26-مارس-2018

الكاتبة أسماء الغول

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


أسماء الغول صحافية وكاتبة فلسطينية، صدرت مجموعتها القصصية الأولى عن "دار الآداب" عام2006  بعنوان "هجران على لوح أسود" بعد حصولها على جائزة "القطان للقصة القصيرة" في العام ذاته. تم إصدار كتابها الأخير بعنوان "L'insoumise de Gaza" في باريس عام 2016 بالتعاون مع الروائي اللبناني الفرنسي سليم نصيب، فيما يشبه الرواية الذاتية لتاريخ مدينة غزة الحديث. حاصلة على عدة جوائز منها جائزة آنا ليندا لدول البحر المتوسط في موناكو عام 2011، وجائزة الصحافية الشجاعة من مؤسسة IWMF في نيويورك عام 2012، وجائزة عمر أورتيلان لحرية الصحافة في الجزائر عام 2013.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

كان فضولي وأنا طفلة يأخذني إلى كتب والدي المخبأة في بيت جدي بمخيم رفح، جنوب قطاع غزة، خوفًا من اقتحام جنود الاحتلال الإسرائيلي المتكرر له، وقد كانوا ينبشون كل ورقة في جميع منازل المخيم خلال الانتفاضة الأولى.

أذكر أنني كنت أتصفح تلك الكُتب، وأنا غير قادرة سوى على تهجئة العناوين وأسماء المؤلفين التي أذكر بعضها "فتحي يكن، نجيب محفوظ، كولن ويلسون"، لكن هذا كان كافيًا كي أقع في حبها، كانت بالنسبة لي عالمًا سريًا يخشاه الجنود وفي ذات الوقت يحبه والدي، وهكذا كبرت والكتب تدور داخلي في فلك من الشغف والممنوعات.

بقيت ذكريات المخيم والحياة فيه لا ترتبط عندي فقط بصوت بسطار جنود الاحتلال والرعب من اقتحام المنزل، بل بالكتب أيضًا؛ وليست أية كتب بل التي تتحدث عن الفكر، خاصة الماركسي، لا أدري لماذا هذه اللازمة بين كتب اليسار والمخيم في ذاكرتي، على الرغم من أن منزل جدي الكبير الذي كنت أعيش فيه، وكذلك عماتي وأعمامي، معروف بأن ساكنيه ينتمون إلى حركة حماس التي كانت في بداياتها ذلك الوقت من ثمانينات القرن الماضي؛ ربما لأن والدي كان يميل إلى الفلسفة وقراءة الفكر من جميع التوجهات.

كبرت في حب الكتب بكل أنواعها، وكتبت في سن مبكرة حوالي السابعة من عمري أول قصيدة شعرية لا تزال معي بسبب حفظ والدي لها. قد تكون قصيدة ساذجة لطفلة مغرمة بالأدب، لكن كانت بداية لقدر آخر هو الكتابة، وكنت في ذلك العمر قد انتقلت إلى دولة الإمارات حيث كان والدي يعمل مهندسًا معماريًا في شركة هناك، وقد كانت هديته الدائمة لي الكتب، وقرأت أصعبها في سنوات مبكرة من مراهقتي، وتكونت لدي الكثير من الأسئلة حين أقرأ لابن خلدون أو إحسان عبد القدوس، وكنت أشعر براحة إذا قرأت للمنفلوطي فهي أفكار أكثر سهولة على وعيي حينها.

ولم يمنعني حبي لهذه الكتب التي كانت تتكوم بغرفتي أن أقرأ أيضًا "روايات عبير"، وأدهم صبري ومعظم مؤلفات د. نبيل فاروق التي كانت متعة في جيلنا ذلك تشبه متعة "السوشيال ميديا" حاليًا.

أنقذتني الكتب في فترات كثيرة من القهر والعزلة، أشعر بالألم حين أفكر كم من الكتب فقدت خلال السنوات الماضية، وأغلبها لا أعرف كيف وأين، كما أنني أشعر بالذنب حين أتذكر الكتب التي استعرتها من آخرين وأخريات، ولم أقم بإعادتها.

ومن مجاورتي للكتب اكتشفت شيئًا أن حب الكتب والقراءة لا يخص ناسًا بعينها، أي أنه ليس موهبة على الإطلاق يتمتع بها آخر دون غيره، بل الجميع يستطيع أن يقرأ وقتما يحب، أو يريد، وهي مرحلة يمر بها الإنسان؛ قد تكون مبكرة أو متأخرة وقد تصاحبه طوال عمره، على سبيل المثال أنا الآن أقرأ أقل مع أن الإنتاج أكثر غزارة، لكن شغفي قل كثيرًا، أو ربما هي الكتب قلّ فيها الشغف!؟

أصبحت أشتهي قراءة كتاب من "الجلدة إلى الجلدة" كما يقولون، لا أدري ماذا حدث، هل السبب ميلي إلى السينما حاليًا؟ أم أن كل كتاب يبدأ جيدًا سرعان ما تنتهي ذروته قبل الوصول إلى منتصفه؟ ومع ذلك أنا أقرأ كل حين لأن القراءة عندي مثل نصائح أمي، أسمع صوتها يلاحقني في كل مكان.

لي صديق كاتب كان يقول لي في الماضي "القراءة تصبح احترافية فيما بعد، أي أنك تستطيعين أن تعرفي الكتاب من أوله، ومن الممكن أن تقرأي منه فصولًا بعينها دون أخرى ولا تظلميه بذلك"، نظرت إليه لحظتها باستخفاف، ورددت "هذه إهانة للقراءة وللكتاب ولنفسك". اليوم أجزم أن كلامه صحيح، وأن تجربة القراءة المكثفة والممتدة على مر الأعوام تقلل لديك براءة فعل القراءة دون إهانة للكتاب.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

لا توجد إجابة محددة أو عابرة للزمن على هذا السؤال، فعلي سبيل المثال في فترة دراستي بالثانوية كانت قراءة غادة السمان وغسان كنفاني وسحر خليفة ونزار قباني وطاغور، ونابوكوف وبشلار وفرويد وابن المقفع والجاحظ، تمثل لدي شغفًا لا يعادله شغف. وقد قرأت هذه الكتب حين رجعنا من الإمارات إلى قطاع غزة في منتصف التسعينيات، في مكتبة خالي أحمد عبد الله الغول، وكان حينها شابًا صغيرًا، يعيش عالمًا منعزلًا في مكتبته، بعد عودته من دراسة آداب اللغة العربية في جامعة الناصر في ليبيا، حاملًا معه مكتبة ثمينة وفريدة.

وقد بقيت مئات العناوين تسكن هناك إلى أن احترقت المكتبة مع الاجتياح الإسرائيلي لرفح عام 2003، ولم يستطع أحد إنقاذها، وحين ذهبنا إلى البيت بعد أن انتهى الاجتياح كان الشجر وسقف البيت، والأوراق كلها مختلطة كأنها عجينة "طينة حرة" قديمة.

في فترة أخرى من حياتي عشقت السير الذاتية للأدباء وأدمنتها، وكنت وقتها حاملًا بابني الأول، لقد كنت في حاجة أن أقرأ عن الوقت الضائع في الحياة بالانتظار كي لا أشعر أني وحيدة أو أني فقدت القدرة على الكتابة، وهذا وجدته بكثافة في سيرة هؤلاء؛ الكثير من العزاء.

ومن ثم أغرمت بميلان كونديرا وبورخيس وماركيز وألبير كامو وكويلو، وكنت حريصة على قراءة جميع مؤلفاتهم، فقد كنت أشتري معظم الكتب التي تقع تحت يدي أو أستعيرها، إلا أنها ظلت الابن المنسي الذي أتركه خلفي في كل شتات جديد.

أذكر مرة أني اشتريت مكتبة شاعر من غزة، فقد كان يريد التخلص منها، شعرت أني أسطو على شيء ليس لي على الرغم من ترحيبه بذلك، وكان إحساسي بمحله فسرعان ما غادر الحياة بعد بيع مكتبته ببضعة أشهر، وبقيت الكتب في منزلي بغزة، ولم أجرؤ أن أمسكها بعد ذلك، لكنها بقيت مفيدة لأفراد عائلتي، فجميعهم يقرأون.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

بالتأكيد لا.. فإذا لم يبقَ شيء من الكتاب في رأسي، فإذًا هو مكتوب على عجل كي أنساه على عجل أيضًا. هناك عبارات في بعض المؤلفات أفتقد أن أتذكرها وأعرف أنها كانت رائعة إلا أنني حين أعود إليها أجدها عادية، لذلك أصبحت أفضل أن لا أرجع إلى كتاب أحببته يومًا، لأننا نتأثر بالأشياء في مراحل حياتنا بشكل مختلف حتى لو كانت الأشياء هي ذاتها سواء كتب أو أفكار أو حتى أشخاص؛ على سبيل المثال كنت حين أقرأ حوارات الأبطال وأنا في سن الخامسة عشرة في ثنائية سحر خليفة "عباد الشمس" و"الصبار" أجد أنها صعبة، وأعيد قراءتها كثيرًا وغالبًا لا أفهمها، بعد أن مر العمر وعدت إليها في وقت ما، وجدتها خطابية ومباشرة، لكن هذا الأمر ليس سلبيًا، بل على العكس يشجع كثيرًا من يخشى كتابة الرواية أن يخوض بها دون خوف.

  • هل تغيّرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

أنا ذاتي تغيرت بعد الكتابة الالكترونية فما بالك بعلاقتي مع الكتب، لقد كانت الكتب الإلكترونية قدرا لأكتشف الكثير في حياتي الشخصية وليس فقط الأدبية والفكرية، كان لها فضل جميل وقاسي أحيانًا، ربما هذه عبارات غامضة تحتاج هي بذاتها كتابا لشرحها، لكن أراهن على ذكاء من يقرأها.

إن الكتابة الالكترونية غيرت تاريخ الأفكار وإنتاج المعلومات وسط كمية "داتا" ضخمة في الفضاء السيبيري على الانترنت من مدونات ومواقع الكترونية ومكتبات.

لقد احتل التدوين الالكتروني مكانًا كبيرًا من حياتنا كقراءة أو كتابة، وأصبحت الكتابة بفضله أكثر صدقا وواقعية وجرأة، وجعلنا التدوين نتخطى كثيرا من الكتب والأدباء كان لوجودهم تعويضا عن الصمت والخوف والمسكوت عنه. إلا أن التدوين بمقدار ما اختصر علينا إلا أنه حرمنا الكثير؛ حرمنا لذة الاكتشاف والسعي وراءه، كما حرمنا أن نجرب بدورنا الكتابة حين لا نجد ما نتمنى قراءته.

  • حدّثينا عن مكتبتك؟

الآن بعد أن خسرت جميع الكتب التي اقتنيتها خلال حياتي، لم يبق لي سوى هذا الجهاز الذي أكتب عليه حاليًا، وأحتفظ على ذاكرته بمجموعة كبيرة من الكتب الإلكترونية، لكن في أي لحظة قد يعطل ويضيع كل شيء كأنه لم يكن، ولحظتها من الممكن أن أعمل على تحميل الكتب ذاتها وبناء المكتبة الالكترونية من جديد، فجميع الكتب فيها متشابهة لا تلمسها ولا تشمها ولا تسمع أوراقها ولا تميز عينك غلافها أو خطها أو خربشاتك هنا وهناك.

حزينة ربما أن الكتابة الإلكترونية جعلتنا نقرأ ونسمع عن كتب ضعيفة الفكر والطرح واللغة قد تنال الشهرة، أو نشر روايات باللغة العامية والتي قد يكون طرحها إبداعيًا، لكن ليس من حقي الاعتراض فكل عصر له أدواته، كما أن الإبداع والتجارب الأدبية لها سمات تختلف كثيرًا من وقت لآخر.

الثابت بالنسبة لي أن الإنسان ليس بكم ما يقرأه بل كيف تؤثر عليه قراءته هذه، أذكر أن شقيقتي بكت كثيرًا في أحد الأيام بعد عودتها من المدرسة الإعدادية أي قبل حوالي عقدين من الزمن، بسبب موقف مع طالبة زميلة استطاعت أن تخدعها بالحديث وتحصل منها على حكايات شخصية تخص العائلة، فقالت لي "كيف أكون قد انتهيت من قراءة ثلاثية مدن الملح لمنيف هذا الأسبوع، ولم أفهم ما تريده هذه البنت، حزينة أني لم أتعلم شيئًا!".

  • ما الكتاب الذي تقرئينه الآن؟

أقرأ ثلاثة كتب مع بعضها البعض فإذا تعبت من أحدها أنتقل إلى آخر. "نساء يركضن مع الذئاب" لكلارسيا بنكولا، ورواية "المولودة" للمصرية نادية كامل وهي بالعامية، و"الناقوس الزجاجي" لسيلفيا بلاث.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة تيسير خلف

مكتبة مريم العطّار