مقهى "الباقة": رمادٌ لذاكرة غزة المدنية
1 يوليو 2025
في ظهيرة يوم الاثنين، وبينما كانت أصوات الحرب تواصل خنق ما تبقى من الحياة في مدينة غزة، تحوّل مقهى "الباقة"، الواقع على الكورنيش الشمالي للمدينة، إلى ساحة دمار بعدما استهدفته طائرة إسرائيلية بصاروخ دقيق التوجيه، أدى إلى استشهاد ما لا يقل عن 30 شخصًا وإصابة العشرات، وفقًا لوزارة الصحة في غزة.
كان مقهى "الباقة" أكثر من مجرد مقهى في مدينة تفتقر إلى الكهرباء والاتصال بالعالم الخارجي. كان واحدًا من الأماكن القليلة التي تتيح خدمة الإنترنت، ما جعله مقصدًا للطلبة والباحثين عن لحظة اتصال، للصحفيين المستقلين والفنانين الشباب.
وبينما انهارت شبكة الكهرباء في أغلب أحياء المدينة بفعل الحصار والقصف، ظل المقهى يستقبل الناس من مختلف الفئات، بحثًا عن فرصة لشحن هواتفهم أو التواصل مع العالم الخارجي.
مقهى "الباقة" في المدينة التي تعاني من انقطاع الكهرباء والاتصال كان من الأماكن القليلة التي توفر الإنترنت، فكان ملتقى للطلبة، الصحفيين المستقلين، والفنانين الشباب
المكان الذي كان ينبض بالحياة
قبل دقائق فقط من الانفجار، كان المقهى يعجّ بالحياة. شبّان وفتيات يحملون الحواسيب المحمولة، فنانون يشاركون أعمالهم عبر الإنترنت، صحفيون يرسلون تقاريرهم، وأسرٌ تحاول جاهدة شحن هواتفها الذكية، في محاولة يائسة لتتبع أخبار ذويهم.
أوضح الصحفي أحمد النيرب (26 عامًا) لوكالة "الصحافة الفرنسية"، وقد كان يسير على الشاطئ القريب لحظة وقوع القصف: "هناك دائمًا كثير من الناس في هذا المكان، الذي يقدّم المشروبات، ومساحات للعائلات، واتصالًا بالإنترنت".
ويُضيف: "كان المقهى مكتظًا، كما هو معتاد. وفجأة، دوّى انفجار قوي، وتطاير الزجاج في كل الاتجاهات. عدتُ راكضًا إلى المكان، فلم أجد ما يشبهه. كانت الأجساد مبعثرة... أعرف الكثير ممن كانوا في الداخل".
وتابع:"كانت مجزرة حقيقية. رأيت أشلاء أجساد تتطاير، وجثثًا متفحمة ومشوّهة. كان مشهدًا مروّعًا... الجميع كان يصرخ".

شهادات من قلب المجزرة
بحسب الشهادات التي جمعتها صحيفة "الغارديان"، فإن الانفجار وقع من دون سابق إنذار. "كنا نظن أن هذا المكان آمن"، تقول بيان أبو سلطان، وهي مراسلة صحفية فلسطينية أصيبت بجروح جراء القصف. وتابعت: "لا أحد كان يحمل سلاحًا، لا رايات، لا أي شيء يمكن أن يُفهم على أنه تهديد".
بدوره، قال الحاج أبو النور (60 عامًا) للصحيفة البريطانية إنه خرج من المقهى لتناول الغداء، وكان في طريق عودته إليه عندما وقع القصف.
يروي بصوت متهدّج: "ما إن اقتربت حتى دوى انفجار صاخب. تطايرت الشظايا في كل اتجاه، وامتلأ المكان بالدخان ورائحة البارود. ويضيف: "لم أعد أرى شيئًا. ركضت نحو المقهى ووجدته مدمّرًا بالكامل. دخلت لأجد الجثث ممددة على الأرض. جميع العاملين في المقهى قُتلوا".
ويتابع أبو النور بحرقة: "كانت هناك عائلة بصحبة أطفالها الصغار. لماذا استُهدفوا؟ لقد كان المقهى مكانًا يلجأ إليه الناس هربًا من ضغوط الحياة".
في حين قال آدم، أحد الناجين من القصف، وكان يعمل على تنظيف الأرصفة المجاورة: "سمعت الانفجار، ثم بدأت أرى الناس يركضون... ثم عاد الصراخ. رأيت طفلًا لا يتجاوز الخامسة يحاول النهوض من أمام جسد أبيه المحترق".
"كان المكان بمثابة نافذة صغيرة للحياة في قطاع يختنق... كنا نأتي هنا لننجو مؤقتًا من العتمة"، يقول الصحفي المصاب آدم شحادة لوكالة "أسوشيتد برس".
ومن مكان قريب، قال أحد الناجين: "إسرائيل قتلتنا ونحن فقط نشتري خبزًا أو نشحن هواتفنا... هذا المكان لم يكن يشكل خطرًا… قُتل مشاهير صحفيون وفنانون باسم مكافحة الإرهاب".
وفي حديث للوكالة، أوضح أحد عناصر الدفاع المدني أن "الضحايا كانوا يحترقون وهم أحياء، وكان من المستحيل إخراج بعضهم من تحت الأنقاض بسبب النار".
من بين الضحايا: صحفيون وفنانون
من بين الشهداء، المصوّر الصحفي الشاب إسماعيل أبو حطب، المعروف بتوثيقه اليومي للحياة في غزة عبر عدسته. والفنانة التشكيلية آمنة السالمي المشهورة باسم (فرانس السالمي). أما الطالب في كلية الإعلام بجامعة الأقصى،محمد لبد، فقد وُجدت جثته متفحمة قرب مدخل المقهى
كما أُصيب فنانون موسيقيون وأساتذة جامعيون، كانوا قد لجأوا إلى المقهى لمتابعة أعمالهم في ظل انهيار الخدمات في مناطقهم.
يقول الكاتب والناشط الثقافي إبراهيم حمودة، في حديث لموقع "هافينغتون بوست": "هذا المقهى لم يكن فقط مكانًا للجلوس وشرب القهوة، بل كان مركزًا ثقافيًا مصغّرًا، ملاذًا أخيرًا للحياة، للكتابة، للموسيقى. ضربه هو ضربة في قلب روح غزة المدنية".
وكتب أحد المعلّقين على تطبيق "Reddit": "عندما يتحول مقهى بسيط إلى هدف عسكري، فهذا يعني أن إسرائيل لا تترك أي فضاء للحياة في غزة... لا إنترنت، لا كهرباء، لا أمان".
يُذكر أن المقهى والمطعم صمدا حتى الآن لأكثر من عشرين شهرًا من الحرب، وكانا يُشكّلان فسحة نادرة للراحة من دوامة العنف اليومي.
الادعاء الإسرائيلي
في بيان مقتضب، زعم المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الهجوم استهدف "عناصر إرهابية تنشط في الموقع"، مضيفًا أن القصف تم "بعد مراقبة جوية دقيقة". لكن المنظمات الحقوقية الدولية شككت في هذه الرواية، مشيرة إلى أن المقهى لم يكن يضم أي مظاهر عسكرية.
من جهته، دعا اتحاد الصحفيين الدوليين إلى "تحقيق دولي مستقل في جريمة قصف المقهى"، مؤكدًا أن "استهداف الصحفيين بات نمطًا متكررًا في الحملة الإسرائيلية على غزة". كما نددت "هيومن رايتس ووتش" بالقصف واعتبرته "خرقًا واضحًا لقوانين الحرب".

مقهى الباقة بعد القصف: صورة غزة كلها
لم يبق من المقهى شيء سوى الرماد. طاولات محترقة، أجهزة حاسوب محطمة، بقايا فناجين قهوة، وملاحظات صغيرة كتبها الطلبة قبل لحظة المجزرة. أصبحت صورة "الباقة" اختصارًا لما تعيشه غزة: مزيج من الإبداع والمقاومة المدنية، يُمحى بلحظة واحدة بصاروخ.
تقول نجوى عبد الله، فنانة شابة فقدت شقيقها في القصف: "كان يأتي هنا يوميًا ليرسل طلب الهجرة... كان يحلم فقط بأن يعيش. لماذا قتلوه؟"
من ركام المقهى تنبعث غزة
وفي وقت يتواصل فيه القصف على أنحاء متفرقة من قطاع غزة، يتحول مقهى "الباقة" إلى أكثر من مجرد مبنى دمّرته غارة جوية، بل إلى رمز حيّ لمأساة تتجاوز العدوان العسكري إلى اغتيال الحياة اليومية وطمس معالم الذاكرة الجمعية.
لقد كان "الباقة" مأوى للكُتّاب والصحفيين والفنانين، وفضاءً صغيرًا لمدنيين يحاولون النجاة من أعباء الحصار والقصف، والتمسك بما تبقى من طقوس الحياة.
إن تدميره لا يمثّل فقط خسارة مادية، بل طعنة في خاصرة الروح المدنية لغزة. ورغم الركام والدمار، لا يزال المقهى حيًّا في ذاكرة الناجين، شاهدًا على أن هذا المكان، كما غزة كلها، مستهدف لأنه يمنح أهله لحظات من العيش، لا الحرب.