29-ديسمبر-2019

غلاف الرواية

هذا مقطع من رواية "مائدة القط" للكاتب السيرلانكي الكندي مايكل أونداتجي التي صدرت مؤخرًا عن دار روايات في الشارقة بترجمة العمانية زوينة آل تويّة


أيُّ شيء كان هناك في حياتي قبل باخرة كهذه؟ قارب (كانو) في رحلة نهرية؟ أم زورق (لَنْش) في ميناء (ترينكومالي)؟ كانت هناك دومًا قوارب صيد في أُفُقنا. بيْد أنني ما تخيَّلت قطُّ عَظَمَة هذه القلعة التي ستعبر البحر. كانت أطول رحلات قمت بها إمَّا بالسيارة إلى نُوارا إليا وسهول (هورتون)، وإمَّا بالقطار إلى (جَفْنَا) الذي كان يُقلُّنا في السابعة صباحًا ونترجَّل منه في وقت متأخِّر من الأصيل. كنَّا نقطع تلك الرحلة حاملين معنا فطائر بيض، حلوى (تالاغولي)، رُزمة ورق اللعب، ونسخة صغيرة من سلسلة مغامرات "بويْز أُون".

بيْد أنَّه بات مُزمَعًا الآن أن أسافر إلى إنكلترا بالباخرة، وأن أمضي في الرحلة بمفردي. لم يُذكَر أنَّ هذه الرحلة ستكون تجربة غير عاديَّة أو مثيرةً أو خطِرة، ولذا لم أُقبِل عليها بفرح أو خوف. لم أُخْطَر بأنَّ للباخرة سبعة طوابق تحمل أكثر من ستمائة شخص منهم قبطان، وتسعة طُهاة، ومهندسون، وبيطري، وأنها تضم سجنًا صغيرًا وأحواض سباحة معالَجة بالكلور ستبحر معنا في الواقع قاطعةً محيطيْن. على نحوٍ عرضي وضعت عمَّتي علامةً على تاريخ المغادرة في الرُّوزنامة، وأبلغت المدرسة بأنني سأغادر في نهاية الفصل الدراسي. لقد جرى الحديث عن حقيقة وجودي في البحر أحد وعشرين يومًا بأنها أمر غير ذي أهمية كبيرة، ولذلك أثار استغرابي أن يزعج أقاربي أنفسهم حتى بمرافقتي إلى الميناء. وقد خِلْتُ أنني سأركب حافلة بنفسي، ثم أبدِّل بها أخرى في تقاطع (بوريلا).

كانت هناك محاولة واحدة فقط لتعريفي بوضع الرحلة. تبيَّن أنَّ سيدةً تُدعى (فلاڤيا پرِنْز) كان زوجها يعرف خالي، تقوم بالرحلة نفسها، وقد دُعِيتْ إلى تناول الشاي ذات أصيل لمقابلتي. ستسافر في الدرجة الأولى، ولكنها قطعت وعدًا بأن تبقي عينها عليَّ. صافحتُ يدها بحذر؛ لأنها كانت مُغطَّاة بالخواتم والأساور، ثم استدارت لتواصل الحديث الذي قطعتُه. قضيتُ معظم الساعة أستمع إلى بعض الأعمام وأَعُدُّ الفطائر المقطوعة الحافَّات التي أكلوها.

في يومي الأخير وجدت دفترَ امتحان مدرسي فارغًا، قلمَ رصاص، مبراةَ أقلام، خارطةً للعالم مرسومة، ووضعتها في حقيبة السفر الصغيرة. خرجت وقلت وداعًا لمُولِّد الكهرباء، ونبشت عن قطع المذياع التي فكَّكتُها مرَّةً ولعدم استطاعتي إعادة تركيبها دفنتُها تحت المرْج. قلت وداعًا لـ(نارايان)، ووداعًا لـ(غُونِپالا).

عندما ركبت السيارة شُرِح لي أنني بعد أن أقطع المحيطَ الهندي، وبحرَ العرب، والبحرَ الأحمر، وأعبر قناةَ السويس إلى البحر الأبيض المتوسط، سأبلغ ذات صباح رصيفًا بحريًّا صغيرًا في إنكلترا، وستستقبلني أمي هناك. لم يكن سحرُ الرحلة أو مداها ما بعث فيَّ القلق، وإنَّما كان سؤال كيف ستعرف أمي موعد وصولي تحديدًا إلى تلك البلاد الأخرى.

وما إذا كانت ستكون هناك.

سمعتُ صوت ورقة تُدَسُّ تحت بابي. إنها تحدِّد لي المائدة (76) لتناول جميع وجباتي. لم ينم أحد على السرير الآخر. ارتديت ملابس وخرجت. لم أكن معتادًا السلالم، فصعدتها باحتراس.

في صالة الطعام كان هناك تسعة أشخاص يجلسون إلى المائدة (76)، وكان بينهم أيضًا صبيَّان آخران في سنِّي تقريبًا.

قالت المرأة المدعوَّة (لاسْكِتِي): "يبدو أننا نجلس إلى مائدة القط، إننا في المكان الأقل منزلة."

بدا جليًّا أننا وُضِعنا بعيدًا عن مائدة القبطان التي كانت في الطرف المقابل من صالة الطعام. كان أحد الصَّبيَّين الجالسيْن إلى مائدتنا يُدعى رام الدِّين، والآخر (كاسْيَس). كان الأوَّل هادئًا، وبدا الازدراء على الآخر، وقد تجاهل كلٌّ منَّا الآخر، مع أنني عرفت كاسْيَس. لقد التحقت بالمدرسة نفسها، حيث كنت أعرف عنه الكثير مع أنَّه كان يكبرني سنةً. كان سيِّئ السمعة حتى إنه طُرِد مدَّةَ فصل دراسي. لقد كنت على يقين بأنَّ وقتًا طويلًا سيمضي قبل أن نتبادل الحديث. بيْد أنَّ ما كان جيِّدًا في مائدتنا أنَّ حولها عددًا من الكبار المثيرين للاهتمام. كان هناك نباتيٌّ وخيَّاطٌ يملك متجرًا في (كاندي). كان الأكثر إثارة بينهم عازف بيانو قال مفاخِرًا وبمرح إنه "سقط سقوطًا مدوِّيًّا."

كان ذلك السيد (مازاݒا). في المساء يعزف مع أوركسترا الباخرة، وفي الأصيل يقدِّم دروسًا في عزف البيانو. ونتيجةً لذلك كان يعرض خَصْمًا على مقطوعاته. بعد تلك الوجبة الأولى أخذ يسلِّيني ورام الدِّين وكاسْيَس بسرد قصص عن حياته. بفضل وجودنا برفقة السيد مازاݒا وهو يبهجنا بكلمات مربكة وغالبًا داعرة من أغانٍ يعرفها، انتهينا نحن الثلاثة إلى قبول بعضنا بعضًا. ذلك أننا كنَّا خجِلين ومُحرَجين. لم تبدُر من أيٍّ منَّا حتى إشارة تحيَّة إلى الآخر إلى أن أخذنا مازاݒا تحت جناحه ونصحنا بأن نبقي عيوننا وآذاننا مفتوحة؛ لأنَّ هذه الرحلة ستكون معلِّمًا عظيمًا. ولذا مع نهاية يومنا الأول اكتشفنا أنَّنا معًا نستطيع أن نصبح فُضوليين.

كان الشخص المهم الآخر الجالس إلى مائدة القط هو السيد (نِڤِل)، مُفَكِّكُ سُفن متقاعد كان في طريق عودته إلى إنكلترا بعد إقامته ردْحًا من الزمن في الشرق. طالما نَشَدْنا هذا الرجل الضخم الطيب، ذلك أنه كان يتمتَّع بمعرفة مفصَّلة ببناء السفن. لقد فكَّك سُفُنًا عديدة ذائعة الصيت. وبخلاف السيد مازاݒا، كان السيد نِڤِل متواضعًا ولا يتحدَّث عن هذه المواقف في ماضيه إلا إن عرفتَ كيف تسترعي انتباهه لتخرج منه بحدث ما. لو لم يكن كثير التواضع في طريقة استجابته لوابل أسئلتنا لمَا صدَّقناه ولمَا افتُتِنَّا به.

كما إنَّ له معرفة كاملة بالباخرة؛ لأنه كان يُجري بحثًا في السلامة لصالح شركة خطوط الشرق. عرَّفنا إلى جماعته في غرف المحرِّك والفُرْن، وشاهدنا الأنشطة التي تجري هناك في الأسفل. مقارنةً بالدرجة الأولى عجَّت غرفة المحرِّك – عند مستوى الميل– بضجة وحرارة لا تُطاقان. لقد وضَّحت ساعتان من التَّنزُّه في أرجاء الأُورُونسَي مع السيد نِڤِل كلَّ الإمكانات الخطِرة وغير الخطِرة. أخبرنا بأنَّ قوارب النجاة المترجِّحة في الهواء تبدو خطِرة ظاهريًّا وحسب، ولذا كثيرًا ما رحتُ وكاسْيَس ورام الدِّين نصعد فوقها لنتخذ موقعًا ممتازًا للتَّجسُّس على المسافرين. لقد كانت ملاحظة الآنسة لاسْكِتِي بأننا "في المكان الأقل منزلة"، بلا أهمية اجتماعية، هي ما دفعنا إلى التصديق التَّام بأننا غير مرئيين للمسؤولين مثل ضابط المحاسبة ورئيس المضيفين والقبطان.

لقد اكتشفت على نحو غير متوقَّع أنَّ قريبةً لي من نسب بعيد تُدعى (إِمِلِي دو سارام)، كانت على متن الباخرة. من المؤسف أنَّه لم يُعيَّن لها الجلوس إلى مائدة القط. أعوامًا كانت إِمِلِي هي طريقي إلى اكتشاف ما يعتقده الكبار عني. كنت أخبرها بمغامراتي وأصغي إلى ما تقول. كانت صادقة في ما تُحبُّ وما لا تُحبّ، ولأنها كانت أكبر مني سنًّا، فقد صُغْتُ نفسي وفق أحكامها.

لأنه لم يكن لي إخوة أو أخوات، كان أقرب الأقارب إليَّ وأنا أكبر هم الكبار. لقد كان هناك جمعٌ متنوِّع من الأعمام والأخوال العُزَّاب والعمَّات والخالات البطيئات الحركة اللاتي كانت تجمعهن النميمة والمنزلة الرفيعة. كان ثمَّة قريب ثريٌّ واحد حرص حرصًا شديدًا على البقاء بعيدًا. لم يكن يحبُّه أحد، ولكنهم كانوا جميعًا يَكُنُّون له الاحترام ويتحدَّثون عنه باستمرار. كان أفراد العائلة يحلِّلون بطاقات عيد الميلاد التي كان يرسلها كلَّ عام مدفوعًا بحسِّ الواجب، ويفحصون في الصورة وجوهَ أطفاله وهم يكبرون وحجمَ منزله في خلفيَّتها الذي بدا وكأنه تباهٍ صامت. لقد ترعرعتُ على أحكام عائلية كهذه، ولذا، أخذوا يوجِّهون احتراسي إلى أن وجدت نفسي بعيدًا عن أنظارهم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

مقطع من "المتطوعون".. رواية مواسير سكلير

مكتبة زوينة آل تويّه