18-مارس-2020

فوتو مونتاج لـ رائد وحش

في مدينة قرطبة، التابعة لمملكة إشبيلية، فرضت السلطات المحلية حظر تجول عامًا، وأوقفَ والي المدينة مواكب عيد الفصح هناك، وخاطب الناس عبر الإذاعة المحلية بجدية مبالغ فيها، وسط سعال متقطع وصوت متعب قائلًا: "التزموا منازلكم ولا تخرجوا إلا للضرورة، من اليوم أعلن بدء حظر التجوال في المدينة حتى إشعار آخر".

البشر يصنعون الأغاني لفايروس قتل الآلاف، ويلقون النكات ويدفنون موتاهم في الوقت ذاته

وصلت أخبار حظر التجوال إلى الخليفة المعتمد بن عباد في قصره المسمّى بالمُورّق، أو المُبارك، في إشبيلية، وأرسل في طلب والي قرطبة. وصل الرسل إلى الوالي لكنه رفض الذهاب إلى العاصمة، وطلب من الحراس الدخول الى قاعة الاستقبال في مبنى البلدية لشرب القهوة، وهناك أطلعهم على أعراض الوباء وتفاصيله وتقارير انتشاره في الولاية والعالم، وطلب منهم عدم التجمع بأعداد كبيرة، والالتزام بتعليمات منظمة الصحة العالمية، وخاطب قائدهم، وهو فارس من أصول كازاخية يدعى وصال، قائلًا: "أرجوك أيها الفارس الشاب لا أستطيع الذهاب معك إلى الملك عليّ متابعة ما يجري في المدينة، التقارير تصلنا تباعًا من الغرب والشرق، ويجب علينا التنسيق مع الجهات المعنية. أنا مرهق حقًا، وفي المساء سوف تصل عدة قوافل من مراكش وعلينا حجرهم، لا وقت لدي. حياة الناس في خطر، ولا أخفيك أني لست على ما يرام وأخاف أن أكون مصابًا، لذا لن أستطيع الذهاب. الوباء يجتاح العالم يا عزيزي لا تدخلوا مكتبي ولا تلمسوا أشيائي، استريحوا الآن في الطابق الثاني هناك غرف مجهزة للضيوف، وسوف نقوم بتوزيع بعض المعقمات ووسائل الحماية عليكم، وسوف أقوم بكتابة رسالة الى الملك أشرح فيها كل شيء لا تقلق".

اقرأ/ي أيضًا: مارادونا في حمص

غادر وصال وفرقته إلى القصر عائدين محملين بالمعقمات وأوراق التنشيف وملفات تحتوي بعض التقارير الواردة باللغة العربية من منظمة الصحة العالمية، وعندما وصلوا إلى القصر أمر الملك بإعدامهم جميعًا، باستثناء وصال، وأرسل في طلب الوالي مرة أخرى قبل أن يقاطعه وصال متوسلًا: "يا أمير المؤمنين لقد غادرنا قرطبة وسلكنا دربًا شاقًا إلى هنا، الشوارع والخانات فارغة تمامًا، الناس اختفوا والتزموا منازلهم. الوالي لا يستطيع الحضور، المدينة التي تعرفها تغيرت يا مولاي، لقد أرسل الوالي معي لك هذه الرسالة يا مولاي آملًا أن تقرأها فور استلامك لها".

البشر أيضًا ينأون بأنفسهم عن الزمن. إنهم ممتنون لهذا الفايروس الذي خفّض مستوى التلوث، وربما أوقف مؤقتًا الاحتباس الحراري

عاد الملك إلى عرشه وجلس قبل أن يطلب من أحد مستشاريه ششند قراءة ما جاء في نص الرسالة: "أما بعد، العالم يحتضر يا سيدي والبشر غير آبهين بالرغم من حرصهم على الحياة، شيء ما يدفعنا للبقاء أحياء غير الحياة ذاتها، فالحياة أصبحت قاسية وإيقاعها سريع والاقتصادات الوطنية هشة والرأسمالية تعاني، لن أخوض في شرح ما تعرفونه يا مولاي فانتم أدرى بحال العالم من دمشق إلى بلاد الغال، لكن البشر اليوم بالرغم من كل هذا الهلع الذي يحيط بهم إلا أنهم سعداء، ربما أيضًا يا سيدي لأنهم تحرروا من عشرات الأعباء اليومية التي كانت ملقاة على كاهلهم في كل مكان، لقد توقف الآلاف عن العمل في ظروف قاسية لساعات طويلة، مخازن أمازون فارغة من عمالها، مقاهي ستاربكس، محلات كارفور، معامل جنوب آسيا، حقول الرز.. إلخ، الجميع عادوا إلى منازلهم، لديهم الآن شهر ربما، أو أكثر قليلًا، ليقضوا وقتهم خارج الزمن الحقيقي لعجلة رأس المال التي فتكت بأرواحنا، لقد تحرروا من المستقبل والماضي يا مولاي، وأصبح همهم الوحيد هو البقاء أحياء، نعم تلك هي فكرة عيش الإنسان الأول، البقاء حيًّا في عالم الوحوش، وضمن ظرف الخوف الجمعي الذي نعيشه نعود اليوم إلى إنسانيتنا، نتلمس ذواتنا. انظر يا سيدي إلى نموذج العمل الجماعي المنظم، تلك الصور التي تأتينا من آسيا، أو إلى تلك النكت البشرية القادمة من كل مكان من سطح الكوكب، البشر يصنعون الأغاني لفايروس قتل الآلاف، ويلقون النكات ويدفنون موتاهم في الوقت ذاته. الأرض تستريح كما لم تفعل منذ عقود، البشر أيضًا ينأون بأنفسهم عن الزمن. إنهم ممتنون لهذا الفايروس المرعب الذي خفّض مستوى التلوث، وربما أوقف مؤقتًا الاحتباس الحراري، وأنقذ آلاف الأ رواح من الكائنات، يؤمنون بأنهم سوف يجدون له العلاج قريبًا، لكن حتى هذه اللحظة سوف نتذكر جميعًا أننا، وللمرة الأولى، ربما في تاريخنا المعاصر ندرك مصيرنا المشترك. مولاي.. من موقعي هذا أقوم بما علي فعله، لقد فرضت حظر التجوال العام، ومنعت الشعراء والموسيقيين من الوصول إلى البلاط، وعصيت أمرك ولم أحضر مع جنودك إليك، وكل ما أتمناه أن تلتزم بالتعليمات المرفقة في الرسالة، وأن تضع الكمامات أنت ومولاتي اعتماد، وكل أفراد حاشيتك، وأن تنتبه الى أن مخزوننا منها قد نفذ، وأن تغسل يديك يوميًّا من ست إلى سبع مرات، وأن تحجر جواريك في غرفهن، وأن تفض المجالس من حولك لمدة لا تقل عن 15 يومًا، وإلا فإنني لا آمن عليك من الإصابة ووضعك في حجر يشبه ذلك الحجر الذي وضعك فيه يوسف بن تاشفين في أغمات في الصحراء المغربية. يا مولاي توقف عن إرسال الجنود إلى المدينة وارسلْ بدلًا منهم طواقم الإسعاف، وهيئ نفسك لحرب لا حرب فيها، حرب النجاة مع الأمنيات".

اقرأ/ي أيضًا: بهلول الملاجئ

مات الوالي بعدها بعدة أيام، وتبعه كل من واصل وششند، أما المعتمد بن عبّاد فهرب مع اعتماد وحاشيته إلى أغمات، حيث نفاه ابن تاشفين ذات يوم، واستسلم لمصيره وبقي هناك حتى وافته المنية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ملفّ خاص.. فيروس كورونا الجديد

6 تدابير وقائية أساسية ضد فيروس كورونا الجديد