04-ديسمبر-2018

الروائي المصريّ مكاوي سعيد (1956-2017)

ماذا يجب أن يُكتب؟ أو كيف من الممكن أن يُكتب؟ سؤالان هما كلّ ما سوف يجدهُ المرء أمامه في ذكرى رحيل الكاتب والروائي المصريّ مكاوي سعيد (1956-2017) التي تحلّ يوم 2 كانون الأوّل/ ديسمبر.

من الممكن الآن، مهما طال غيابه، القول إنّ رحيله لا يزال طازجًا، وإنّ الجرح الذي خلّفه هذا الرحيل المُفاجئ عند البعض، لا يزال مفتوحًا، دون أن يندمل، تمامًا كما لو أنّه حدث يوم أمس. وما ليس من الممكن أن يؤكّد أيضًا، هو أنّ سعيد نفسه ليس بحاجة إلى رثاء أو مدح أو استعادات جديدة، ولن يُطالب بها إطلاقًا. ذلك أنّ ذكراهُ ثابتة عند الأصدقاء والقرّاء معًا، وحضورهُ في مقاهي وسط البلد في مدينة القاهرة هو الآخر لا يزال ثابتًا أيضًا.

أمضى مكاوي سعيد سنوات حياته بعيدًا عن العزلة، وعن التقشّف في العلاقات الاجتماعية

أمضى مكاوي سعيد سنوات حياته بعيدًا عن العزلة، وعن التقشّف في العلاقات الاجتماعية، أو وضع حواجز "أدبية" بينه وبين الآخرين، القراء تحديدًا. وفي الوقت الذي كان فيه من الصعب أن يُقابل أي إنسان روائي أو كاتب مصادفةً، أو حتّى من خلال ترتيب موعدٍ مُسبق معه، كان من السهل العثور من ألّف "فئران السفينة" في ركنه المفضل في مقهى "زهرة البستان" وسط البلد. الأمر، أي لقاء مكاوي سعيد، كان سهلًا جدًا، وأبسط مما قد يتوقّع البعض. ذلك أنّ سعيد كان منحازًا، منذ أن بدأ مشواره الأدبيّ، إلى الصخب أو ما كان يُسمّيه هو بـ"الدوشة". بعبارةٍ أخرى، كان الراحل غير ميّالًا إلى العزلة أبدًا، لا كنمط أو أسلوب حياة، ولا كفضاءٍ يحتاجه الكاتب عادةً للكتابة والإنتاج الأدبيّ. كان يُفضّل الأماكن المزدحمة كفضاءٍ للكتابة، وتحديدًا وسط البلد ومقاهيها. مُفسِّرًا الأمر في حواراته بأنّ الصخب وحركة البشر من حوله يمنحانه أصواتًا أكثر داخل روايته، ويجعلان منها أكثر ترابطًا وصلةً بالواقع.

اقرأ/ي أيضًا: مكاوي سعيد: أنا كاتب كسول ومزاجي

كلّ ذلك لا يعني إطلاقًا أن مكاوي سعيد، من خلال اقترابه من البشر وسط البلد، وبناء علاقات اجتماعية واسعة مع القرّاء ممن عرفوه شخصيًا، أو غير القرّاء، كان قريبًا، أو يسعى إلى الانخراط فيما نراه من تكتلاتٍ وانحيازاتٍ أدبية، وظواهر اجتماعية يتبنّاها عدد من الروائيين والأدباء بصورةٍ عامّة، الهدف الأساس منها هو إعلان الذات أو الـ "أنا"، وشدّ الانتباه وغيرها من الأمور الأخرى. ناهيك عن أنّ انحيازه إلى حياة المقهى والصخب، كان بعيدًا كلّ البعد عن مسائل الشهرة، هو الذي ظلّ دائمًا يتمنى أن يموت مجهولًا ومهمّشًا، شأنهُ شأن شخصيات وأبطال رواياته، تلك القريبة أو المأخوذة أساسًا من واقع الحياة اليومية للأحياء المهمّشة في مدينة القاهرة.

الحديث عن بدايات مكاوي سعيد الأدبية، سيقود المتحدّث دون شك إلى مجموعته القصصية الأولى "الركض وراء الضوء" (1981)، باعتبارها العمل السردي الأوّل الذي نُشِرَ للراحل. غير أنّ هناك أمرًا آخر كان من المفروض أن يلتفت إليه البعض بصورةٍ جديّة وجادّة عندما كان من كتب "تغريدة البجعة" لا يزال حيًّا. الحديث هنا عمّن حاور وأجرى مقابلات مع الراحل دون أن يتطرّق بشكلٍ جدّي إلى تجربته الشعرية، ودون أن يطرح أسئلة عميقة تبيّن ملامح تلك المرحلة التي ظلّت بمنأى عن أي حديث تناول تجارب الروائي، نقدي كان أو غيره.

ومع أخذ ما سبق بعين الاعتبار، يصبح كلّ حديثٍ يحاول أن يُحيط بحياة مكاوي سعيد الأدبية بصورةٍ شاملة، ناقصًا بشكلٍ أو بآخر. لأنّ إهمال هذه التجربة، على صغرها وقصرها، هو بطبيعة الحال إهمال لمرحلة تأسيسية في حياة الكاتب. ومن الطبيعي القول إنّ كلّ التجارب والمراحل التي مرّ بها أدبيًا، بُنيت، وإن أجزاءً منها، على تجربته الشعرية هذه، وإهمالها يعني إهمال أساس كلّ تجارب سعيد الأخرى. ومُحاولة الإحاطة بهذه التجربة الصغيرة ستكون دون جدوى، ذلك أنّ الروائي المصريّ هو الأكثر درايةً ومعرفةً بتجربته هذه، وحدَهُ.  هو الذي قال إنّ الشّعر الذي كان يكتبه في سنوات الجامعة، كان مفتاحًا لدخوله فضاء السرد، إذ إنّ ما يحتاجه المرء لأن يكتب، أي اللغة، تكوّنت عنده بفعل كتابة الشّعر الذي عبّر عن حزنه لأنّه توقّف عن كتابته بعد أن اتّجه نحو الرواية والقصة والقصيرة.

نشر مكاوي سعيد مجموعته القصصية الأولى سنة 1981، أي في السنوات التي كان فيها ميّالًا إلى كتابة الشّعر

نشر مكاوي سعيد مجموعته القصصية الأولى سنة 1981، أي في السنوات التي كان فيها ميّالًا إلى كتابة الشّعر، ذلك الذي أسَّس لشهرته المؤقّتة في الجامعة، والذي كان الراحل يشتغل على تبنّيه وتطويره ليصير شعرًا حقيقيًا يتجاوز أسوار الجامعة ومسامع الأصدقاء. المجموعة الأولى، أي "الركض وراء الضوء"، من الممكن وصفها بأنّها، بحد ذاتها، قصّة دأب الراحل على سردها للجميع، لا سيما في الحوارات التي أجريت معه. باعتبارها، أوّلًا، ما أبعده عن الشّعر، ووضع بينهما حواجز اكتشف لاحقًا أنّه بات من الصعب تجاوزها وتفاديها. ثانيًا لأنّه اندفع نحو القصّة القصيرة متأثرًا بيوسف إدريس وأنطوان تشيخوف وغيرهما من كتّاب القصّة القصيرة، ولشعوره أيضًا بأنّه لن يكون قادرًا على المنافسة، شعريًا، بين ثلّة من الشعراء الكبار آنذاك، عكس القصة التي شعر بأنّه لربّما يستطيع على الأقل حجز مكانًا لنفسه في فضاءها.

اقرأ/ي أيضًا: بجعة مكاوي سعيد لن تغرّد مجددًا

ثالثًا، وهذه القصّة الأكثر أهمية، لأنّ "الركض وراء الضوء" كادت تنهي مسيرته الأدبية، وتضع حاجزًا أبديًا بينه وبين الأدب، وذلك لأنّ الراحل كان تكفّل بنشرها على نفقته الخاصّة، دون معرفة عائلته، وبمساعدة بعض أصدقائه. هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى لأنّ المجموعة جاءت على عكس توقّعات الكاتب، دون أن تحقق أية نسبة مبيعات، وإن كانت ضئيلة، بعد أن وزّعها بمفرده على المكتبات وباعة الكتب والجرائد، أولئك الذين إمّا باعوا النسخ وأنكروا ذلك، أو أنّها حقًّا تعفّنت في المستودعات والمخازن دون مبيعات. كلّ تلك الأمور، لا سيما الأخيرة منها، تجمّعت دفعةً واحدة لتثقل كاهل مكاوي سعيد، وتبعده عن السرد لمدّة عشرة سنواتٍ تقريبًا، أي إلى أن أصدر روايته الأولى "فئران السفينة" سنة 1991. بعد ذلك، توالت مجموعاته القصصية واحدة وراء الأخرى، ولكنّها ظلّت دون مستوى ثابت، متأرجحة بين الجيدة والممتازة، دون أن تحقّق ذلك الحضور القوي الذي حقّقته الرواية.

إذًا، كانت "فئران السفينة" مفتاحًا لعودة مكاوي سعيد إلى فضاء الأدب مجدّدًا، بعد قطيعة دامت عشر سنوات. ومن المعروف أنّها الرواية التي وضعت الراحل إزاء عتبة أخرى وجديدة للكتابة بعد أن حصدت (جائزة سعاد الصباح)، ذلك أن سعيد قرّر آنذاك التفرّغ للكتابة، الأمر الذي مهّد لولادة روايته الأكثر أهميةً في تجربته، وهي "تغريدة البجعة"، لا لأنّها وصلت إلى القائمة القصيرة لـ "جائزة البوكر العربية"، وإنّما لأنّها العمل السرديّ الذي حدّد وأوضح وبيّن ملامح أسلوب الراحل، وأفكاره. ناهيك عن أنّها الرواية التي ترك فيها سعيد إشارات تدلّ وتقود إلى بعض تفاصيل حياته من جهة، وأفكاره من جهةٍ أخرى. وأكّدت أنّ من ألّف "كراسات التحرير"، ليس بحاجة إلى بناء أو ابتكار عوالم متخيلة تنهض عليها حكاياته وشخوصه، ذلك أنّه لطالما نهل مما تلتقطه عيناه وسط البلد وغيره من الأماكن في مدينة القاهرة، دون أن يعني ذلك افتقار الراحل للخيال، أو غيابه عن أعماله إطلاقًا.

بناءً على كلّ ما سبق، وضع مكاوي سعيد على عاتقه مهمّة تدوين شقاء البشر من حوله، في الأماكن والأزقة والأحياء المهمّشة، بكلّ نماذجها البشرية وبؤسها وخيباتها وأحلامها المؤجّلة وتلك التي لن تتحقق.

يقف قارئ "تغريدة البجعة" إزاء بشرٍ يلازمهم شعور الاغتراب تجاه مجتمع يشعرون بأنّه لا ينفكّ يلفظهم ويبادلهم العداء

كلّ ما سبق حضر في "تغريدة البجعة"، تلك التي سرد سعيد فيها حكاية شاب يجد نفسه فجأةً متورّط في عالم أبناء الشوارع، بعد أن قرّر مساعدة صديقته الأمريكية التي تعمل مخرجةً وثائقية، ومن خلال مبالغ من المال، وكاميرا توثّق ما يحصل في تلك الأماكن الخلفية، تحوّل الشاب إلى جزء من تلك الأماكن وبشرها. ومن خلاله، رصد صاحب "راكبة المقعد الخلفي" التحوّلات والمتغيّرات التي طرأت على المجتمع المصريّ في عقد الثمانينيات. وأعاد سرد سيرة جيل بأحلام وأفكار مجهضة، مُحبط ومسلوب القوّة بفعل واقع سياسي وآخر اجتماعي يرفضهما، ويعزّزان في الوقت نفسه من شعور الفشل والاستسلام والرضوخ لديه، ما يدفعه إلى أمورٍ وأفعال ظلّ يظنّ لسنواتٍ طويلة أنّه لن يقربها أو يفعلها، لأنّها خيانة صريحة لما هو مؤمنٌ به.

اقرأ/ي أيضًا: قاهرة مكاوي سعيد

يقف القارئ في تغريدة البجعة إزاء بشرٍ وشخوصٍ يلازمهم شعور الاغتراب وغياب الانتماء تجاه مجتمع يشعرون بأنّه لا ينفكّ يلفظهم ويبادلهم العداء، حتّى باتوا مسكونين بشعور أنّ كلّ ما يُحيط بهم، يكنّ العداء لهم.

اقرأ/ي أيضًا:​

لماذا عليك الآن قراءة رواية "أسوار" لمحمد البساطي؟

رشا عدلي.. إضاءة ما أهمله التاريخ