12-يوليو-2021

الكاتب والفنان بلال خبيز

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


بلال خبيز كاتب وفنان من لبنان، عمل في الصحافة اللبنانية، وأصدر عددًا من الكتب منها "في أن الجسد خطيئة وخلاص"، و"عن مرض والدي والحر الذي لا يطاق"، و"العولمة وصناعة الأحداث الزائلة"، "الصورة الباقية والعالم الزائل"، و"اللحظة التي تفتح فيها عينيك هي لحظة الفاجعة"، و"الإنترنت لم يوجد أصلًا".

شارك في عدد من المعارض والمهرجانات الفنية في أوروبا ولبنان والبلاد العربية.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

جئت إلى عالم الكتب لأن الكتب كانت الوسيلة الوحيدة التي كانت متوافرة أمامي للاتصال بعالم ما خارج حدود القرية المعزولة التي ولدت فيها وأمضيت أولى سنوات طفولتي. بعد تهجيرنا من القرية إلى صيدا في جنوب لبنان، أخذت علاقتي بالكتب بعدًا آخر. كنت غريبًا في مدينة، كانت هائلة وكبيرة بالنسبة لي، ولم يكن أمامي سوى الدخول في عزلتي مع الكتب. إنما ما سلف لا يفسّر مجيئي إلى عالم الكتب، إنه يفسر مجيئي إلى عالم القراءة. كنت على نحو ما أمرن مهاراتي في القراءة، كما يمرن صبي النجار مهارات يديه في استخدام المنشار. أظن أنني جئت إلى عالم القراءة مرغمًا، ولو خيرت يومها بين عالم الكتب وعوالم أخرى لربما لم أكن لأختر هذا العالم القاتم. قرأت مرة نصًا للكاتبة أحلام الطاهر تقول فيه ما فحواه: إننا جميعًا، وأشمل نفسي بهذا الجمع طبعًا، نربي مشاعرنا وأحاسيسنا بقراءة الروايات والقصص "التافهة" في صبانا ومراهقتنا. إذ يندر أن يؤثر مارسيل بروست أو كافكا على علاقتنا بالعالم في تلك الفترة، بل نربي مشاعر الصبا على روايات من قبيل روايات عبير ومغامرات الشياطين 13. هل يمكنني أن أسمي هذا المسار مسارًا كتبيًا؟ أشك بذلك. لقد خرجت ذات يوم من لدن القراءة إلى لدن الكتب. أصبحت بمعنى ما راشدًا كقارئ، جديًا ومتشائمًا وكثير العبوس، وفاقد الأمل. ويومها، وكنت على الأرجح ما زلت مراهقًا غرًّا، تعرفت على بعض الكتاب الكبار. نجيب محفوظ، إرنست همنغواي، جون شتاينبك، ألبرتو مورافيا، جان بول سارتر إلى آخرين. ومن سوء حظي، وربما من حسنه، أنني لم أعد إلى قراءة هؤلاء بعد تلك الفترة. علاقتنا بالقراءة تشبه علاقتنا بصفوف المدرسة، دائما نردد لأنفسنا: لقد أنجزنا هذا الصف ونجحنا في امتحانه، ولن نعيده مرة أخرى.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب الأكثر تأثيرا في حياتك؟

منذ فترة طويلة لم أعد أجرؤ على تسمية كتاب مفضل. البعض يجيب على مثل هذه الأسئلة بذكر الكتب المقدسة، أو إلياذة هوميروس، أو جحيم دانتي. حين دخلت عالم الكتب كنت، ولا أزال، مهجوسًا بمحاولة تلمس موطئ قدمي في هذا العالم المتغير. كارل ماركس كان هاديًا لي في بدايات تلمسي. وأذكر كارل ماركس ولا أشير إلى كتاب عرب مثلًا، لأميز نقطة أساسية في هذا السياق. كان كارل ماركس، ألمانيًا أوروبيًا، وكان ثمة الكثيرون في ذاك الغرب البعيد والمشع، من الكتاب والفلاسفة يعتبرونه مرشدهم الأول. على هذا لم يكن ثمة مفر أمام شخص كان يريد تلمس موطئ قدمه في هذا العالم، وليس في عالمنا الضيق بطبيعة الحال، أن يختار سيدًا فكريًا سبق للمتقدمين في الغرب الخضوع لسيادته. وبالحديث عن كارل ماركس يمكن الولوج إلى إجابة السؤال فعليا. كارل ماركس بعد عقود على وفاته كان لا يزال معلمًا أساسيًا من معالم الثقافة والفكر في العالم. ولم يكن ممكنًا تجاوزه، أو هكذا خيل لعالم الفكر، من دون استعادة معاصريه وسابقيه، هيغل، كانط ونيتشه. لقد تحررنا، نحن والغرب على حد سواء، من سطوة كارل ماركس عبر استحضار خصومه وإعادة الاعتبار لهم. حسنًا، لم يكن هؤلاء عباقرة يفوقون اللاحقين من المفكرين ثقافة وألمعية. لكن الزمن كان بطيئًا، والتغيرات التي تشهدها المجتمعات كانت تحتاج وقتًا طويلًا لتبيان معالمها. الذين كتبوا وتفلسفوا منذ سبعينيات القرن الماضي، كانوا لا يعمرون طويلًا. أنا بين جمع من القراء الذين تأثروا بميشيل فوكو في ثمانينيات القرن المنصرم، وتأثرت أكثر بجان بودريار، وكانت كتابات ميلان كونديرا الروائية تحك جرحًا قديمًا في دمي. لكن هؤلاء لم يعمروا طويلًا، لقد تجاوزتهم التقنيات، والتغييرات التي فرضتها بمعنى ما، وككثيرين غيري، فتشت عن معاصريهم وأشباههم، وتأثرت بأعمال مارسيل غوشيه وبول ريكور. بعد ذلك وجدت ضالتي لدى آخرين، إنما أيضا لم يستطيعوا الصمود طويلًا أمام آلة التقنية. أحببت أعمال ريتشارد سينيت وزيغمونت باومان. ورغم اعتقادي أنهما ما زالا قادرين على الإيحاء والحث، إلا أن الزمن بدأ بتجاوزهما بمعنى ما. خلاصة ما أريد قوله إنني منذ عقود وأنا ضائع وحائر، ولا أعرف كيف أسند رأسي. أقرأ كما لو أنني أبحث عن طفل ضائع، ومرت عليي فترات طويلة كنت أفضل فيها الصمت على التعبير. لأنني في قرارتي لم أكن أملك أجوبة تنير لي هذا المسار المظلم الذي أسير فيه منذ عقود.

لماذا قررت التنكيد على من يقرأني إلى هذا الحد؟ يمكنني أن أجيب على السؤال بجملة واحدة أو جملتين: أحب روايات أومبرتو إيكو ودون دليلو وجون شتاينبك.    

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

المعلمون الذين تركوا أثرًا في كتابتي وحياتي كثر، أذكر منهم أحمد بيضون، عزيز العظمة، وضاح شرارة، محسن إبراهيم، حازم صاغية، حسن قبيسي، نصر حامد أبو زيد، حسن خضر. وهؤلاء على سبيل المثل لا الحصر. أهمية هؤلاء بالنسبة لي أنهم في أحيان كثيرة، يقومون بدفعي قدمًا في هذا العالم المظلم. بعضهم من المعلمين الأوائل، لكنهم جميعًا حين يكتبون يبحثون في الهواجس نفسها التي أبحث فيها وأتعثر. وغالبًا ما استند إليهم واستهدي بهم في مسيري الخاص. قد ينجح بحث لأحمد بيضون مثلًا عن الميثاق والدستور اللبنانيين أن يجنبني مغبة الغوص في دهاليز هذا العالم، لأكتفي بما خلص إليه وأتابع غوصي في دهاليز أخرى شبيهة، وبيدي شمعة من أفكاره. وأذكر أحمد بيضون اتفاقًا، فكل هؤلاء، وبعضهم لم يعد بيننا، شكلوا مشاعل مضاءة في هذا الطريق المظلم الذي أسير فيه، وأجزم أنهم يسيرون فيه أيضًا.

إنما وبعيدًا عن ذلك كله، بوسعي أن أحب محمود درويش بلا حرج، لا حاجة بي في هذا المقام لأن أكون شبيهه أو تلميذه أو تابعه. أنه الشاعر الذي أرى طريقه واضحًا، وأعرف أنني لن أتمكن من سلوك طريق مشابه. علاقتنا واضحة وضوح شمس النهار: هو شاعر وأنا قارئ.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

أرفع اقتباسات من الكتب التي أقرأها. لا ألخص مطلقًا، التلخيص بالنسبة لي خيانة. كأن تقول إن ثغر هذه المرأة جميل، وتنهي الحديث. ثغر جميل يختصر كائن كامل بكامل أبهته وجماله ومعاناته. في الكتب والأبحاث التي نشرتها بالإنجليزية، كان ثمة إصرار من قبل الناشرين على ذكر المراجع والتدقيق في الاقتباسات، وكنت دائمًا أرفض القيام بهذا الأمر. هذا ما فهمته من قراءة نيتشه وليس ما كتبه نيتشه حقًا. وبوسعك أنت أن تقرأ نيتشه وتجد فيه ما يخالف ما وجدته فيه. أنا لا أؤرخ وأوثق حين أكتب، أنا أفكر. ومعنى أنني أفكر يتصل اتصالًا مباشرًا بما اختزنه ذهني من انطباعات قد تصبح أفكارًا لكتاب قرأت لهم. وأنا أعيد صياغتها بما يلائم الطريق الذي أسير فيه. لو استعرت حقيبة من صديق لك لتسافر سيرًا على الأقدام في غابة مثلًا، فالأرجح أنك لن تستخدمها أو تخزن فيها ما كان صديقك يخزنه فيها حين سافر في رحلة إلى الشاطئ. هي الحقيبة نفسها، لكن استخدامها يختلف كل مرة بحسب الطريق الذي يسلكه حاملها. ليس مهمًا أن يكون نيتشه أو فرويد هو من قال ما أقوله، المهم أنه في سياقه يخدم الفكرة التي أحاول ملامستها. وذكري له هو من باب العرفان بالجميل، لأنني لو لم أقرأ له ما قرأت وأفهمه على النحو الذي فهمته، لما كنت قد وصلت إلى هذه النقطة من الطريق.

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

بمعنى ما تغيرت فعلًا. لم يعد الكتاب الذي أقرأه اليوم هو الأحدث والخارج توًّا من معارض الكتب. صار الكتاب المتوافر والذي أشار أمازون إليه وأنا اتصفح مكتبته. أمازون تحول بمعنى من المعاني، حسب تعبير ديفيد ليون، إلى سكرتير شخصي. يدرك أنني اشتريت هذا الكتاب، وحين أتصفحه يشير علي بكتاب يعالج فكرة مشابهة. على هذا يقوم أمازون بفرض اختصاص ما علي. مع أنني أتحايل عليه أحيانًا، فأقرأ روايات وكتب فلسفية، وأشتري كتبًا لا علاقة لها بما أود أن أقرأه. لكنه دائمًا يستطيع الملاحظة. اعتقد أن الكتاب الإلكتروني يأسرنا بمعنى ما في بوتقة جماعة لا نستطيع الانفكاك عنها بسهولة.

أما إذا كان السؤال عن القراءة، وهل تمتعني القراءة على شاشة لوحية أكثر من القراءة في كتاب مطبوع؟ فاعتقد أنني تجاوزت هذه المعاناة. أقرأ على المكتب كتبًا مطبوعة، وفي المقاهي استخدم الحواسيب، وأتسقط الأخبار من الهاتف، وثمة روايات قرب السرير. باختصار هناك الكثير مما يجدر بي قراءته، ووقتي ليس متسعًا.

  • حدثنا عن مكتبتك؟

في الحقيقة أنا مهاجر دائم. كل بضع سنوات انتقل إلى عمل جديد وعالم جديد. لم أنجح في الاحتفاظ بمكتبة من مكتباتي العديدة التي أسستها طوال حياتي كقارئ. اليوم أتذكر كتبًا أود مراجعتها، لكنني لا أستطيع، لقد باتت في عالم آخر وجغرافيا أخرى. في منتصف الثمانينات دمر الإسرائيليون مكتبتي الشخصية حين أتوا لاعتقالي، وحين خرجت من المعتقل، كان الأصدقاء قد تناهبوا الكتب القليلة التي نجت من الإعصار. في المعتقل قرأت ما كان متوافرًا، وبطبيعة الحال لم أستطع الاحتفاظ بأي من تلك الكتب بعد إطلاق سراحي. خلال عملي في الصحافة اللبنانية، أنشأت مكتبة جديدة، لكنها بقيت في بيروت وأنا في المنفى. وهنا في الولايات المتحدة حاولت مرارًا أن أجعل مكتبتي على ظهري. أتجنب ما أمكنني اقتناء كتب مطبوعة. بعض كتبي المنشورة لا أملك نسخًا منها حتى الآن ودائمًا أؤجل طلبها من الناشرين.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ في ثلاثة كتب. الكتاب الأول هو لشارون زوكين، وهو كتاب عن "ثقافة المدن" أعيد قراءته لأنني أشتغل على بحث يتعلق بالمدن. والكتاب الثاني الذي أقرأه هو كتاب جديد نسبيًا، عنوانه إذا صحت الترجمة هو "فخ الجدارة" لدانيال ماركوفيتس، وهو كتاب يتحدث عن التعثر الذي يسببه تسيد الاختصاصيين على حيواتنا واقتصادنا وسياستنا وثقافتنا على حد سواء. الكتاب الثالث الذي أقرأه هو صانسيت بارك لبول أوستر. وهذه المرة الثالثة التي أقرأه فيها، قرأته بالفرنسية والإنجليزية والآن أقرأه بالعربية. ولشدة دهشتي لا أذكر منه شيئا، كما لو أنني أقرأه للمرة الأولى. هذه المرة وعدت نفسي بأن أتذكر كل أحداثه وأتمنى أن أنجح.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة حيدر الدرة

مكتبة طارق حمدان