15-مارس-2021

المترجم والناشر سامح خلف

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


سامح خلف مترجم وناشر من سوريا، ترجم العديد من الكتب في الأدب والعلوم التطبيقية، بدأ مؤخرًا بالترجمة من السويدية إلى العربية حيث ترجم عددًا من الأعمال الكلاسيكية مثل "إمبراطور البرتغال" لسلمى لاغرلوف، و"دكتور غلاس" لهيلمار سودربرغ، و"سارة وألبرت" لكارل ألمكفيست. مؤسس ومدير دار سامح للنشر في السويد.


·      ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

لا أعرف بالتحديد ما الذي جاء بي إلى عالم الكتب، لكنني أعرف جيدًا أنني كنت أحب القراءة منذ البداية وفي وقت مبكر جدًا. بدأ شغف القراءة مع قراءة مجلات الأطفال المصوّرة، بالتحديد "ميكي" و"سمير" و"سوبرمان" وهي مجلات مصرية أو معرَّبة كانت تصدر في مصر وتوزّع في سوريا. أذكر جيدًا أنني كنت أعاني من عدم فهم بعض المفردات، مثل "حاسب!" وغيرها من مفردات العاميّة المصرية التي لم تكن معروفة لدينا آنذاك، حيث لم يكن التلفزيون شائعًا جدًا ولم تكن الأفلام المصرية قد انتشرت على نطاق عربي واسع، كما سيحدث لاحقًا. كنا نستعير تلك المجلات مقابل قروش قليلة من مكتبة تحت أرضية تقع في شارع القوتلي باتجاه ساحة سعد الله الجابري في حلب. ألهبت تلك المجلات خيالي، خاصة مجلة "سوبرمان" التي أصابتني بهوس الحلم بالطيران، فلازمني الطيران في منامي حتى وقت قريب، ثمّ اختفى أخيرًا. ثمّ "تطوّر" مستوى القراءة قليلًا حين تعرّفت إلى سلسلة الروايات البوليسية "اللص الظريف أرسين لوبين"، وهي روايات قصيرة مشوقة ومترجمة عن الفرنسية بطلها لص مرح وذكي. كانت تلك هي الكتب "الحقيقية" الأولى التي قرأتها في مرحلة الصبا. أمّا أول مكتبة حقيقية رأيتها فكانت لأحد أقارب والدتي. وكان رحمه الله رجلًا فقيهًا وعالمًا أمضى الشطر الأكبر من حياته إمّا في السجن أو فارًا متخفيًا بسبب نشاطه في حزب التحرير الإسلامي. كانت لديه مكتبة تغطي جدارًا كاملًا من جدران غرفة الجلوس في بيته، وكانت جميع محتويات تلك المكتبة عبارة عن مجلدات أنيقة معظمها باللونين البني والأخضر القاتم، وأقدِّر الآن أن محتويات تلك المكتبة كانت في معظمها من كتب الفقه والتاريخ واللغة، أو ما نسمّيه أمهات الكتب.

إضافة إلى مكتبته التي أسرتْ خيالي، باعتبارها أول مكتبة أراها كما أسلفت، أستذكرُ الخال الشيخ مصطفى لسببين اثنين، أولهما سبب لطيف وهو دماثته وجمال خَلقه وخُلقه. أمّا ثاني الأسباب فليس لطيفًا على الإطلاق؛ ومفاده أنني كنت في الحادية عشرة من عمري حين توقفتْ أمام بيتنا في ريف الرقة سيارة هبط منها ثلاثة أو أربعة رجال. لم يكن والدي موجودًا فتحدث أحد الرجال إلى والدتي وانشغل غيره بالتجوال حول البيت، في حين أخذني أحدهم جانبًا بمنتهى اللطف وسألني عن اسمي وأشياء أخرى، ثم سألني عن الخال مصطفى إن كان موجودًا لدينا. أجبتُ بالنفي وكنتُ صادقًا، لكنه ألحّ بالسؤال. وحين لم تتغير إجابتي فاجأني بصفعة شديدة ترنّحتُ من وقعها، ثمّ أتبعها بشتيمة وتركني ومضى. كان هؤلاء، كما بدأت أدرك لاحقًا، دورية مخابرات وكان ذلك هو لقاء التعارف الأول بيني وبين "السُلطة". يا لها من طفولة سعيدة!

دخلتُ لاحقًا عالم الكتب، بالمعنى الفعلي والعملي، من الباب المهني حيث عملتُ لسنوات طويلة كمصمم غرافيك، ثم كمترجم في الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت، وهي مدرسة حقيقية في إنتاج الكتب ونشرها ابتداءً من فكرة الكتاب، وصولًا إلى أدق التفاصيل التقنية التي تحوّل الفكرة إلى كتاب حيّ، نابض وملموس.

·      ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

بعد مرحلة مجلات الأطفال وأرسين لوبين وما شابه، وفي نهاية المراهقة ومطلع الشباب، بدأت أقرأ الكتب كيفما اتفق فكنت أخبط خبط عشواء، كما يقال، من دون دليل أو منهج. في تلك الفترة وقع بين يدي مصادفة كتاب "نقد الفكر الديني" للراحل صادق جلال العظم، ويا لها من وقعة.

لم أكن بالطبع على قدر من الوعي والإدراك الذي يؤهلني لفهم موضوع الكتاب فهمًا معقولًا، ولم أدرك الأبعاد التي رمى إليها المؤلف انطلاقًا من منهجه الفكري. لكنني قرأت الكتاب، على الرغم من ذلك، فسببت لي قراءته ارتجاجًا داخليًا عنيفًا خلخل ثوابتي بسبب ما بدا لي تماسكًا في المنطق وعرض الفكرة. لكن الفصل المذهل في الكتاب كان "مأساة إبليس". نعم إبليس الذي قدّمه المؤلف- أو هكذا فهمت على الأقل- بصورة أخرى غير التي أعرفها ويعرفها الجميع. صورة إيجابية بطريقة ما. كانت حصيلة قراءة ذلك الكتاب سيئة في وقتها وتشبه الشعور بالذنب الناجم عن التلصص على عورة ما كانت تنبغي رؤيتها. هذا على الرغم من أنني لم أنشأ في بيئة متدينة بشكل خاص. كان التدين في ذلك الوقت- قبل الفورة أو الصحوة الإسلامية- طبيعيًا وبسيطًا وهو شأن الأهل يؤدون واجباته بعفوية ومن دون تزمّت وتعقيد.

لم أدرك فائدة تلك القراءة سوى في وقت لاحق بعد أن هدأت عاصفة الارتباك التي أثارها في داخلي. فقد فتح ذلك الكتاب كوّة في وعيي أدركتُ من خلالها أن ثمة قول آخر ورأي آخر في كل شيء، وأن كلّ شيء قابل للبحث، وأن الكتب فيها ما يسرّ وما لا يسرّ، وأنها عالم مزدحم بكل شيء- وليس المتعة والتسلية فحسب- وما على القارئ إلا أن يكون مقدامًا، واسع القلب والعقل.

بالطبع هناك عدد آخر من الكتب التي لا تُنسى بالنسبة لي أذكر منها ثلاثية نجيب محفوظ التي علمتني شغف القراءة والاستغراق فيها حتى العيش في أدق تفاصيلها وأحداثها. كذلك الأمر كتاب "الطفولة، المراهقة والشباب" لتولستوي ترجمة سامي الدروبي، وهي ترجمة بالغة الروعة تُنسي القارئ أنه يقرأ عملًا مترجمًا، على الرغم من أن ترجمته لهذا الكتاب وغيره من أعمال تولستوي تمّت، كما عرفت لاحقًا، عن لغة وسيطة هي الفرنسية. ومن الأدب المترجَم لا يمكنني نسيان رواية إيفو أندريتش، جسر على نهر درينا، وهي أيضًا من ترجمة الراحل سامي الدروبي. ثمّ هل يمكن لقارئ شغوف بالقراءة أن ينسى رائعة الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، أو البحث عن وليد مسعود لجبرا إبراهيم جبرا؟

هذه بعض قراءاتي التي لا أنساها والتي أثّرت بي، كلّ منها بطريقة معيّنة وفي وقت معيّن. أتمنى أن يتاح لي الوقت لإعادة قراءة تلك الأعمال مجددًا، وعلى ضوء جديد مستمدّ من العمر والتجربة لعلّي أكتشف فيها أشياء غابت عني بالتأكيد في القراءة الأولى.

·      من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

كاتبي المفضل هو كل كاتب قرأت له. أو هو مجموع الكتّاب الذين قرأت وما زلت أقرأ لهم. وفي رأيي ينبغي إنصاف كل كاتب بذل جهدًا لكتابة رواية أو ديوان شعر، أو بحث في شأن من شؤون الحياة، سواء أكان عمله تحفة نفيسة لا تتكرّر، أم كان عملًا عاديًا يتناول موضوعًا مفيدًا بطريقة ما. لكن المهم في الأمر، من وجهة نظري، هو الأسلوب واللغة. اللغة الرديئة قد تقضي على مضمون عظيم، واللغة الجيدة قد تحمل موضوعًا عاديًا إلى مستوى عالٍ.

·      هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

لا أكتب ملاحظات أو ملخصات لما أقرأ. أعتقد أن من يفعل ذلك هم أولئك المهتمين بكتابة المراجعات، أو من أجل استخدام تلك الملاحظات لاحقًا كإشارات مرجعية في كتاباتهم الخاصة. كما أنني لا أحبّ مطلقًا الكتابة على هوامش الكتب.

·      هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

على الرغم من أنني أشتغل فعليًا، كناشر، على إنتاج الكتب الإلكترونية، أعترف بقلّة أو ندرة قراءتي لهذا النوع من الكتب، سواء أكانت بنسق ملفات بي دي إف (PDF) أم كانت بنسق المنشور الإلكتروني (ePub)، أو الكتاب الصوتي (audiobook). هذا، مع الإشارة التي لا بدّ منها إلى أن إنتاج الكتب الإلكترونية وتوزيعها وبيعها يشهد تقدّمًا وتصاعدًا مستمرًا، عامًا بعد عام، خصوصًا الكتاب الصوتي. أتحدث هنا بالطبع عن الكتاب الإلكتروني "الشرعي"، أما الكتاب الإلكتروني المسروق، أو "المقرصن"، فموضوع آخر شائك ومحزن.  لكن الكتاب الرقمي لا يشكّل حتى الآن تهديدًا للكتاب الورقي أو بديلًا منه، في المدى المنظور على الأقل.

لنقُل أنني "دقّة قديمة" وأنني ما أزال أفضّل قراءة الكتاب الورقي كما عرفناه وكما اعتدنا قراءته. ربّما فضّل شبان اليوم وأولاهم من الأجيال التالية الكتاب الإلكتروني، وعلى وجه الخصوص الكتاب الصوتي، على الورقي. سيكون الكتاب الصوتي، في اعتقادي، كارثة على اللغة وعلى الخيال إذا استمر هذا المستوى المنخفض من حيث التسجيل والقراءة لأعمال كُتبت بلغة راقية في معظمها.

·      حدّثنا عن مكتبتك؟

ليس لدي مكتبة خاصة الآن. آخر مكتبة كانت لدي هي تلك التي تخليت عنها في بيروت عام 2015 حين أتيت لاجئًا إلى السويد، وهي الثانية التي أتخلى عنها بسبب الترحال والتنقّل، طائعًا أو مرغمًا.

هنا في السويد، وفي أوروبا عمومًا كما أعتقد، لا يحتفظ الناس بمكتبات خاصة في بيوتهم. مكتبة الإنسان هي المكتبة العامّة في كل بلدة ومدينة. يستطيع الإنسان استعارة الكتب التي يريدها، ورقية أو إلكترونية، بمجرد حصوله على بطاقة اشتراك مجانية في المكتبة المحليّة. والجميع تقريبًا، صغارًا وكبارًا، لديهم اشتراكات في المكتبات العامة. ليس هذا فحسب، بل حين يشتري الناس كتبًا جديدة يتخلون عنها بعد الفراغ من قراءتها إمّا بيعًا بسعر زهيد لمتاجر الأشياء المستعملة أو التخلي عنها فحسب، مجانًا ولمن يشاء. وهكذا يمكنك الحصول على كتاب بعد صدوره بنحو شهرين أو ثلاثة بسعر يعادل دولارًا واحدًا من متاجر الأشياء المستعملة، وفي بعض الأحياء بعشر سنتات إذا كان عمره سنة أو أكثر.

·      ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ الآن كتابًا هو في الحقيقة أقرب إلى أن يكون دليل استخدام وتدريب على الكتابة الأدبية. وليست الغاية من هذه القراءة هي الرغبة في تأليف كتاب، بل من أجل تقييم إمكانية وجدوى ترجمة هذا الكتاب من  السويدية إلى العربية. في قسم التمرين على كتابة نص نثري، يقول المؤلف عن الصفة في النثر: "تعتبر الصفة بمثابة سِكّين لوح الألوان في النص. وباستخدام الوصف يمكنك رسم حالة مزاجية، أو تلوين مكان ما أو حالة معيّنة، وبالتالي ينبغي الاهتمام بمفردات الوصف واستخدامها بمنتهى الدقة. يمكن إغراق النص بالكثير من مفردات الوصف، ولكن لا شيء يعطي النصّ النثري قسماته الواضحة، بل حادّة الوضوح، مثل مفردات الوصف التي اختيرت بدقّة وعناية. والصفات يمكن أن تكون واقعية ودقيقة، كما هو الحال بالنسبة إلى الألوان: أزرق خالص، أبيض ثلجيّ أو أخضر زمرديّ. وقد تكون مجرد ألوان: أزرق، أبيض وأخضر".

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة حسام جزماتي

مكتبة لطفي الشّابي