17-ديسمبر-2018

الشاعرة فاتنة الغرة

فريق التحرير – ألترا صوت

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


فاتنة الغرة شاعرة فلسطينية، مقيمة ببلجيكا. صدر لها شعرًا: "ما زال بحر بيننا" 2000، "امرأة مشاغبة جداً" 2003، "إلّاي" 2010، "خيانات الرَّب.. سيناريوهات متعددة" 2011. تحصلت الشاعرة على عدة جوائز أهمّها "جائزة شعر مدينة فيوميشينو" بروما، في فئة أفضل كتاب شعري مترجم من العربية إلى الإيطالية، وهي مجموعة مختارة من قصائد كتابيها "إلاي" الصادر باللغتين الاسبانية والعربية، و"خيانات الرب". ترجمت قصائدها إلى لغات عديدة منها الإيطالية، الاسبانية، الهولندية والفرنسية. آخر أعمالها الشعرية مجموعة بعنوان "ثقوب واسعة".


  • ما الذي جاء بكِ إلى عالم الكتب؟

لا أستطيع أن أحدد على وجه الدقة، ولكني أذكر كيف كنت أنجذب إلى الكلمة منذ طفولتي وبرغم أني نشأت في بيت من الذكور الذين يعمل أغلبهم في المقاولات والبناء، فلا وجود للكتاب أو الحرف فيه إلا أنني كنت أذهب دائمًا إلى كتب النصوص والقراءة المقررة على إخوتي الأكبر مني سنًا والتهامها، كان هناك عالم ما يشدني بطريقة ساحرة لأدخله، قد تكون حواديت أمي التي تعودت على سماعها كل ليلة حينما كانت ترقد جوارنا قبل النور ونحن مصطفون نيامًا على الأرض، صوتها ذو الإيقاع الرتيب الممتلئ حنانًا ومحبة، طريقتها في روية الحواديت واللعب على المفردات ونبرات الصوت، ربما يكون هو ذلك أول ما جذبني إلى الكتاب وجعلني فيما بعد أشتري بمصروفي ما تيسر من كتب الألغاز والمغامرات مثل "المغامرين الخمسة" و"مجلة ميكي وبطوط"، وفيما بعد "رجل المستحيل" و"ملف المستقبل" للدكتور نبيل فاروق، ولم أكن أترك قصاصة ورق من جريدة فيها جملة أدبية أو قصة أو شعر تمر من أمامي دون أن أقرأها حتى لو كانت ملفوفة بقرطاس فلافل. وأذكر أن أمي دائمًا ما كانت تخاف عليّ من القراءة لأن الشائع أنها تضعف النظر، وهذا يعني أن البنت الوحيدة التي لديها سوف تلبس نظارة نظر ستقلل حتمًا من فرصها في الزواج، كونها علامة قبح تنزل من قيمتها لدى الراغبين، لذا كنت أخبئ الكتب تحت بلوزتي وأذهب للحمام الذي كنت أختبئ فيه أحيانًا بالساعة، إلى أن ينتبهوا لغيابي وأنا غارقة في عوالم لا تشبه العالم الذي أعيش فيه، ولم أشعر أني أنتمي إليه.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتكِ؟

لا يوجد كتاب بعينه، لأن التأثير يأتي من الصغر، وكما أسلفت أنه لم تكن لدينا مكتبة كي يكون فيها كتاب معين يؤثر بي، إلا أنني أذكر قصة مرت بي حينما كنت طفلة، ولا أذكر على وجه التحديد في أي سنة دراسية كان هذا، قصة "البنفسجة الطموح" لجبران، والتي تحكي عن بنفسجة كانت تعيش مع قريناتها ملتصقة بالأرض وترنو في الوقت ذاته للورد الباسق في السماء متسائلة دومًا عن العالم الذي يراه هذا الورد والذي لن يمكنها رؤيته، إلى أن طلبت ذات يوم من الحديقة أن تحولها إلى وردة، وبرغم تحذيرات الحديقة لها أصرت على تحقيق حلمها وجاءت عاصفة ذلك النهار لتكسر سيقان كل النباتات الطويلة في الحديقة ويبقى البنفسج آمنًا في مكانه لصق الأرض، وحينما لامتها قريناتها السابقات قالت لهن وهي تحتضر بأن هذه اللحظات التي عاشتها وهي ترى العالم الذي لم تتخيل وجوده لهي أثمن عندها من كل الحياة الطويلة التي يعيشها البنفسج آمنًا. وأظن لو أردت أن أتحدث عن أكثر كتابة أثّرت في وجداني وشكّلته فلن أجد مثالًا غير هذه القصة، أما فيما بعد حينما انفتحت على عالم الكتاب الواسع كان هنا الكثير ممن فتنت بأعمال لهم لكنني لا أذكر أن هناك كتابًا بعينه هو من أثر بي، إنما هو مجموع ما تلقيت من معرفة، لكنك لو سألتني عن أكثر كتاب كنت أتمنى لو كتبته فسأقول بلا تردد "تقرير إلى غريكو" للروائي اليوناني نيكولاس كازانتراكي. أظن أن هذا الكتاب الذي أعود إليه دائما لأستمتع أو أكتشف شيئًا جديدًا لم أره في المرات السابقة، لكن الإعجاب بكتاب أو وضعه ضمن قائمة الكتب المفضلة فهي قائمة تطول وتشمل كتّابًا من كل الثقافات، لكن ما أنا على يقين منه أن كتب الدين والتراث والأساطير والحكايات الشعبية مثل القرآن والتوراة وملحمة جلجامش وألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة... هي من الكتب التي أعود إلى قراءتها دائمًا مثل قصة متجددة لا تنتهي.

  • من هو كاتبكِ المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

كما قلت في الإجابة السابقة أنه لا يوجد اسم بعينه لكن هناك مجموعة أسماء وربما طرق في الكتابة هي ما أفضلها، يعنيني الكاتب الذي يقدم لي المعرفة غير مجردة بل مغلفة بالإحساس، تعنيني الكتابة الصادقة التي تلامس قلبي ووعيي، الكاتب الذي يستطيع أن يفتح عندي مناطق للسؤال لم أكن دخلتها من قبل. عالم الكتاب واسع جدًا وكلما دخلت منطقة جديدة فيه كلما عرفت أنني لم أعرف شيئًا بعد، قد أحدّثك عن تفضيلي في الشعر لامرئ القيس وذي الرمة والمعري مثلًا، أو أحدّثك عن بيسوا ورامبو وبودلير ولوركا وإميلي ديكنسون أو سيلفيا بلاث... وفي الرواية يمكنني ذكر مكسيم جوركي وجورجي أمادو وكونديرا وإيزابيل الليندي ونجيب محفوظ وفؤاد التكرلي وسليم بركات وغيرهم. وأعود إلى كازانتراكي مجددًا ودائمًا فهناك صلة خاصة أشعر أنها تربطني بكتبه وقد يعود هذا للتكوين الديني لديه والذي يتقاطع معي.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

كنت أتمنى أن أفعل هذا، ولا أنكر أني أشعر بالحسد من الذين يدونون ما يعجبهم ويكتبون ملاحظات، بل يحفظون مقاطع من كتب بعينها ويسردونها في أحاديثهم أو في كتاباتهم، وكثيرًا ما أشعر بالجهل أمام هذا وأقف متسائلة بغيظ عن كل ما قرأته في حياتي ولم لا يحتفظ عقلي إلا بالقليل جدًا منه! وأظن أن هذا يعود إلى أن لي ذاكرة هاضمة لما تتلقى وليست ذاكرة حافظة، وبالتالي تسقط الكثير من الأسماء منها سواء للكتب التي قرأتها أو للمؤلفين، حتى أني قد أذكر موقفًا أو حدثًا في كتاب دون أن أستطيع التكهن باسم الكتاب أو كاتبه وهو أمر يثير غيظي دائمًا، وقد حاولت مرارًا وتكرارًا أن أدون ملاحظات، لكن كل ما استطعت فعله هو أنني وحينما أقف أمام جملة في كتاب أطوي الصفحة ثنية صغيرة كي أعود إليها بعد ذلك، إلا أنها طريقة أثبتت فشلها معي على الدوام، رغم أنها أفادتني بعض الأحيان حين كنت أعود إلى الصفحة بعد فترة وأقلّبها ولا أجد فيها ما يعجبني، فأنتبه إلى أن ذائقتي قد تغيّرت إلى الحد الذي لم أعد أتعرف فيه على ما أعجبني هنا سابقًا.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

بالتأكيد، فأنت في النهاية أمام تطور يجب عليك مواكبته شئت ذلك أم أبيت، ولهذا التغير شقّان أحدهما إيجابي والآخر سلبي، فالشق الإيجابي هو أنني تمكنت من قراءة العديد من الكتب التي لم يكن بمقدوري الحصول عليها ورقيًا، إما لكونها غير متوفرة في المكتبات أو لكونها غالية الثمن، أو لأنها ببساطة كتب تراثية لم تعد متداولة، كما أنه فتح الباب أمامي على العديد من الثقافات الأخرى والكتّاب الآخرين الذين قرأت لهم أول ما قرأت كان كتابًا إلكترونيًا، لكن الجانب السلبي في الموضوع هو افتقادي للكتاب بكينونته التي أحمل ذاكرتها، رائحة الورق الذي أشمها حين أقترب من الكتاب، ملمس الورق الناعم أو الخشن الذي يشكل علاقتي معه، لونه الذي قد يأخذني إلى عوالمه بانسيابية أو قد ينفرني منه، خاصة أن علاقتي مع الكتاب الورقي لديها كيمياء ليس لها مواصفات تضبطها، وقد حدث أني اشتريت كتابًا يومًا من سور الأزبكية بالقاهرة -في إحدى زياراتي- حينما ناداني هذا الكتاب، بأوراقه التي كانت ما تزال دفاتر غير مقصوصة وحجمه الضخم الذي ينبئ بأيام وأسابيع طويلة من القراءة، وشكله الذي جاء بلا غلاف وورقه الأصفر الخشن الذي كان له ملمس مدغدغ للمشاعر، وعلى الرغم من أنني لم أكن قد سمعت سابقًا لا باسم الكتاب أو بصاحبه إلا أنني كنت مدفوعة لشرائه، وحينما عدت إلى غزّة وضعته في المكتبة إلى أن أنهيت قراءة كل الكتب التي استعرتها من أصدقائي، والتفتّ إلى مكتبتي لتقع عيني عليه مجددًا ولأجد نفسي أمسك المقص وافض بيدي دفاتره واحدًا وراء الآخر، وأبدأ في قراءة إحدى التحف النفية في عالم الكتابة، والتي مازالت إلى الآن لها نفس المكانة في قلبي، وكان كتاب "الدرويش والموت"، للكاتب البوسني ميشا سلموفيتش، عالمًا من السحر الخالص والجمال المقطر.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

أي واحدة؟ مكتبتي التي تركتها ورائي في غزّة، والتي كانت تحتوي أكثر من ألف كتاب لا أعرف على نحو الدقة كيف جمعتها، ابتدأتها بكتب الأديان والتاريخ التي كان لها النصيب الأكبر بحكم دراستي وقتها، والشعر والروايات التي كانت أقل عددًا بحكم عدم توفرها في المكتبات في غزة، مكتبتي التي تركتها بلا راعٍ خلفي حين رحلت من عشر سنين مضت ولم أستطع إلا أخذ بضعة كتب منها كان أقربها إلى قلبي رواية "الدرويش والموت". أم أحدثك عن المكتبة التي جمعتها في القاهرة خلال إقامتي هناك لمدة عام بعد رحيلي من غزة، وهي التي ابتدأت بتجميعها من سور الأزبكية وبعض المكتبات، حينما ظننت أنني سأقيم في القاهرة إلى ما شاء الله، وفقدتها بما فيها حينما رحلت عن القاهرة. أم أحدثك عن مكتبتي التي ابتدأ تجميعها الحقيقي لها حينما أصبح لي بيت في بلجيكا وأحسست أنه بيتي، واقتنيت فيه الكتب التي استطعت شراءها من معارض الكتاب التي زرتها مؤخرًا؟ الحديث عن مكتبتي له وجع يَخِزني في كثير من الأحيان وأنا أنظر إلى الكتب وأرتبها وفي داخلي أسئلة كثيرة حولها، وحول بقائي حولها وبقائها حولي، ما أستطيع قوله إنني أينما ذهبت وأقمت كان لا بد لي من وجود مكتبة في بيتي أو غرفتي وكأنها المعادل الموضوعي للوطن عندي.

  • ما الكتاب الذي تقرئينه في الوقت الحالي؟

في الحقيقة، أتنقل بين أكثر من كتاب، أولها "نشأة النظام الأبوي" لغيردا ليرنر، و"بحثًا عن الشمس، مولانا جلال الدين الرومي وشيخه شمس تبريز" الذي ألّفه بالفارسية عطاء الله تدين، وربما لا يجوز هذا في عالم القراءة أن أتنقل بين أكثر من كتاب، لكنني أحسها الطريقة الأمثل لي للعودة إلى الكتاب بروح جديدة وطاقة أكبر تعينني على تحصيل المعرفة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة أحمد قطليش

مكتبة رشا عدلي