09-أبريل-2025
لا تتجاوز مساحة كافي ريش عشرات الأمتار لكنه ترك أثرًا في المشهد الثقافي والسياسي المصري (منصة إكس)

لا تتجاوز مساحة كافي ريش عشرات الأمتار لكنه ترك أثرًا في المشهد الثقافي والسياسي المصري (منصة إكس)

في 17 شارع طلعت حرب بوسط العاصمة المصرية، وفي قلب القاهرة التاريخية، يقع مقهى لا تتجاوز مساحته عشرات الأمتار، لكنه ترك أثرًا في المشهد الثقافي والسياسي المصري، بل والعربي كذلك، فهو حلقة الوصل التي تربط بين التراث والحداثة، بين الأصالة والعصرنة، هذا الكيان المعروف بـ "مقهى ريش".

تأسس المقهى  عام 1908 علي أنقاض قصر محمد علي بالقاهرة، كان أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية، وظل لعقود طويلة غرفة أعمال المقاومين والثوار ضد الاحتلال الإنجليزي، وتحول في إحدى محطاته كبؤرة دعم قوية للقضية الفلسطينية، ونقطة التقاء للتيارات الفكرية والأيديولوجية المصرية والعربية.

وبعيدًا عن المقاهي التي طالتها آلة التشويه باسم التطوير والحداثة، ظل مقهى "ريش" استثناءً يشذّ عن القاعدة، محافظًا على طابعه التراثي وحضوره التاريخي، وهويته الثقافية، فبات المزار الذي لا يجهله أديب ومثقف، وقبلة الباحثين عن الأصالة، والطاولة التي يلتف حولها هواة السياسة من النخبويين والعامة.

تأسس المقهى  عام 1908 علي أنقاض قصر محمد علي بالقاهرة، كان أكبر تجمع للمثقفين والسياسيين في المنطقة العربية، وظل لعقود طويلة غرفة أعمال المقاومين والثوار ضد الاحتلال الإنجليزي

طراز أوروبي في حاضنة العمارة الإسلامية

تأسس المقهى بأياد ألمانية خالصة، حيث بٌني على الطراز الأوروبي، غير أنه ومع بداياة الحرب العالمية الأولى، بيع لأحد الرعاة الفرنسيين في القاهرة، وهو رجل الأعمال هنري بير، الذي كان يكن للمقهى مكانة وأهمية كبيرة لدرجة أنه منحه اسم اشهر الكافيهات في باريس وهو "كافيه ريش".

وبعد ذلك انتقلت ملكية المقهى من رجل الأعمال الفرنسي إلى ملاك أخرين،  يونانيين وإيطاليين، وصولًا إلى المصري مجدي ميخائيل، الذي يملكه حتى الآن، والذي حافظ على اسمه خالدًا دون أي تغيير رغم محاولة الكثيرين إطلاق أسماء أخرى على المقهى الذي تحول مع مرور الوقت إلى أيقونة تجمع فوق مناضدها الحضارتين الأوروبية والإسلامية.

ويتميز المقهى بالأناقة والشياكة المُبهرة، حيث البناء الفخم رغم بساطته، إذ يكفي للزائر خطوات قليلة يخطوها من الباب الرئيسي وصولًا إلى ممره الضيق الذي يفصل بين صفي الكراسي على الجانبين، حتى يجوب على جناح السرعة في جولة خاطفة  تأخذك إلى أكثر من مئة عام من الأحداث التاريخية المؤثرة، فكل طوبة بداخله تساوي عشرات الأعوام من الأصالة والتراث.

حتى من لم يحالفهم الحظ في دخول هذا المكان الأسطوري، فحتمًا سيتنسمون عبير تراثه من خلال الأنغام الصادرة عنه، والتي تتسلل من تحت بابه الزجاجي، بداية من سيمفونيات تشايكوفسكي الراقية مرورًا بمقطوعات بيتهوفن الرائعة وصولًا إلى الأصالة المصرية المٌبهجة حيث أصوات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب علي "الجرامافون"، القابع في إحدى زوايا المقهى والذي يعود إلى العصور الملكية الأنيقة.

ملتقى المثقفين والفنانين العرب

في قصيدته التي غناها الشيخ إمام عام 1967 كتب الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم، الملقب بـ "الفاجومي" يقول "يعيش المثقف على مقهى ريش.. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزحام.. وكام اصطلاح.. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقف.. يعيش يعيش يعيش"، معبرًا عن القيمة الثقافية للمقهى التي تحولت إلى ملتقى المثقفين من مختلف بلدان العالم.

وظل "ريش كافيه" ملتقى النخبة المصرية والعربية من المثقفين والأدباء والمحامين والساسة، أبرزهم نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وأمل دنقل، ويحيى الطاهر عبد الله، وصلاح جاهين، وثروت أباظة، ونجيب سرور، وكمال الملاخ، والمثال كامل جاويش والرسام أحمد طوغان والمحامي الأديب عباس الأسواني وشاعر النيل حافظ إبراهيم وامام العبد ومحجوب ثابت ومحمد البابلي والشيخ أحمد العسكري وكامل الشناوي ومحمد عوده كامل زهيري ومحمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي وزكريا الحجاوي.

ومن العرب الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي وحسين الحلاق السوري والشاعر معين بسيسو الفلسطيني والشاعر السوداني محمد الفيتوري ومحمد أحمد نعمان السياسي اليمني والامير علي عبد الكريم سلطان الحج المخلوع وغيرهم ممن كانوا يحرصون على حضور ندوات الأديب نجيب محفوظ الأسبوعية التي كان يعقدها عصر الجمعة من كل أسبوع.

وفي كتابه (تاريخ مصر القومي 1914- 1921) يقول الكاتب والمؤرخ المصري عبد الرحمن الرافعي أن المقهى كان معقلًا لمختلف الطلائع السياسية المتحررة من التعصب الحزبي،  وكان متنفسا لكل الطبقات والانواع من الناس علي اختلاف نزاعتهم، وهو ما دفع عناصر الأمن المصري للتواجد بصفة مستمرة في المقهى عبر الجواسيس والمخبرين لاستطلاع ما يقوله الناس ويخططون له.

وكان المقهى قد تعاقد مع الملحن الشيخ أبو العلا محمد والفنانة أم كلثوم التي كانت حينها طفلة ( 12عامًا تقريبًا) ترتدي العقال والملابس العربية على إقامة حفلات غنائية منتظمة بناء على طلبات الرواد، حسبما اكدته صحيفه المقطم في عددها 30 الصادر أيار/ مايو 1923 عبر إعلان يحدد يوم الخميس موعدًا أسبوعيا لوصلات غنائية وتواشيح بصوتها الرقيق، وكان سعر الكرسي وقتها 15 قرشا (الجنيه يساوي 5 دولار حينها).

مدرسة سياسية ثورية

لم يكن "ريش كافيه" مجرد مقهى يلتقي فيه الفنانون والمثقفون وعشاق الأصالة والتراث، بل كان مسرحًا كبيرًا للعمل السياسي والنضال الثوري في مواجهة الاحتلال، داخل مصر وخارجها. ومع مرور الوقت، تحوّل إلى ما يشبه غرفة عمليات لقادة الثورة، يناقشون فيه الخطط، ويؤدون بروفات العمليات الفدائية، ويطبعون المنشورات الثورية.

وخلال ثورة 1919، لعب المقهى دورًا محوريًا في تجييش الشارع المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، إذ كان مالكه في ذلك الوقت — وسط تأرجح الروايات حول جنسيته، بين كونه مصريًا أو يونانيًا أو إيطاليًا — عضوًا في أحد التنظيمات السرية المناهضة للاستعمار. وقد خصص القبو الأرضي أسفل المقهى لعقد اجتماعات الثوار.

واتخذ حزب الوفد من "ريش" مقرًا لطباعة منشوراته المناهضة للاحتلال، فكان صاحب المقهى يعمد إلى تشغيل الموسيقى بصوت مرتفع للتغطية على ضجيج آلات الطباعة في القبو، خوفًا من أن يسمع الجيران الصوت ويبلغوا البوليس السري.

ولعب "ريش" دورًا ثوريًا قويًا كذلك في دعم القضية الفلسطينية، فمن على أبوابه انطلقت ثورة الأدباء الشهيرة احتجاجًا على اغتيال الروائي الفلسطيني غسان كنفاني عام 1972 الذي نزح من فلسطين ليلقى مصيره في لبنان بعد استهداف الموساد الإسرائيلي سيارته ليفجر دمه الطاهر "مظاهر الغضب العربي ضد إسرائيل" والاحتلال الغاشم.

وبعد توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل تحول المقهى إلى مسرح كبير لمواجهة هذه الخطوة التي وصفها المثقفون وقتها بـ "العار" الذي يجب ملاحقته، حيث شهد نقاشات حادة بين المثقفين والأدباء والساسة والصحفيين لتشكيل جبهة معارضة قوية لتلك الاتفاقية والمطالبة بإلغائها فورًا.

وظل القبو الأرضي للمقهى ودوره الثوري ملفًا سريًا لكثير من المتابعين، حتى الزلزال الذي ضرب مصر عام 1992، حيث تعرض المبنى الذي به المقهى لأضرار بالغة، دفعت مالكه للنزول للقبو لأول مرة منذ عقود ليكتشف المفاجأة التي غابت قرابة 73 عاماً، لتظهر بعض الأوراق والطابعة التي كان يطبع بها المنشورات آن ذاك.

وإيمانًا وتقديرًا بالقيمة التاريخية والثقافية والوطنية لمقهى "ريش" التي وثقتها الروايات والقصص الأدبية، والدراسات التاريخية، فرض الكافيه نفسه بقوة على المنتجين والمخرجين، فكان حاضرًا في العديد من الأعمال الفنية، الدرامية والسينمائية، التي سلطت الضوء على بعض ملامح هذا الدور، من أبرزها مسلسل "الحشاشين" وفيلم "كيره والجن".

وبعد 117 عامًا على إنشاءه، لا زال "ريش"، حتى وإن لم يكن بنفس الزخم السياسي والثقافي الذي كان عليه قبل عقود طويلة، يقدم نفسه ليس كـ "مقهى" وفقط، لكن كـ "كيان" ينضح أصالة وتاريخًا وقيمة لا تُقدر بثمن، وملتقى للأدباء والمثقفين، وذلك رغم عوامل التعرية الحضارية والإهمال الثقافي الذي شهده المجتمع المصري خلال العقود الأخيرة.