02-سبتمبر-2019

المخرج والروائي فجر يعقوب

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فجر يعقوب مخرج وروائي ومترجم من فلسطين ـ سوريا. من أفلامه "البطريق" و"السيدة المجهولة". ومن رواياته "شامة على رقبة الطائر" و"نوتة الظلام".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كنت أفكر في طفولتي كيف يمكنني أن أسطو على مكتبة خالي لأتشبَّه به. كان مثقفًا واسع الاطلاع، وكانت تغريني هيئته، وطريقة جلوسه، وحركات يديه، فيما هو يطالع كتبه، ويدخل في نقاشات حادة ومستفيضة مع مجايليه، ومن هم أكبر منه سنًا.

لقد استنتجت مبكرًا أنه كان يملك سلطة عاتية من خلال قراءة الكتب تجعله في موقع المهيمن. أردت تقليده، وحدث أن أول كتاب سرقته من مكتبته كان رواية بعنوان "على الشواطئ البعيدة" للكاتب "السوفييتي" يوري بونداريف، وتتحدث عن "سنوات الحرب الوطنية العظمى". اكتشفت من خلالها حلاوة السرد الأدبي، فقمت بكتابة رواية على نسق الكتاب نفسه، وبقيت محتفظًا بها فترة لا بأس بها باعتبارها أول عمل أدبي لي.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيراً في حياتك؟

هناك كتب كثيرة بالطبع، لكن كتاب "مجرة غوتنبرغ" للعالم الكندي مارشال ماكلوهان دفعني لأن أفكر به مطولًا. أعتقد أن فلسفة العصر الحديث بأكمله، العصر الذي نعيش فيه الآن، قد كشف عنها هذا الكتاب بما يشبه النبوءة التي تحمل إشارات كثيرة عن لعنات المجتمع الاتصالي الشامل الذي نعيش على وقعه الآن.

قد يمكن الجزم في مكان ما أن هذا الكتاب الذي صدر في ستينيات القرن الماضي يحمل تشخيصًا كونيًا لحالات خاصة جداَ ساهمت في خلق الصورة المشوهة التي ينبني عليها الإنسان الحديث بكامل أمراضه وسلوكياته المدقعة في الفقر العاطفي والإنساني من خلال أدوات السِفَاح الالكتروني المعاصرة التي ستتعاقب عليها أجيال كثيرة لأوقات طويلة.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

يمكن أن أقول بكل ثقة: الروائي الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي. أول رواية قرأتها له كانت بطبيعة الحال "الجريمة والعقاب" في طبعة تجارية هزيلة، لكنني لم أقف عندها عندما بدأت أكتشف عوالمه تباعًا من خلال رواياته الأخرى بالترجمات الرائعة للأديب السوري سامي الدروبي.

حتى تلك اللحظة التي اكتشفت فيها عظمة "روائي الروائيين" عبر العصور كنت أستفيض بقراءة الروايات المنشورة في الطبعات التجارية المتوفرة بين يدي، ولم أوفر في طريقي روايات أجاثا كريستي، وقصص الألغاز التي كانت تهل علينا من مصر. كيف أنسى شخصيات مثل تختخ ونوسة ولوزة ومحب وعاطف والمفتش سامي وهي قد أسهمت في تكويني بالرغم من هشاشة هذه الشخصيات وضآلة تركيباتها الأدبية واللغوية والنفسية إذا ما قورنت بشخصيات مثل راسكولينكوف أو ميشكين أو أليوشا.

كان دوستويفسكي بمثابة اكتشافي المعجزة، وما زال يقودني في ظلمات النفس الإنسانية ومعازلها البكر، التي تغذّى منها علماء النفس الكبار في أوقات لاحقة وفي كل مرة أقبل على قرءاته وأكتشف ما لم يكتشف فيه من قبل. كل شيء عنده كما يقول جيل دولوز يبدأ من التفاصيل الصغيرة، وشخصياته بشكل عام مضطربة حتى في حالات الحياة والموت الطارئة، ويمكن القول إنه يشاركنا مصدر كل قلق نشعر به في حيواتنا المقبلة.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

لا أشغل نفسي أبدًا بكتابة ملاحظات من أي نوع. لا أعتقد أن وظيفتي كقارئ القيام بذلك. أعرف صديقًا كان مهووسًا بتسجيل الملاحظات على هوامش الكتب التي يقرأها، ولم ألتق شخصية قارئة مثله. ربما كان فأر كتب ضخمًا، لكنه ضيّع موهبته كقارئ فذّْ في تعقب أخطاء الآخرين، التي قد تبدو له كذلك، وعندما تشاجرنا مرة لشأن ما أعاد لي كتبي التي أهديته إياها، وقد قضى وقتًا طويلًا يمسح ملاحظاته عنها قبل إعادتها. بدا هذا واضحًا لي حين قلبت صفحاتها على عجل. برأيي لا يمكن إقامة علاقة مع كتاب عن طريق ملاحظات وخطوط ملتبسة في أحيان كثيرة، تفقد صلاحيتها أو جاذبيتها حين الانتهاء منه. أؤمن فقط بالحيّز الذي يشغله الكتاب في دماغي، وما دون ذلك سأنساه.

  • هل تغيَّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الالكتروني؟

لم تتغيّر جذريًا، لكن الذي تغيّر هو الشرط في قبول الكتاب الرقمي أو عدم قبوله. كنت أعتقد حتى فترة قريبة نسبيًا أن نوع الاستقرار الذي حصلنا عليه مع التقدم في العمر كان يسمح "بتربية" الكتب على حيطان المنزل، ولكن مع أول اختبار حقيقي بضياع الملاذ الذي شاغلناه فترة لا بأس بها صار لزامًا علينا النظر إلى إمكانية مشاركة هذه الكتب لفكرة أنها "قيد التحقق"، وليست مستقرة في أي مكان، أي أنها قابلة لإعادة التدوير بحكم الظروف التي مررنا فيها، وأقصد اندلاع الحرب في سوريا، وخروجنا من مخيم اليرموك. هنا فقدنا الشرط الذي استوجبه الاستقرار النسبي الذي حققناه كفلسطينيين – سوريين، وصار ملحًا البحث من الآن فصاعدًا عن وسائل تربية رقمية يمكن أن تخفف قليلًا أو كثيرًا من لوعة الفقد. كيف يمكن أن تربي مخلوقًا ثم تفقده ولا تتألم؟!

الآن صرت أميل إلى المكتبة الرقمية التي لا يمكن فقدانها حتى في حرب عالمية ثالثة، وقد ودعت مظاهر الاحتفاء بالورق؟!

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

كانت مكتبة متواضعة منتقاة من البلدان التي أزورها، وكان لدي شعار صارم بخصوص الكتب التي أقتنيها، فقد كنت أرفض إعارة أي كتاب منها حتى تحت طائلة فقدان الأصدقاء، وحدث أنني فقدت بعضها بعد امتناعي عن الإعارة، وهي كانت برأيي مقامرة من النوع السهل على نطاق ضيق، والذي حدث لاحقًا حين فقدت بيتي ومكتبتي في الحرب أن نوع المقامرة قد توسع وصار أعقد مما نتصور من دون أن نفقد أيًا من الأصدقاء، اللهم إلا أولئك الذين اختطفتهم الحرب ذاتها، وصديقي القارئ الفذّ واحد منهم.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

لا أخفي أنني أقرأ بطريقة مشتتة في هذه الآونة. أعود من جديد لقراءة رواية "الأخوة كارامازوف" لفيودور دوستويفسكي، ثم أقفز لكتاب "الغرفة المضيئة – تأملات في الفوتوغرافيا" لرولان بارت، ثم كتاب "بحوث في الرواية الجديدة" لميشيل بوتور. لا أعرف تفسيرًا منطقيًا للحالة التي أمر بها. ربما بسبب السيل الرقمي في إمكانية العثور على هذه الكتب وتحميلها بيسر غير مسبوق، ولكن أعتقد أن سنوات اللجوء قد فعلت فعلها فيّ، وتحتم عليَّ أن أعود من البوابة ذاتها التي دلفت منها إلى هذا العالم. كم إن العالم بارد ومظلم وعلى درجة عالية من القسوة، والامتثال الأعمى الذي يهددنا في أرواحنا كإخوة في الإنسانية يعلو ويزيد بين البشر، وسنصحو يومًا، ونكتشف أن الرصيف الذي نمشي عليه جميعًا في سبيل احترام النظام العام ليس إلا من تجليات هذا الامتثال المبتذل الذي لن يمكننا أن نتحرر منه بسهوله، وقد يتطلب الأمر ثورة في السلوك لن تتحقق أبدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة غطفان غنوم

مكتبة زياد خداش