملون بأن تنتهي المسألة الفلسطينية دون تدخلهم، لا سيّما أنهم جميعًا وقفوا مع بريطانيا في الحرب العالمية الثانية، وكانت نتيجة هذا التغافل العربي وتشتت القيادات الفلسطينية، ضياع فلسطين.

محمد محمد حسن شراب من مواليد خان يونس عام 1938، درس في الأزهر وجامعة دمشق، وحاز على شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية من القاهرة، له أكثر من أربعين مؤلفًا مختلفًا في التاريخ والدين الإسلامي، وصدرت له ضمن سلسلة المدائن الفلسطينية 7 كتب تناولت كل من حيفا، الخليل، الناصرة، عكا، غزّة، القدس واللد والرملة، توفي عام 2013 في دمشق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فلسطين: قبل الشتات.. التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 - 1948

مكتبة فلسطين: أرض أكثر وعرب أقل