24-يونيو-2019

الباحث والمترجم إسلام سعد

فريق التحرير – ألترا صوت

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


إسلام سعد باحث وكاتب ومترجم مصري، من مواليد مدينة الإسكندرية، مهتمّ بالفلسفة وقضايا الحداثة. له العديد من الكتابات والترجمات في عدّة مواقع عربية. شارك في ترجمة كتاب "أبناء إبراهيم" لكلي جيمس كلارك، وسيصدر قريبًا، بالشراكة مع علي رضا، ترجمة كتاب وليام جيمس "تنويعات التجربة الدينية".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

تتطلب الإجابة على هذا السؤال شيئًا من الترتيب الدقيق للأفكار، لكن الذاكرة تعرض الأمر في سردية لاتاريخية، حتى وإن كانت المحطات الأخيرة واضحة لي. لكنني أذكر البداية وما يشبه النهاية. بدأ الأمر بأخي محمد إذ كان يقرأ لي في فترات دراستي الابتدائية، غالبًا بعد إلحاح شديد مني، لكنه في النهاية كان يمنحني كتبًا لا علاقة لها بدراستي المحدودة وقتها، ويعينني على قراءة الكلمات الطويلة التي أعجز عن نطقها وحدي، مثل كتب "ما وراء الطبيعة" للدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله، التي شكَّلَت المحطة الرئيسية لبدايات قراءاتي المستمرة، عددًا تلو عددٍ، أشتري وأقرأ أولًا بأول.

كان ولعي باللغات باديًا، وأدركته حينئذ بسهولة؛ فلم أكن أذاكر اللغة العربية ولا الإنجليزية، فقط حصة الفصل بالنسبة للعربية، وكفى، أما بالنسبة للغة الإنجليزية، فقد كان الفضل في تفوُّقي فيها هو الأستاذ سيد عبد الفتاح، وهو مدرس ظلَّ معي منذ الابتدائية حتى الثانوية العامة يشرح لي في مجموعة طلبة ثابتة خاصة، قوامها ثلاثة طلبة يُمَثِلون قوام المجموعة، وكل عام يزيد علينا أفراد وينقصون في العام التالي غالبًا. لم أملك تفسيرًا لهذه الثقة في قدرتي على الاستيعاب اللغوي لكنني مارست بها على الدوام.

أما المحطة شبه الأخيرة، فقد بدأت في السنة الثانية من الكلية، كلية الهندسة – جامعة الإسكندرية. كان هناك الكثير من الثقة المتولدة عن حديث أساتذة الجامعة لنا؛ فالمهندس - بشكل عام – "صاحب عقلية فذة واستثنائية"، أما المهندس الكيميائي، تخصُّصي، "مهندس عالَمي!". بهذه الأنا المنتفخة واجهنا "المعرفة"، وهي معرفة لم تكن للأسف وليدة النظر في العلوم الإنسانية بشكل عام (لم نتعرض سوى لجزء من فلسفة القانون في الدستور المصري لفصل واحد في إعدادي هندسة، وبعد ذلك عشنا في صحراء فكرية تخلو من أي دراسة، وبأي درجة، للفسلفة أو المنطق ... إلخ). أعتقد أن طريقة التدريس نفسها كانت ضارة عقليًا؛ لم نهجر "الحفظ" و"الترديد" الذي كابدناه في مرحلة الثانوية العامة، حتى الرياضيات (التفاضل والتكامل وغيرهما)، والفيزياء، ومناهج التصميم الهندسي، كلها وما سواها نحفظه بشكل اجتراري بائس، ومن يحفظ أكثر يصبح عالَميًّا أكثر!

في هذه الفترة، بدأت الأسئلة الوجودية تحاصرني، لم أملك أي عتاد فكري يصلح للاشتباك معها، وصارت علاقتي بالأسئلة علاقة خوف، تتأسس على هربي منها كلما ظهرت أمام عقلي؛ فماذا يفعل الإنسان أمام إملاءات الشيطان كما أقنعوني وقتها؟! الاستعاذة منها بالطبع. بدأت في قراءة كتب الدكتور مصطفى محمود، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهما من الساعين للإجابة على الشكوك الإلحادية وغير الإسلامية بالعموم. أتذكر وقتها كتاب "حواري مع صديقي الملحد" الذي أبهرني لدرجة كبيرة. بالطبع تجاوزت سطحية الطرح منذ سنوات، لكن مخزوني الفكري وقتها كان صفريًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. أي فقرة متسقة كانت كفيلة بإقناعي لأقصى مدى. هل أحتاج لذكر أن أغلب أصدقائي المهندسين الآن لا يقرؤون - ولعلهم لم يقرؤوا، للأسف - سوى كتب "الأكثر مبيعًا" أو يتفاخرون بقراءة كتاب واحد خارج تخصُّصهم أو كتب دينية تقول رأيها في العلم والنظريات العلمية من وجهة دينية مذهبية ويظنون أنهم أحاطوا بالعلم معرفةً؟ ماذا عن وصايتهم على ما أطرحه من كتابات وترجمات وكأنهم أكثر دراية مني، لا لسبب سوى كونهم مهندسين؟

على كل حال، انتهت الدراسة الجامعية، وبدأت مرحلة البحث عن وظيفة، لم أوفَّق في شَغْلِ وظيفة لعدة أسباب، في القلب منها غياب "الواسطة" التي تعينني على العمل في أي شركة بتخصصي. استمر الأمر لعامٍ حتى بدأ أهلي في اليأس مني ودفعي لقبول أي وظيفة. طلبت منهم عامًا آخر من الانتظار، مع مصروف يومي 10 جنيهات فقط، وبعد انقضاء العام، هكذا أخبرتهم، "سأحصل على وظيفة مرموقة"!

خلال هذه السنة قرأت كل ما يمكنني الوصول له من كتب فلسفية، بالأخص في الفلسفة الوجودية (دوستويفسكي، وقليل من نيقولاي برديائف، بجانب المداخل الفلسفية بطبيعة الحال)، وانشغلت كثيرًا بأزمة الحداثة في العالَم العربي؛ فانفتحت أمامي كتابات نصر حامد أبو زيد، وزكي نجيب محمود، ومحمد أركون (الذي عانيت كثيرًا لفهمه) ومحمد عابد الجابري، ثم هشام جعيط وطيب تيزيني وناصيف نصار وعبد المجيد الشرفي في مرحلة لاحقة. كان عقلي راغبًا في تعبئة المعرفة التي يقدمها هؤلاء المفكرون وغيرهم. انعكست كتاباتهم على طريقتي تفكيري وحديثي مع غيري، فبدأ الإقصاء يتحقق تدريجيًا، بالأخص بعد التخرُّج من الكلية. حتى في مقابلات العمل، لو وُجِّهَ لي سؤال شبه فلسفي وأجبت عنه بشيء من التفصيل كانوا يقاطعونني مُعلنين ما يشبه التبرُّم والضيق من قدرتي على الثرثرة!

بعد هذه السنة، التحقت بعمل لا بأس به، إذ أترجم رسائل نصية إخبارية تتعلق بالاقتصاد والرياضة وما شابه ذلك. استمر الأمر لشهور ولم أحتمل (لكنني، مضطرًا، استمررت في عملي)؛ فالمرتب كان ضئيلًا، وساعات العمل من الواحدة ظهرًا للعاشرة مساء! يضيع اليوم بأكمله في العمل والمواصلات ولا وقت عندي للقراءة؛ فصرت أصطحب معي الكتب لمقر العمل، متجاهلًا التعليقات الساخرة من بعض الزملاء. أتذكر وصف ابن حارس العقار، الذي كان يقدم لنا الشاي حينئذ في الشركة باعتباره عملًا إضافيًا، سخريته من غلاف كتاب للمفكر السوداني محمود محمد طه، متهمًا إياه بأنه يشبه "حارس العقار"! في حين كان والده حارس العقار لشركتنا!

تعرَّفت قبل ذلك بقليل على الراحل، الدكتور علي مبروك (الذي أدماني رحيله، ولا يزال)، الذي استمع لشكواي أثناء عملي في هذه الشركة، وقد تابعت كتاباته وتابعني عبر "فيسبوك" وعرض عليَّ أن أعمل معه باحثًا ومترجمًا في مشروع كتاب "مفهوم الشريعة". ترددت كثيرًا وأخبرته أنني لست بباحث ولا مترجم خبير، فطلب مني أن أصبر معه على التعلُّم، وخلال ثلاث سنوات من العمل المكثف صارت معرفتي بالفلسفة وأزمات الحداثة أعمق، وصرت أترجم له وللدكتور نصر حامد أبو زيد من العربية للإنجليزية ومن الإنجليزية للعربية. ومن هنا سارت الأمور للآن.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

للآن أتذكر كتاب "تجديد الفكر العربي" للدكتور زكي نجيب محمود، إذ كان من أوائل قراءاتي في قضايا الفكر، يمكنني بسهولة استرجاع طريقة جلوسي وقت قراءة الكتاب، على مكتبي، في قمة تركيزي، منكبًا على الكلمات أدون الملاحظات.

كتاب "ثورات العرب – خطاب التأسيس" لعلي مبروك، وهو كتاب ألهمني في سياق ثورة يناير بمصر. ودفعني دفعًا للتفكير في عطالتنا التي تبدو أبدية. أما كتاب "ما وراء تأسيس الأصول - مساهمة في نزع أقنعة التقديس"، لعلي مبروك أيضًا، فقد أراني تطبيقًا عمليًا لمنهج "تحليل الخطاب"، أضف لذلك قوة لغته وطول عباراته التي تحتوي على الكثير من الاستطرادات الهامة.

يظل للآن كتاب "مفهوم النَّصِّ" لنصر حامد أبو زيد ملهمًا لي، بوجود هذا القدر من التبصُّرات في تعامله مع النَّصِّ التأسيسي في سياقنا (القرآن الكريم). أما كتابه "النص والسلطة والحقيقة"، أرشح دومًا مقدمته لكل المهتمين بهذه الإشكاليات التي تحدثت عنها، فهي مقدمة ملهمة بامتياز.

أي كتاب لـ لودفيغ فويرباخ تركت أثرًا عميقًا داخل ذاتي، محاضراته عن جوهر الدين تظل محتلة لمكانة كبيرة داخلي، وتعين على تحرُّرية فكرية يحتاجها المرء، بالأخص إذا عاش في سياق يفرض عليه كل ما يقف ضد هذه التحرُّريَّة فرضًا. وتختلف هذه المحاضرات عن كتابه الصغير "في جوهر الدين"، أو "في أصل الدين" كما نُشِرَ في ترجمة قديمة لهذا الكتاب بالعربية.

على المستوى الأدبي، إدواردو غاليانو ومحمد المخزنجي هما الأستاذان اللذان أريد الكتابة (وبالفعل أكتب) بنفس طريقتهما الموجزة كرصاصٍ في القلب. أشعار تشارلز بيوكاوسكي (الذي يصر المترجمون على تسميته: بوكوفسكي!) هي أول أشعار كاملة أنهيها وأترجم منها كلما لاحت فرصة لذلك. أشعر أنه أبي في عالَمٍ آخر.

وربما أختتم أمثلتي عن الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتي بكتاب "الكوجيطو المجروح" لفتحي المسكيني، وهو فيلسوف تونسي أعانني كثيرًا على المستوى الشخصي (أي في حياتي الخاصة، فلم أقابله من قبل قَط، وللآن) والفكري. قد أعتبر نفسي واحدًا من تلاميذه رغم عدم سماح السياقات لنا بالتواجد في نفس الحيز المكاني أبدًا.

  • من هو كاتبك المفضل، ولماذا أصبح كذلك؟

الروائي الأمريكي بول أوستر بلا شك؛ فكتاب "اختراع العزلة"، بترجمة أحمد العلي تحديدًا، هو الذي أخرجني من حزني على الوفاتين المتعاقبتين في فترة قصيرة من عمر الزمان لأمي ثم علي مبروك (رحلا عني في أقل من أسبوع). أما كتابه "Winter journal" كشف لي أنني لا أشاركه فقط الكثير من سياقات الحياة (لمدى يبعث على الدهشة الحقَّة)، وإنما أشاركه كذلك في الأمراض التي انتابت كلينا عقب وفاة الأم. تقريبًا نفس التفاصيل لمدى كلما تذكرته يبعث الدموع داخلي. أعتقد كذلك أن سهولة عباراته، وحرصه على الابتعاد عن "المُنَمَّق" من العبارات دفعني لتبسيط ما أكتبه بأقصى قدر ممكن. أنا مدين لهذا الرجل بالكثير.

  • هل تكتب ملاحظات أو ملخصات لما تقرأه عادة؟

بالطبع أفعل ذلك، لأن طبيعة عملي باحث ومترجم، بجانب قدراتي على التذكُّر التي أصبحت محدودة للغاية الآن، تجبرني على ذلك. في البدء كنت أحرص على نظافة الكتاب، أي خلوه من أي كتابة أو تعليقات أو تظليلات. كتبت الكثير من الملاحظات والتعليقات، في ورق منفصل، على كتاب "الدين: الأسس" للباحث: مالوري ناي. ثم ضاعت هذه الأوراق مني رغم ضخامة حجمها. ومنذ ذلك الوقت، أدون كل شيء داخل الكتاب، في أي مكان يسمح بالكتابة تجد ملاحظاتي متسعًا لها وموطنًا.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

لم تتغير كثيرًا، لأنني مُتَيَّم بالكتاب الورقي. لكنني منذ فترة قريبة، صرت أقتني الكتب إلكترونيًا وأقرأها على جهاز التابلت؛ فأسعار الكتب أرخص، وإمكانية الوصول لأغلب الكتب الإنجليزية أسهل، كما يسهل البحث عن معاني الكلمات المبهمة آنيًا. والآن صرت أحمل مكتبة إلكترونية أتجول بها.

  • حدّثنا عن مكتبتك؟

مكتبتي وغرفة نومي مكان واحد. أربعة حوائط تحتلها أرفف مكتبتي حتى السقف. ويقع سريري في منتصف الغرفة تقريبًا. أنام وأستيقظ على منظر الكتب. أسعد بما قرأته ويطاردني كل ما لم أقرأه (والأثر النفسي للشعور الأخير ساحق، لكنه في آنٍ دافع لإنهاء ما يلزم إنهاؤه من قراءات). اقتنيت الجزء الأكبر من مكتبتي على مدار التسع سنوات الماضية. أتذكر أنني كنت أعمل في أربع وظائف يوميًا كي أملك ما يلزم من مال لشراء الكتب التي أحتاجها أو التي أشعر باحتياجي لها في المستقبل. ربما أملك 4000 كتاب أو أكثر تقريبًا. لكنني لا أمتلك ما أمتلكه بحق ما لم أقرأه. يظل الكتاب خفيًا ينتظر التجلِّي عبر إتمام مهمته، أي حين أطالعه.

  • ما الكتاب الذي تقرأه في الوقت الحالي؟

أقرأ الآن ثلاثة كتب بالإنجليزية، يتعلق واحد منهم بالكتاب الذي أترجمه الآن، والكتاب الأول هو "فكرة داروين الخطيرة – التَّطَوُّر ومعنى الحياة" للباحث دانييل دينيت. الكتاب الثاني هو "الإحساس بالعالَم – أنثروبولوجيا للحواس" للباحث ديفيد لوبروطون. الكتاب الثالث هو "التحديق في الشمس – التَّغَلُّب على فزع الموت" لـ إرفين د. يالوم. يشغلني سؤال الموت كثيرًا. أريد أن أفكر فيه بعمق قبل أن أحياه حقًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة فايز علّام

مكتبة موريس عايق