31-مايو-2020

بعدما كانت العزلة خيارًا فرديًا يخصُّ المُعتزل/المعزول وحدهُ، دون أن تكون شأنًا عامًّا، انقلبت الآية فجأة، إذ باتت العُزلة ليست شأنًا عامًّا فحسب، إنّما خيارًا جماعيًا يُراد منهُ النجاة، وتُرافقهُ مخاضات عسيرة عنونت سيرته المُتأرجحة بين الأمل والخيبة؛ الأمل بمغادرته إلى أحوالٍ أفضل، والخيبة من احتمال استمراره، كأسلوب للعيش، إلى أجل غير مسمّى، وإن بدا العكس صحيحًا.

استلهمت تجارب نضالية كثيرة للمعتقلين السياسيين حول العالم تجربة بوبي ساندز، حتى شاع بين المعتقلين السياسيين وأسرى الحرب الفلسطينيين تداول وممارسة ما اصطلح عليه "الإضراب الأيرلندي"، حتى تحقيق المطالب أو الموت

تحقّق هذا التحوّل في كنف وباء "كورونا" الذي فرض حجرًا منزليًا عَنون النصف الأوّل من 2020، وربّما يكتبُ ختامهُ أيضًا، في الوقت الذي تزداد فيه مُحاولات فهمها، أي العزلة/ العَزل وبمختلف أشكالها/ أشكاله، بطريقةٍ تُستعاد عبرها، بالضرورة، تجارب فريدة معها حدثت في أزمنة ما قبل الوباء، أي حينما كانت العُزلة تحدثُ بصفتها اعتقالًا لغاياتٍ يطول ذكرها، ويُمكن اختصارها بـ: عزل المرء عن نفسه وعن أفكاره وإحداث مسافة بينهما بحيث تغترب عنه ويغترب عنها بالشكل الذي يشوّهها ويشوّهه في آنٍ معًا، والنتيجة عطب في القلب والعقل الذي يُراد منه ألّا يكون مكانًا مُلائمًا للأفكار أو مُصدِّرًا لها، وإنّما مقبرةً لها.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة العزل القسري.. يوليوس فوتشيك عندما صفق للموت من أجل الحياة

هكذا، جاءت استعادة تجارب ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي ومن بعدهما يوليوس فوتشيك أيضًا، كجزءٍ من هذه المُحاولات الدؤوبة للوقوف مُقابل الحجر/ العزل بحيث يصير من المُمكن اكتشاف ملامحه بصورةٍ أفضل، وفهمه بطريقةٍ أكثر وضوحًا. لكن، ومن خلال استعادة هذه الأسماء، بدا أنّ هناك ما يجمعها غير تجربة الاعتقال القسرية المريرة، وهو المعدن الإنسانيّ الذين ولدوا من صلبه، والذي جعل ممّا خاضوه من تجارب أفعالًا إنسانية بحتة كونها جاءت أساسًا ضمن سياق نضال هذه الأسماء لأجل الانسان لا المصالح الفردية، وهو ما وضعها في الصفوف الأمامية لعملية التكوين الأخلاقي، كما وعي الإنسان الفاعل، لتصير شكلًا من أشكال البطولة المُطلقة.

ما جمع هذه الأسماء، غرامشي بحكمت وكلاهما بفوتشيك، سيجمعها مع بوبي ساندز الذي خاض بدوره تجارب مريرة مع الاعتقال/ العزل القسريّ، جعلت منه برفقة نضاله شخصية راسخة في ضمير كلّ أيرلنديّ، وقادرة في الوقت نفسه أن تكون ذات بُعدٍ عالميّ أيضًا. بالتالي، ليست استعادة ساندز هنا من باب الاستعراض، وإنّما من باب الضرورة في إزاحة الستارة عن عزلٍ آخر أكثر فتكًا، وعن خيارات المعزول/ المعتقل في مواجهته، وعن مآلات مصيره هناك.

بعبارة مقتضبة مثل: "هنا بدأ معذّبيَّ منذ زمن، ولما يزالوا لا يألون جهدًا، بإغلاق نافذة عقلي" لخّص المناضل والكاتب الأيرلنديّ تجربته المريرة في السجون البريطانية، حيث: "سريري على الأرض مبلل. لا أستطيع العثور على الدفء في أي مكان. كم من الجميل جدًا الحصول على سرير دافئ ولطيف، أو الجلوس أمام نار متّقدة وبيدك كتاب جيّد. منذ سنوات طويلة لم أرَ كتابًا أو جريدة. غالبًا ما تساءلت إن كان العالم الخارجيّ ما يزال على ما كان عليه. يا إلهي، أحيانًا أسأل نفسي هل ثمّة شيء آخر غير العذاب والأسى".

بهذه العبارة الواردة في كتابه "كتابات من السجن" يكون ساندز قد أكمل مشهد عَزله/ حَجره، تاركًا للقارئ تخيّل المأساة الحاصلة بين مُحاولات إغلاق نافذة عقله، أو تصفيته بمعنىٍ آخر أكثر دقّة، وتساؤله عمّا إذا كان هناك شيئًا آخر غير التعذيب. إنّه، بطريقةٍ ما، يُحاول إشراك القارئ في اكتشاف طبقات جحيمه داخل السجن، حيث المصائر مكتوبة ومُعدَّة مُسبقًا، وما عليه سوى انتظار حدوثها. ولأنّ مصيره بدا حتميًا لا يُمكن الفكاك منه، اختار ساندز أن يرسمه بنفسه، على الأقلّ الفصول الأخيرة منه. بكلماتٍ أشدّ وضوحًا ودقّة: اختار أن يرفع الذلّ عن نفسه بنفسه.

ما وضعهُ المناضل الإيرلنديّ في كتابه عبارة عن نصوص نثرية وأشعار ورسائل ويوميات تُخبّر ما عايشه في سجنه الذي دخلهُ بعد تجربة اعتقال قصيرة سابقة، ولكن بصفته هذه المرّة سجينًا عاديًا لا سياسيًا، ممّا يجرّدهُ برفقة غيره من السجناء الجمهوريين، أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت –IRA، من التصنيف كفئة خاصّة داخل السجن. هكذا، يتساوى ساندز مع غيره من السجناء لجهة التهمة، ولكن ما كان يعنيه آنذاك ليس تجريده من تهمته الأصلية، وإنّما إدراكه بأنّ الأمر لا يُمكن التعامل معه إلّا باعتباره جزءًا من مُحاولات الحكومة البريطانية للالتفاف على مطالب الأيرلنديين الشماليين من خلال تشويه صورة حركة التحرّر التي يقفون خلفها، وتجريمها عبر إعادة صياغة تعريف جديد لها تكون عندهُ مؤامرة إجرامية، وهو ما يتطلّب أوّلًا إعادة تعريف سجناء هذه الحركة.

في هذه الأفعال الكاشفة لكيفية تعامل الحكومة البريطانية مع مطالب الأيرلنديين ما يستدعي عند الكاتب الشّاب الإحساس بالخطر، كونها ليست إلّا مُحاولات لتصفية القضية التي اعتقلوا لأجلها. هكذا، وجدوا في الإضراب عن الطعام تعبيرًا صريحًا عن حالة الرفض داخل السجن وبين السجناء السياسيين تحديدًا، عدا عن كونها وسيلةً للضغط على الحكومة البريطانية، كما رآها آنذاك ساندز الذي كان، بصفته قائدًا لهذا الاضراب، قد وضع الفصل الأوّل من قصة موته المُعلنة، مؤكّدًا ذهابه علانيةً باتّجاه موتٍ وشيك لا يُخيفه لأنّه ورفاقه: "لا نكترث إن متنا، نحن الأحرار، من أجل أن نرى زهرة الحديقة".

الطريق الذي سلكهُ ساندز كان احتجاجيًا ورافضًا لما عايشهُ في السجن حيث: "من المخيف رؤية رجال يهرمون في سنّ الثامنة عشر والتاسعة عشر. شبّان كانوا معافين وأقوياء عقلًا وجسدًا منذ عام واحد، يمثلون الآن قواقع بشرية منكمشة على نفسها". ولا بدّ هنا من تعريف للمكان الذي يتقوقع فيه هؤلاء الرجال، يقول: "جدران بيض، لا فسحة لنافذة، المكان خانق، التكرار رهيب يجرّ العقل بسكّين". وهو أيضًا المكان الذي: "يتحكمّون فيه بأجسادنا في أكثر الظروف لا إنسانية، لكن طالما بقيت عقولنا حرّة، فإنّ النصر آتٍ".  

بقي بوبي ساندز، حتّى اللحظات الأخيرة من حياته التي انتهت بعد أكثر من ستّين يومًا من الإضراب عن الطعام والشراب واللباس واستعمال دورة المراحيض، مالكًا لعقله وفكره، مؤمنًا بأنّ مُحاولات تصفيته داخل العنبر "هتش" ستفشل، وسينفرد هو بكتابة أخر فصول حياته كما يشاء لها أن تنتهي. هكذا، سيُغادر الحياة بعد حصوله على أكثر من ثلاثين ألف صوت في الانتخابات النيابية نصّبته عضوًا في مجلس الشعب، مُكّذبًا دعايات الحكومة البريطانية لجهة نفيها وجود قاعدة شعبية للسجناء الجمهوريين، مُتفقِّدًا جدران زنزانته الأربع، ليرى: "ما يشبه الباب في أحد الجدران".

يذكر أن بوبي ساندز وتجربته، رفقة رفاقه في الإضراب الجذري عن ممكنات الحياة المشروطة التي يتيحها السجان، ألهمت تجارب نضالية كثيرة حول العالم خاضها من وقعت عليهم لعنة الاعتقال السياسي في فلسطين المُحتلة التي منها تدرج اصطلاح الإضراب الأيرلندي على أكثر درجات الإضراب في الاعتقال جذرية وحدة، كما في إقليم الباسك ومقاطعة غاليسيا ضمن الحدود الإسبانية، كذلك جنوب أفريقيا وزيمبابوي إضافة لتجارب فردية كثيرة في النصف الشمالي من الأمريكيتين، إضافة لتجربة معتقلي انتفاضة الهنود الحمر في كندا 1991. لتعد حاضرة باستمرار، أي تجربة بوبي ساندز، مدرسة فعالة في الدروس التي قدمتها بقوة ضرب المثل على تكاتف مواجهة القهر من داخل جدران الزنازين وخارجها معًا بعزيمة إنسانية لا يؤرقها الخلاص إلا بمعانيه الجماعية العامة والتامة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النجاة بالكتابة.. هكذا فعل ناظم حكمت وأنتونيو غرامشي في العزل القسري

ضرورات مانيفستو الإضراب الأيرلندي