29-أبريل-2017

مكتبة الحلبي من الداخل (آمنة منصور/الترا صوت)

يرتّب عبدالله الحلبي الصحف في الخارج، ثم يدلف إلى المكتبة يراجع عناوين الكتب الموزّعة فيها. صحيح أنه يحفظها عن ظهر قلب، لا سيما وأنه جمعها الكتاب تلو الكتاب على مدى سنوات، إلا أنه يحبّ النظر طويلاً إلى "ثروته" التي لا تُقدّر بثمن. تُقدّر بعمر ربما، عمره هو والذي تحتسب أعوامه بعدد الكتب والمجلات والمخطوطات وأرشيف الصحف والكتيبات التي كدسّها من حوله وتتضاعف قيمتها يوماً بعد يوم. الحرف تلو الحرف، لتخطّ بذلك سيرة حياة الرجل ومن حوله حيّ كامل.. فمدينة فبلد بكل ما مرّ عليه خلال عقود خلت.

حوّل عبدالله الحلبي بقالة والده إلى مكتبة، تفخر بها بيروت، وتعتبر ثروة لما تحتويه من كتب ومجلات ومخطوطات قديمة وحديثة

في بيروت لا يضلّ قاصد مكتبة "الحلبي" سبيلاً. إن لم يُعرف صاحبها فمكتبته، وإن لم تُعرف المكتبة فالحيّ الذي تسكنه ويسكنها منذ عشرات السنوات، وإن لم يعرف الحيّ نفسه، في أسوأ الأحوال، فالحرش، الذي ضاقت من حوله المساحات الخضراء حتى اقتصرت عليه فتحوّل إلى واحة يتيمة وسط صحراء الإسمنت في العاصمة بيروت، هو عنوان دامغ تدركه كل الخطوات من أي جهة أتت. والمكتبة جارة الحرش ولها من حضوره نصيب، في لقاء الأحبّة الذين يتشاطرون اهتمام البحث عن شيء من ماضي المدينة أو ربما كلّه.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الجامعة.. كتب بلا قرّاء

مكتبة الحلبي من الخارج قديمة المظهر. لا ديكورات حديثة تخطف الأنظار. بل واجهة تؤدي "مخدومية" طويلة الأجل، وأعداد مجلّات تتراوح على مقياس الزمن بين القديمة، فالأقل قِدماً، فالأحدث. ويرتبها الحلبي أفقياً وعمودياً كجدارية من لون وخبر. من جهة أخرى تُعلّق صحف اليوم إلى جانب شجرة قديمة في الحي، لتجذب الباحثين عن الحدث وخلفياته في العناوين و"مانشيتات" المحررين ومقالاتهم.

مكتبة الحلبي من الخارج (آمنة منصور/الترا صوت)

أما من الداخل فتجد مكتبة الحلبي فُسحة بديعة "يتشابك" وصفها. فبين الانبهار العام بكل ما في المكتبة، والتوقّف ملياً أمام جزئياتها، تنشدّ الحواس للحظات أمام ما ستخبَره من متعة النظر واللمس والشم، فضلاً عن تذوّق من نوع آخر.. للمتعة نفسها باعتبارها مزيجًا من بحث واكتشاف، وقرار لن يُحسم بسهولة في اختيار هذا الكتاب أو ابتياع آخر.. غير أن التردّد سيُبدّد لا محالة بالوقوع على كتاب أو اثنين أو مجموعة كتب ستوضّب في نهاية الزيارة بكيس من الورق ويضيف إليها العم أبو علي الحلبي مجاناً بعض "أكسسوارات" المطالعة كالقشة المزينة يدوياً لتحدّد "توقفات" القراءة على نية استكمالها لاحقاً.. عربون تقدير لزيارة المكتبة ولاهتمام الزائر بالمطالعة.

وزيارة "مكتبة الحلبي" لها خصوصيتها. فهي تعكس العبارة المحلية الشهيرة "أهلية بمحلية"، بما تعنيه أن لا تكلّف في هذا المكان، فالحلبي يبادر إلى الترحيب بزوّاره ويواكبهم في تنقلهم في أرجاء المكتبة. فرغم أن مساحتها لا تتعدى بضعة أمتار، إلا أنها غنيّة المحتوى وكثيفة المواد البصرية التي لا تقف عند حدود رفّ تتراصف فيه الكتب.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبات الآخرين

زيارة "مكتبة الحلبي" لها خصوصيتها، فالحلبي يبادر إلى الترحيب بزوّاره ويواكبهم في تنقلهم ويخصص لهم عليّة هادئة مخصصة للمطالعة

هنا الروايات العربية وبينها أعمال نجيب محفوظ وإحسان عبدالقدوس بطبعات قديمة. على هذا الرّف كتب تاريخ، ومن فوقها شهادات وسير. في الجهة المقابلة كتيّبات "أنتيكة" تقابلها روايات مترجمة وأخرى عربية حديثة الإصدار أو أُعيد طبعها لشدّة الإقبال على شرائها. هناك أعداد اصفرّت أوراقها لصحف لبنانية طاعنة في القدم، وهنالك كتب أجنبية متنوعة الموضوعات.. يُرشد عبدالله الحلبي زوّار مكتبته ليسهل عليهم البحث ويشير إلى عليّة هادئة مخصصة للمطالعة تمنحهم "خلوة" هانئة للاكتشاف، ومن حولها تتوزّع لوحات تحمل الطابع القديم نفسه. ثم يساعدهم في نقل أحد السلمين الخشبيين لارتقائه والبحث عن قرب عن ضالة ما.

مكتبة الحلبي من الداخل (آمنة منصور/الترا صوت)

لانا، ابنة عبدالله الحلبي، سرّ أبيها، فهي التي عملت وإخوتها على تحويل حلم والدها إلى حقيقة. من خلال تحويل دكانه الذي ورثه عن والده، ليواظب فيه على بيع البقالة والسكاكر والأغذية وحاجيات المنازل البسيطة، إلى مكتبة تعرض ما كان كدّسه فيها من كتب نمّت في داخله هواية تجميعها حتى غدت الحصيلة بالآلاف. ولانا وضعت بصمتها في المكان من خلال أدوات الزينة واختيار الألوان، إلا أنها لم تُزل من المكان بعض الجرار التي كان والدها يستخدمها في الحانوت ويوضب فيها السكاكر الملوّنة، وحافظت عليها في ركن خاص بعد أن ملأتها بـ "طيّبات".. هي ديكور وحلوى في آن واحد.

يقول عبدالله الحلبي لـ"الترا صوت" برضًا: "في المكتبة التي تُشعر زوارها بأنهم في منزلهم تُقام أنشطة كرواية قصص للأطفال، فرغم أن المكان ضيق نسبياً إلا أن بيت الضيق يتسع لألف صديق"، ويلفت إلى أنه "يأمل أن يفتتح فرعاً آخر للمكتبة ليصبح بذلك الكتاب في متناول أكبر شريحة ممكنة من المهتمين، لا سيما وأن لا متعة إلا في قراءة الكتاب الورقي رغم انتشار الكتب الإلكترونية عبر الهواتف والألواح الذكية".

مكتبة الحلبي من الداخل (آمنة منصور/الترا صوت)

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبات الموتى.. إلى الرصيف سر

عن مكتبات تركيا